بداية الوصول في شرح كفاية الأصول المجلد 9

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: آل شیخ راضی، محمد طاهر، 1904 - م.

عنوان العقد: کفایه الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: بداية الوصول في شرح كفاية الأصول/ تالیف محمد طاهر آل الشیخ راضی (قدس سره)؛ اشرف علي طبعه و تصحیحة محمد عبدالحکیم الموسوي البکاء.

تفاصيل النشر: تهران: دارالهدی، 14 ق. = 20م. = -13.

مواصفات المظهر: ج.

شابک : دوره 964-497-056-X : ؛ ج. 4 964-497-060-8 : ؛ ج.5، چاپ دوم 964-497-061-6 : ؛ ج. 7، چاپ دوم 964-497-063-2 : ؛ ج.8، چاپ دوم 964-497-064-0 :

يادداشت : الفهرسة على أساس المجلد الرابع، 1426ق. = 2005م. = 1384.

لسان : العربية.

ملحوظة : الكتاب الحالي هو وصف "کفایة الاصول" آخوند الخراساني يكون.

ملحوظة : چاپ دوم.

ملحوظة : ج.5، 7 و 8 (چاپ دوم: 1426ق. = 2005م.= 1384).

موضوع : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایه الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: موسوی بکاء، محمدعبدالحکیم

معرف المضافة: آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/8/آ3ک 70212 1300ی الف

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 2954810

اشارة

المقصد الثامن في تعارض الادلّة و الامارات (1).

فصل التعارض هو تنافي الدليلين أو الادلة بحسب الدلالة و مقام الاثبات على وجه التناقض أو التضاد حقيقة أو عرضا، بأن علم بكذب أحدهما إجمالا مع عدم امتناع اجتماعهما أصلا (2)، و عليه فلا تعارض بينهما

______________________________

المقصد الثامن مبحث التعادل و التراجيح

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

(1) و بهذا المقصد الثامن تنتهي مقاصد الكتاب، لان مبحث الاجتهاد و التقليد من الخاتمة لا من المقاصد. و انما كان مبحث التعارض من المقاصد لان نتيجة هذا المبحث مما تقع في طريق الاستنباط، لوضوح انه بعد تعارض الادلة، فاما ان تكون متكافئة و لازم ذلك عدم حجيّة احدهما بالفعل، و عليه فالمرجع غير هذه الادلة المتعارضة في الحكم الذي تعارضت فيه، و اما ان لا تكون متكافئة فالمرجع هو الراجح منها، و يكون هو الدليل الذي يثبت به الحكم، و مع كون نتيجتها مما تقع في طريق الاستنباط فهي من المسائل الاصولية، و لذلك كانت من المقاصد.

ثم لا يخفى ان عقد البحث في هذا المقصد انما هو لبيان الحال في تعارض الادلة الاجتهادية، و لما كان المراد هو البحث عن تعارض الحجتين من الامارات فلا بد و ان يكون المراد من الامارات هي الامارات المعتبرة، لوضوح كون الامارة غير المعتبرة ليست بحجة. و على هذا فيكون عطف الامارات في المتن على الادلة من عطف التفسير، لان الدليل الاجتهادي هو الامارة المعتبرة، فلا يكون العطف من عطف العام على الخاص.

(2) توضيح الحال يحتاج الى بيان امور: الاول: ان جعل عنوان هذا المبحث تعارض الادلة اولى من جعل العنوان التعادل و التراجيح، لان التعادل هو التكافؤ في الادلة،

ص: 1

.....

______________________________

و التراجيح هو ترجيح بعضها على بعض. و لا ريب في ان الادلة تتعارض و تتنافى اولا، و بعد تنافيها و تعارضها تكون اما متعادلة او بعضها ارجح من الآخر. و من الواضح ان جعل عنوان المبحث هو الجامع لاقسامه اولى من جعل عنوانه نفس اقسامه، او جعل العنوان الموضوع اولى من جعله الحكم او الاثر المرتب عليه. و من البيّن ان الموضوع للتعادل و التراجيح هو التعارض، لما عرفت من انها تتعارض أولا ثم اما تتعادل او يكون بعضها ارجح.

الثاني: ان التعارض هو من باب التفاعل .. و قد يتوهّم بدوا انه لا بد من وقوع المادة فيه لفاعلين، كمثل تشارك زيد و عمرو، و تضارب بكر و خالد. و لكن مراجعة الاستعمالات الصحيحة ينفي ذلك، فان مثل تعافى زيد عن الامر، و تقاعس عمرو عن النهوض، و تساند زيد الى الجدار، و تماثل للشفاء، و تغابى عن الحق، و تمايل في الهواء، و تهادى في مشيته، مما كان الفاعل فيها واحدا لا اثنين كثير جدا، قد ورد في القرآن الكريم ما كان الفاعل فيها واحدا كقوله تعالى: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ 1] و قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى 2] و قوله عزّ من قائل: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ 3].

فظهر مما ذكرنا: انه لا يلزم في باب التفاعل ان تدل النسبة فيه على نسبة المادة لفاعلين، بل لو دلّت على ذلك لكانت الهيئة دالة على نسبتين، و من البديهي ان الهيئة انما تدل على نسبة واحدة لا نسبتين، و انما مدلول هيئة التفاعل هي نسبة واحدة خاصة لها طرفان، فقد يكون الطرفان مشتركين في تلك المادة فيكون لباب التفاعل فاعلان كتضارب زيد و عمرو و تشارك بكر و خالد، و قد يكون الفاعل واحدا

ص: 2

.....

______________________________

و الطرف له دخل في تحقق هذه النسبة للفاعل، كمثل كون الجدار قد كان متساندا اليه و كون الهواء مما كان التمايل فيه.

و ينبغي ان لا يخفى ان ما قلنا بانه لو كان دالا على المشاركة بين اثنين لكان له نسبتان- لا يخلو عن شي ء، فان غايته هو اختصاصه بكون الطرف لا بد و ان يكون مثل الفاعل الاول، و هذا لا يستلزم ان يكون له نسبتان بل له نسبة واحدة، غايته ان الطرف فيها هو لا بد و ان يكون مثل الفاعل الاول.

و مما ذكرنا ظهر ايضا: ان هيئة التفاعل لا تستلزم الدلالة على الاظهار من الفاعل حتى يلزم ان تكون مستندة دائما الى ما له الشعور، فيكون اسنادها الى ما لا شعور له من المجاز اما في الاسناد او في الكلمة، و ذلك لوضوح انا لا نجد في انفسنا لحاظ علاقة في قولنا تمايلت الخشبة في الهواء، بل نرى ان الاسناد في قولنا تمايل زيد في الهواء و تمايلت الخشبة في الهواء اسناد الى ما هو له، و انه على نحو واحد فيهما من غير أيّ فرق اصلا، و ليس قوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ مجازا اصلا. فلا وجه لما ذكر في المقام من كون باب التفاعل يدل على الاظهار المستلزم لاسناده الى خصوص من له الشعور و ان استعماله في غير ما له الشعور كنسبة التعارض الى الادلة لا بد فيه اما من التزام المجازية باحد نحويها او النقل بحسب الاصطلاح، بل هو استعمال جار على طبع وضع المادة لغة.

الفصل الاول: تمهيد حول التعارض

تعريف التعارض

الثالث: شرح الفاظ التعريف للتعارض المذكور في المتن، و هو قوله:

«التعارض هو تنافي الدليلين او الادلة بحسب الدلالة و مقام الاثبات على وجه التناقض او التضاد حقيقة او عرضا» التنافي بين الشيئين هو عدم اجتماعهما في الوجود.

و قد عرّف المشهور التعارض: بتنافي المدلولين، و عرّفه المصنف: بتنافي الدليلين.

و الوجه في عدول المصنف عن تعريف المشهور يتوقف على تمهيد مقدمة، و هي:

ان التنافي المطلق و هو عدم الاجتماع في الوجود متحقق بين المدلولين، لبداهة عدم

ص: 3

.....

______________________________

اجتماع الوجوب و عدم الوجوب- مثلا- لانهما متناقضان بالذات، و عدم اجتماع الوجوب و الحرمة لانهما متضادان بالذات على المعروف، فالتنافي بين المدلولين المتناقضين و المتضادين ذاتي. و التنافي بالذات- ايضا- متحقق بين الدالين بما هما حجتان، لعدم امكان الاجتماع ذاتا بين الحجتين القائمتين على الوجوب و عدم الوجوب، و على الوجوب و الحرمة، لوضوح عدم امكان جعل حجتين فعليتين تدل احداهما على الوجوب و الثانية على عدم الوجوب، او تدل احداهما على الوجوب و الثانية على الحرمة. فالتنافي بالذات كما هو متحقق بين المدلولين المتنافيين ذاتا، كذلك متحقق بالذات بين الحجتين الدالتين على ما لا يمكن اجتماعهما.

و لا ينبغي ان يتوهّم: ان التنافي بين المدلولين أولا و بالذات و بين الدليلين ثانيا و بالعرض .. فانه فاسد، لان معنى كون التنافي بين الدليلين ثانيا و بالعرض هو انه يصح سلب التنافي بينهما حقيقة عنهما لانه من الواسطة في العروض، كقولهم جرى الميزاب فانه يصح سلب الجريان عنه حقيقة، لان الجاري حقيقة هو الماء لا الميزاب، مع انه لا يصح سلب التنافي حقيقة عن الحجتين القائمتين على المتنافيين، لما عرفت من عدم امكان جعل حجتين دالتين على المتنافيين، فالتنافي بالذات كما ينسب على وجه الحقيقة الى المدلولين ينسب- ايضا- على وجه الحقيقة الى الحجتين الدالتين.

نعم التنافي بين المدلولين واسطة في الثبوت للتنافي الحقيقي بين الدليلين، و لازم كونه من الواسطة في الثبوت هو ثبوت التنافي حقيقة للدليلين ... هذا كلّه في التنافي.

و اما التعارض فهو اخص من مطلق التنافي، لانه يصح ان يقال: تعارض الخبران، و لا يصح ان يقال تعارض الحكمان. و لعل السبب في ذلك هو ان التعارض كون الشي ء واقعا في طريق الآخر و مانعا دونه، و حيث ان الدليل هو الموصل للمدلول و الطريق اليه فهو الذي يقع في طريق الدال الآخر و يعترض سبيله. فالتعارض هو خصوص التنافي بين الطريقين، و لذا اذا لم يكن بين الطريقين تناف بان كان لسان احدهما لسان الحكومة على الآخر و المفسّريّة له، يخرجان عن عنوان التعارض

ص: 4

.....

______________________________

المبحوث عنه في المقام مع وجود التنافي حقيقة و لبّا بين المدلولين، فالتعارض هو التنافي الخاص- لا مطلق التنافي- و هو التنافي بين الدليلين، لما عرفت من ان الدليل الحاكم و المحكوم لا تعارض بينهما مع تحقق التنافي بين مدلوليهما لبّا و حقيقة، و لذلك عدل المصنف عن تعريف المشهور بكون التعارض تنافي المدلولين الى تعريفه بانه تنافي الدليلين.

و المراد من الدليلين و الادلة: هو الدليل بما هو دليل قد اعتبر حجة بالجعل الشرعي، و على هذا فيكون قوله: و مقام الاثبات، من عطف التفسير كما مرّت الاشارة الى ذلك في الحاشية المتقدّمة، لوضوح انه لا تعارض بين الدليلين غير المعتبرين و ان كان بينهما تناف، لعدم وقوع كل منهما مانعا و معترضا سبيل الآخر حيث لا يثبت بهما حكم، فليس لهما مقام الاثبات حتى يتمانعا.

قوله: «على وجه التناقض او التضاد حقيقة» كون الدليلين متناقضين حقيقة بان يدل احدهما على وجوب شي ء و الآخر على عدم وجوبه، و كون الدليلين متضادين حقيقة بان يدل احدهما على وجوب الشي ء و الآخر على حرمته مثلا.

قوله: «او عرضا» المراد من قوله عرضا- في قبال الحقيقة- ليس الواسطة في العروض لانه كما سيأتي انه يكون التنافي حقيقيا. ايضا التنافي بين الدليلين بالعرض هو ان يكون متعلق احد الدليلين عير متعلق الآخر، كما لو دلّ احد الدليلين على وجوب الظهر و الآخر على وجوب الجمعة، و كنا قد علمنا من الخارج بكذب احدهما، و لو لعلمنا بانه لا يجب في الظهر فرضان الجمعة و الظهر، فاما ان تجب الجمعة فلا يجب الظهر او يجب الظهر فلا تجب الجمعة ... و مما ذكرنا ظهر: ان وقوع التنافي بينهما لا لتنافيهما في الدلالة، لوضوح عدم التنافي بينهما في الدلالة، لان احدهما قد دلّ على وجوب الظهر و الآخر على وجوب الجمعة، و لا تنافي بين هاتين الدلالتين، الّا انه حيث علمنا بكذب احدهما فنعلم بعدم صدورهما معا، و ان الصادر لا بد و ان يكون احدهما، فمن هذه الجهة التي قد عرضت يقع التنافي بينهما،

ص: 5

.....

______________________________

فلذا كان التنافي بينهما عرضا لا حقيقة: أي عارضا لا أولا و بالذات، و ان كان بعد العلم بذلك يكون التنافي بينهما حقيقيا.

بقي شي ء: و هو ان قوله عرضا هل يرجع الى التناقض و التضاد معا، او يختصّ بخصوص التضاد؟ .. و يظهر من بعض الاعلام المحشين انه يختص بالتضاد و لا يشمل التناقض، نظرا الى ان التناقض هو عدم اجتماع الوجود و العدم، و التضاد هو عدم اجتماع الامرين الوجوديين، فان وردا على محلّ واحد كان التضادّ حقيقيا، و ان لم يردا على محل واحد بل كان عدم اجتماعهما للعلم بان الموجود احدهما كان التضاد عرضيا. فالتناقض لا ينقسم الى حقيقي و عرضي، و التضاد هو المنقسم الى حقيقي و عرضي، و لما كان المفروض في المقام ان التنافي انما حصل للعلم بكذب أحد الدليلين بعد كونهما امرين وجوديين لم يردا على محل واحد، فالتنافي بينهما من التضاد العرضي.

إلّا انه يمكن ان يقال بامكان رجوع قوله عرضا الى التناقض و التضاد معا، و ان التناقض ايضا ينقسم الى حقيقي و عرضي كالتضاد، و ذلك انه بعد ان لم يكن بين الدليلين بذاتهما تناقض و لا تضاد حقيقي لعدم وحدة الموضوع، و انما جاء التنافي بينهما من جهة العلم بعدم اجتماعهما: فتارة نعلم بعدم اجتماعهما فقط، و لازم ذلك ان يحصل لنا في كل واحد منهما بخصوصه احتمال الوجود و العدم، و من هذه الحيثية يكون الحكم الترجيح بينهما او التخيير. و اخرى نعلم زيادة على عدم اجتماعهما حرمة احدهما، بان نعلم ان الواجب هو اما الظهر او الجمعة، و انه لو كان الواجب هو الظهر فالجمعة محرّمة و بالعكس. فان كانت جهة التنافي بينهما هو العلم بعدم اجتماعهما فقط فهذا التنافي مستلزم للتناقض العرضي، و ان كان التنافي من جهة العلم بحرمة احدهما فلا بد و ان يكون هذا التنافي مستلزما للتضاد العرضي، لان كل واحد منهما مما يحتمل كونه هو الواجب او انه هو المحرّم .. و ما اشار اليه من كونهما امرين وجوديين لم يردا على محل واحد فلا بد و ان يكون التنافي بينهما هو

ص: 6

بمجرد تنافي مدلولهما، إذا كان بينهما حكومة رافعة للتعارض

______________________________

التضاد و العرضي .. فالجواب عنه: ان التنافي انما حصل لامر خارج عن الامرين الوجوديين لانه بعد ان كانا مما لم يردا على محل واحد فحال التضاد حال التناقض في كونه ليس من الحقيقي، فالمدار في التنافي هو ما يؤدّي اليه ذلك الامر الخارج، فان ادّى الى عدم الاجتماع و ان الموجود احدهما فقط كان ذلك التنافي من التناقض، لمرجعه الى ان كلا منهما اما واجب او ليس بواجب، و ان كان ما يؤدي اليه ذلك الامر الخارج هو العلم بكون احدهما هو الواجب و الثاني على فرضه يكون محرما فذلك التنافي المستفاد منه هو التنافي بنحو التضاد العرضي.

و قد اشار الى التنافي العرضي- و انه حيث لا يكون بين الدليلين تناف بالذات لا بنحو التناقض بالذات حيث يدل احدهما على الوجوب و الآخر على عدم الوجوب، و لا بنحو التضاد بالذات بان يدل احدهما على الوجوب و الآخر على الحرمة، و ذلك بان لا يكون بينهما تناف اصلا، كما عرفت في المثال من دلالة احد الدليلين على وجوب الظهر و الآخر على وجوب الجمعة، فلمّا لم يردا على موضوع واحد لم يكن بينهما تناف بالذات اصلا، لعدم المانع عقلا من وجوب الظهر و الجمعة معا، و لكن حيث علمنا من الخارج بكذب احدهما و ان الصادر احدهما بنحو الاجمال حدث التنافي بين هذين الدليلين- بقوله: «بان علم بكذب احدهما اجمالا مع» فرض «عدم امتناع اجتماعهما اصلا» لوضوح عدم الامتناع عقلا بين اجتماع الدليلين الذي كان مفاد احدهما وجوب الظهر و مفاد الآخر وجوب الجمعة.

ص: 7

و الخصومة (1)، بأن يكون أحدهما قد سيق ناظرا إلى بيان كمية ما أريد

______________________________

(1) لا يخفى ان هذا التفريع، و هو انه على ما ذكر من كون التعارض تنافي الدليلين دون المدلولين كما عرّفه المشهور، فلا محالة يتفرّع عليه انه فيما كان احد الدليلين حاكما و الآخر محكوما، او كان التوفيق العرفي بينهما يقضي بالتصرّف فيهما الرافع للمعارضة، او كان احدهما واردا على الآخر، او كان احدهما مخصّصا للآخر ..

فان هذه الموارد كلّها خارجة عن مبحث التعارض على تفسير المصنف: من كون التعارض هو تنافي الدليلين، لعدم التنافي بين الدليلين فيما كان احدهما له لسان الحكومة التي معناها كون الحاكم مبيّنا و مفسّرا و شارحا للمحكوم، فلا يكون بينهما تناف لوضوح عدم التنافي بين الدليل المشروح و الدليل الشارح. و مثله في عدم التنافي بين الدليلين فيما كان احدهما واردا و الآخر مورودا، فانه مع ارتفاع موضوع الدليل المورود حقيقة بواسطة الدليل الوارد لا يكون بين الدليلين تناف. و كذلك الحال في مورد التوفيق العرفي بين الدليلين فان العرف اذا كان يرى التصرّف في احدهما او في كليهما متعيّنا لا يكون للدليلين مع تعيين التصرّف تناف بينهما. و كذا العام و الخاص فانه بعد تقديم الخاص على العام في مقام الحجية بما مآله الى عدم حجية العام عند قيام حجة اقوى على خلافه في بعض افراده، فعليه لا يكون بين الدليلين تناف، و هو واضح.

و هذا بخلاف تفسير التعارض على المشهور، فانه اذا كان التعارض هو تنافي المدلولين فان في هذه الموارد كلها التنافي بين المدلولين متحقق، لان كون احدهما في مقام الدليلية غير مناف للآخر في مقام دليليته لا يلازم ارتفاع التنافي بين المدلولين، فان التنافي بين المدلولين باق و ان كان احد الدليلين حاكما و الآخر محكوما.

و لذا قال (قدس سره): «فلا تعارض بينهما» أي بين الدليلين «بمجرد تنافي مدلولهما اذا كان بينهما حكومة» لان الحكومة هي كون الحاكم شارحا و مفسّرا للمحكوم و لا تنافي بين الدليل الشارح و الدليل المشروح، و هذه الحكومة تكون

ص: 8

من الآخر، مقدما كان أو مؤخرا (1)، أو كانا على نحو إذا عرضا على العرف وفق بينهما بالتصرف في خصوص أحدهما، كما هو مطرد في

______________________________

«رافعة للتعارض و الخصومة» بين الدليلين مع بقاء التنافي بين مدلوليهما، لوضوح ان الشارحيّة و المفسّرية انما هي للدليل الدال على كونه شارحا للدليل الآخر لا للمدلول.

فاتضح مما ذكر: ان هذا التفريع هو الثمرة بين تفسير المصنف و تفسير المشهور، فان هذه الموارد بناء على تفسير المصنف للتعارض بانه تنافي الدليلين تخرج هذه الموارد عن مبحث التعارض، و بناء على تفسير المشهور تدخل في مبحث التعارض لبقاء التنافي بين المدلولين في هذه الموارد.

(1) لما فرغ عن خروج الموارد المذكورة عن مبحث التعارض بناء على تفسيره بانه تنافي الدليلين دون المدلولين- تعرض لبيان جملة منها ...

تعريف الحكومة

فاشار أولا الى معنى الحكومة في نظره بقوله: «بان يكون احدهما قد سيق ناظرا الى بيان كمية ما اريد من الآخر مقدّما كان او مؤخّرا» ... و توضيح مراده بامور:

الاول: ان معنى حكومة دليل على دليل آخر هو كون الدليل الحاكم مسوقا لبيان حال الحكم من الدليل المحكوم، و ناظرا الى مقام اثبات حكمه ببيان كمية مقدار الافراد التي يثبت لها الحكم فيه.

فتارة: يكون الحاكم موسّعا لافراد المحكوم، مثل قاعدة الطهارة بالنسبة الى الدليل الدال على شرطية الطهور في الصلاة كقوله عليه السّلام: (لا صلاة الّا بطهور)(1) فانه بناء على كون الظاهر من قوله لا صلاة الّا بطهور كون الشرط هو الطهارة الواقعية، فان قاعدة الطهارة الدالة على كون الشاك في الطهارة واجدا للطهارة تكون مبيّنة للكمية التي اريدت من قوله لا صلاة إلّا بطهور، و انها تشمل الافراد الواقعية

ص: 9


1- 4. ( 1) الوسائل ج 1: 256/ 6 باب 1 من أبواب الوضوء.

.....

______________________________

و المشكوكة. و قد ظهر ان هذه الحكومة موسّعة لافراد الطهور الذي هو شرط للصلاة.

و اخرى: تكون مضيّقة لافراد المحكوم كحكومة قوله: (لا شك لكثير الشك)(1) بالنسبة الى ادلة الشكوك، فان قوله- مثلا- من شك بين الثلاث و الاربع يبني على الاربع قد دلّ على لزوم الاعتناء بكل شك، و لزوم البناء فيه على الاربع، و قوله لا شك لكثير الشك قد دلّ ان الاعتناء بالشك انما هو لغير كثير الشك.

الثاني: ان الحاكم لما كان شارحا لكميّة ما اريد ثبوت الحكم له من المحكوم فلا بد من بقاء الموضوع في مورد الدليل الحاكم، لانه لو كان الموضوع مرتفعا واقعا في مورد الدليل الحاكم لما كان الحاكم شارحا للكمية و المقدار في مقام الاثبات، بل يكون خروج مورد الحاكم في مرحلة الثبوت و الواقع .. و بهذا تمتاز الحكومة عن التخصّص و الورود، فانه في التخصّص و الورود يكون المورد خارجا ثبوتا و واقعا لا في مرحلة الاثبات للحكم فقط.

و تمتاز الحكومة عن التخصيص انه لا شرح في الدليل المخصّص، بل هو رافع لحكم العام لا غير، فان قوله لا تكرم زيدا العالم بالنسبة الى اكرم العلماء لا يدل الّا على رفع وجوب الاكرام بالنسبة الى زيد العالم، و ليس فيه دلالة على ان المدلول في اكرم العلماء هو ما عدا زيدا، بخلاف مثل قوله لا شك لكثير الشك بالنسبة الى ادلة الشكوك، فانه لما كان لسانه لسان رفع الشك كان دالا و شارحا للمدلول في ادلة الشكوك و انه هو ما عدا كثير الشك.

الثالث: ان الشيخ الاعظم بعد ان ذكر الحكومة فرّع بنحو الضابط لها بما حاصله: انه لو لم يكن هناك دليل محكوم لكان الحاكم لغوا، و مرجعه الى انه لا بد في الحكومة من وجود الدليل المحكوم.

ص: 10


1- 5. ( 1) اورد الحديث بالمضمون، راجع الوسائل ج 5: 329/ 1 باب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

مثل الادلة المتكفلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الاولية، مع مثل الادلة النافية للعسر و الحرج و الضرر و الاكراه و الاضطرار،

______________________________

و توضيح الحال: ان الحكومة ان كانت هي الشارحيّة الفعلية فلا بد من تحقّق المحكوم فيها بالفعل، لوضوح ان الشارحيّة الفعلية تستدعي مشروحا بالفعل، و حيث لا مشروح بالفعل لا يعقل تحقّق الشارحيّة بالفعل. و ان كانت الحكومة هي الشارحية بالاقتضاء: بمعنى ان يكون الدليل قابلا لان يكون شارحا و مبيّنا لكمية مقدار الدليل الآخر، و على هذا فلا تستدعي الحكومة تحقق مشروح بالفعل.

و يتفرّع على الاول انه لا بد من تقدّم الدليل المحكوم على الدليل الحاكم، لان الحكومة اذا كانت هي الشارحية بالفعل، و لا بد في كون دليل شارحا بالفعل لدليل آخر من تقدّم المشروح على الشارح.

و يتفرّع على الثاني عدم لزوم تقدّم المحكوم على الحاكم، لان الحكومة بناء عليه هي الشارحية بالاقتضاء، بان يكون الدليل الحاكم قابلا لان يكون مبيّنا لكمية دليل آخر، و لا تستلزم الحكومة بهذا المعنى تقدّم المحكوم، بل حيثما تحقق الدليل الذي يمكن ان يكون الدليل الحاكم شارحا له حينئذ تتحقق الحكومة بالفعل، فلا مانع من ان يكون الدليل الحاكم مقدّما على الدليل المحكوم.

و لما كانت الحكومة بنظر الشيخ (قدس سره) هي الشارحية بالفعل، لذا جعل الضابط لزوم تقدّم المحكوم على الحاكم. و المصنف حيث يرى انه لا يشترط في الحكومة الشارحيّة بالفعل، بل الحاكم هو الدليل الذي يكون قابلا لان يكون مبيّنا لكمية دليل آخر، لذلك صرّح في المتن بانه لا مانع من تقدّم الدليل الحاكم على المحكوم بقوله: «مقدّما كان او مؤخرا».

ص: 11

مما يتكفل لاحكامها بعناوينها الثانوية، حيث يقدم في مثلهما الادلة النافية، و لا تلاحظ النسبة بينهما أصلا (1) و يتفق في غيرهما،

______________________________

(1)

الجمع العرفي

توضيح الحال يتوقف على امور: الاول: ان الجمع العرفي- اصطلاحا- يشمل الحكومة و الورود و التوفيق العرفي.

الثاني: انه قد تقدّم من المصنف في قاعدة الضرر ان الوجه في تقدّمها على الادلة بعناوينها الاولية، هو حمل الادلة بعناوينها الاولية على الحكم الاقتضائي، و قاعدة الضرر على نفي الحكم الفعلي لان لسانها لسان المانع، و ليس الوجه في تقدّمها حكومتها على الادلة الاولية، لانها ليس المستفاد منها كونها مبيّنة للكميّة، بل المستفاد منها كونها من قبيل المانع عمّا تقتضيه الادلة الاولية، سواء كان المستفاد منها رفع الحكم الذي ينشأ منه الضّرر كما يراه الشيخ، أو كان المستفاد منها رفع الحكم بلسان رفع الموضوع كما يراه المصنف. فهي على كل حال المتحصّل منها هو ان الضرر بحكم المانع، فلا مناص من حمل العناوين للادلة الاولية في مورد الضرر على الاقتضاء، فلا يكون تقدّم ادلة الضرر لاجل الحكومة، لان دليل الضرر بعد ان كان بحكم المانع لا يكون في مقام بيان الكميّة للدليل الآخر. و مثله ساير الادلة التي لسانها لسان نفي الحكم للادلة الاولية، مثل دليل الحرج و دليل رفع الاكراه و دليل رفع الاضطرار.

فاتضح مما ذكرنا: ان حمل الادلة بعناوينها الاولية على الاقتضاء و الادلة النافية بعناوينها الثانوية على نفي الحكم في مرحلة الفعلية مطّرد في كل دليل بعنوان ثانوي كان نافيا للحكم بعنوانه الاولي، لان لسان الدليل الثانوي النافي مرجعه الى جعل المانع، و ليس الجمع بينهما من نحو الحكومة. و مثل الجمع بين الادلة الثانوية النافية و الادلة الاولية بالحمل على الاقتضاء و الفعلية هو الجمع بين المتزاحمين، فيما اذا احرز ان احدهما اقوى مناطا، فانه لا بد من حمل المزاحم الاقوى على الفعلية

ص: 12

.....

______________________________

و المزاحم الأضعف على الاقتضاء، غايته ان المزاحم الاقوى يمنع الاضعف و يثبت حكم نفسه، و الادلة النافية تنفي الحكم فقط.

و لا يخفى ايضا ان مورد الحمل على الاقتضاء و الفعلية يكون التصرّف في احد الدليلين و هو الدليل بالعنوان الاولي، فانه حيث كان الظاهر منه الفعلية فبحمله على الاقتضاء يكون التصرف فيه لا غير.

الثالث: ان هذا الجمع بين الادلة الثانوية النافية و الادلة بالعناوين الاولية هو من الجمع الدلالي، و لا يتوقف على ملاحظة النسبة بين الدليلين، بل حيث كان الدليل الثاني النافي بحكم المانع لا بد من حمل الدليل الاولي على الاقتضاء من دون ملاحظة للنسبة بينهما، فلا فرق بين كون النسبة بينهما عموما مطلقا او عموما من وجه.

و من مصاديق الجمع الدلالي ما اذا كان احد الدليلين واردا على الدليل الآخر، فانه مع كون الدليل الوارد رافعا لموضوع الدليل المورود لا تلاحظ النسبة بينهما، بل لا بد من تقديم الدليل الوارد على كل حال. و كون الورود ليس من الحكومة واضح ايضا، لانه لا بقاء للموضوع فيه، بخلاف الحكومة فان الموضوع لا بد من تحققه في الحاكم و المحكوم. و ينبغي ان لا يخفى انه في الورود يكون التصرّف في الدليل المورود فقط، لانه هو الذي يرتفع الحكم فيه بارتفاع موضوعه.

و من مصاديق الجمع الدلالي التوفيق العرفي بين الدليلين، و من موارد التوفيق العرفي ما اذا كان كل واحد من الدليلين نصّا في فرد و ظاهرا بالنسبة الى فرد آخر، فان العرف لا يتوقف في الاخذ بنصّ كلّ منهما و رفع اليد عن ظاهر كلّ منهما من دون ملاحظة النسبة بينهما.

و لا يخفى انه يختلف هذا المورد من التوفيق العرفي عن مورد الحمل على الاقتضاء و عن مورد الورود بان التصرّف فيه في كلا الدليلين، بخلاف مورد الاقتضاء و مورد الورود فان التصرّف في احد الدليلين منهما.

ص: 13

كما لا يخفى (1).

______________________________

و قد ظهر ايضا مما ذكرنا: ان الجمع الدلالي يشمل مورد الحمل على الاقتضاء و الفعلية، كما في الادلة الثانوية النافية و الادلة بعناوينها الاولية و التوفيق العرفي و الورود.

و قد اشار المصنف الى مصاديق الجمع الدلالي بالاشارة أولا الى مورد الحمل على الاقتضاء و الفعلية بقوله: «او كانا على نحو اذا عرضا على العرف وفّق بينهما بالتصرّف في خصوص احدهما» بحمله على الاقتضاء «كما هو مطّرد في مثل الادلة المتكفلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الاولية مع مثل الادلة النافية» مثل الدليل النافي «للعسر و الحرج» و مثل دليل النافي «للضرر» و مثل دليل الرفع الرافع «للاكراه و الاضطرار» و هذه الادلة كلها من الادلة الثانوية فهي «مما يتكفّل لاحكامها بعناوينها الثانوية» لوضوح ان دليل العسر رافع للحكم حيث يكون مورده من العسر و الحرج، فحكم الوضوء الحرجي يرتفع لعنوان الحرج الطارئ لا بعنوان كونه وضوءا، و مثله دليل الضرر و دليل رفع الاكراه و الاضطرار فانها كلّها عناوين ثانوية طارئة على الموضوعات بعناوينها الاولية ككونها وضوءا او أكلا أو شربا.

و اشار الى ان تقديم الادلة الثانوية النافية و حمل خصوص الادلة الاولية على الاقتضاء من دون ملاحظة للنسبة بينهما بقوله: «حيث يقدّم في مثلها» أي في مثل الدليل النافي للعسر و الضرر و مثل الدليل النافي للاكراه و الاضطرار، فانه لا بد من تقديم «الادلة النافية و لا تلاحظ النسبة بينهما اصلا» أي لا تلاحظ النسبة بين الادلة الاولية و الادلة الثانوية النافية، بل تتقدّم الادلة النافية على كلّ حال

(1) أي ان حمل احد الدليلين المتنافيين مدلولا على الاقتضاء و الآخر على الفعلية لا يختصّ بالادلة الثانوية النافية و الادلة بعناوينها الاولية، بل يتفق في غيرهما- ايضا- لزوم حمل احد الدليلين على الاقتضاء و الآخر على الفعلية من دون ملاحظة للنسبة

ص: 14

أو بالتصرف فيهما، فيكون مجموعهما قرينة على التصرف فيهما (1)، أو في أحدهما المعين و لو كان الآخر أظهر (2)، و لذلك تقدم الامارات المعتبرة على الاصول الشرعية، فإنه لا يكاد يتحيّر أهل العرف في تقديمها عليها بعد ملاحظتهما، حيث لا يلزم منه محذور تخصيص أصلا، بخلاف

______________________________

بينهما، كما في مثل الدليلين المتزاحمين فانه لا بد من حمل الاقوى على الفعلية و الاضعف على الاقتضاء من غير ملاحظة للنسبة فيهما.

(1) قد عرفت ان من موارد الجمع الدلالي التوفيق العرفي بين الدليلين، كما فيما لو كان كلّ واحد من الدليلين نصّا في مقام و ظاهرا بالنسبة الى مقام آخر، فان العرف لا يتوقف في الجمع بينهما بالاخذ بنص كل واحد منهما و رفع اليد عن الظاهر في كل منهما، و الى هذا اشار بقوله: «او بالتصرف فيهما» معا «فيكون مجموعهما قرينة على التصرّف فيهما» فان النصيّة في كلّ منهما قرينة على التصرّف في الآخر، برفع اليد عن الظاهر في كل منهما.

(2) قد مرّ ايضا ان من موارد الجمع الدلالي ما اذا كان احد الدليلين واردا على دليل آخر، فان العرف لا يتوقف في رفع اليد عن الدليل المورود لارتفاع موضوعه بالدليل الوارد عليه من دون ملاحظة للنسبة بينهما، و من الواضح ايضا ان في مورد الورود يكون التصرّف في خصوص احد الدليلين و هو الدليل المورود دون الدليل الوارد. و الى هذا اشار بقوله: «او في احدهما» أي أو يكون الجمع الدلالي بينهما بالتصرّف في خصوص احدهما «المعيّن و لو كان» الدليل «الآخر اظهر» أي انه لا بد في كون الدليل الوارد اظهر من المورود في الدلالة على رفع موضوع الدليل المورود بالدليل الوارد.

ص: 15

العكس فإنه يلزم منه محذور التخصيص بلا وجه أو بوجه دائر، كما أشرنا إليه في أواخر الاستصحاب (1).

و ليس وجه تقديمها حكومتها على أدلتها لعدم كونها ناظرة إلى أدلتها بوجه، و تعرّضها لبيان حكم موردها لا يوجب كونها ناظرة إلى أدلتها و شارحة لها، و إلّا كانت أدلتها أيضا دالة- و لو بالالتزام- على أن حكم مورد الاجتماع فعلا هو مقتضى الاصل لا الامارة، و هو مستلزم عقلا نفي ما هو قضية الامارة، بل ليس مقتضى حجيتها إلا نفي ما قضيته عقلا من دون دلالة عليه لفظا، ضرورة أن نفس الامارة لا دلالة له إلا على الحكم الواقعي، و قضية حجيتها ليست إلّا لزوم العمل على وفقها شرعا المنافي عقلا للزوم العمل على خلافه و هو قضية الاصل (2)، هذا

______________________________

(1)

تقدّم الامارات على الاصول

لا يخفى ان في هذا التفريع دلالة واضحة على ان مراده من قوله: «او في احدهما المعين الى آخره» هو الورود لما مرّ منه: من ان تقدّم الامارات على الاصول انما هو لورودها عليها، كما تقدّم بيانه مفصّلا في المقام الثاني من تتمّة الاستصحاب، و ان كان قوله: «لا يكاد يتحيّر اهل العرف» ربما يوهم ان تقدّم الامارات على الاصول من التوفيق العرفي، الّا ان في تصريحه سابقا من ان تقديم الامارات للورود، و تصريحه ايضا في المقام بان وجه تقديم الامارات انما هو لانه لا يلزم في تقديمها محذور التخصيص بلا مخصّص، بخلاف تقديم الاصول عليها فان لازمه اما لزوم محذور التخصيص بلا مخصّص او بوجه دائر، كما تقدّم في ذلك المقام مشروحا مفصّلا، و اليه اشار بقوله: «كما اشرنا اليه في اواخر الاستصحاب».

(2) قد تقدّم فيما سبق ما ملخصه: ان وجه تقديم الامارة على الاستصحاب هو ورودها عليه، لان موضوع الاستصحاب متقوّم بكون الاخذ بما يخالف اليقين السابق من نقض اليقين بالشك، و الاخذ بالامارة القائمة على خلاف اليقين السابق ليس من نقض اليقين بالشك، بل من نقض اليقين بالحجة. و اما تقديم الامارة على

ص: 16

.....

______________________________

ساير الاصول غير الاستصحاب فواضح، لان الاستصحاب في نظر المصنف وارد على غيره من الاصول، فما كان له الورود على الاستصحاب يكون واردا على غيره من الاصول بطريق اولى. و قد تقدّم هناك وجه تقريب ورود الاستصحاب على غيره من الاصول .. و ملخصه: ان الموضوع في الاصول النقلية غير الاستصحاب هو الشك في الحكم من كل جهة، و حيث كان الحكم في الاستصحاب مبيّنا بعنوان نقض اليقين بالشك فمع جريان الاستصحاب يرتفع موضوع الاصول، لان الحكم لا يكون مشكوكا حينئذ من كل جهة، بل يكون مبيّنا بعنوان كونه نقض اليقين بالشك. و اما تقديم الاستصحاب على الاصل العقلي فلكون موضوعه منوطا بعدم البيان و الاستصحاب بيان، فبجريان الاستصحاب يرتفع اللابيان الذي هو موضوع الاصل العقلي.

و مما ذكرنا يتضح وجه الاولويّة في ورود الامارة على ساير الاصول غير الاستصحاب، لان ورود الاستصحاب عليها حيث كان الحكم معلوما بعنوان كونه نقضا لليقين بالشك، فورود الامارة عليها يكون بطريق اولى، لان لسانها كون مؤدّاها هو الحكم بعنوان انه هو الواقع. و اما كونها بيانا يرتفع بها موضوع اللابيان في الاصل العقلي فواضح.

فظهر مما ذكرنا: ان الوجه في تقديم الامارة على الاصول هو ورودها عليها عند المصنف. و قد ذهب الشيخ الاجل في رسائله ان وجه التقديم للامارة على الاصول هو الحكومة. و لما لم يكن التقديم بعنوان الحكومة مرضيا عند المصنف تعرّض للاشارة الى وجه الحكومة و ردّه.

و المتحصّل من مجموع عبارة المصنف في تقريب الحكومة هو: انه لا يشترط في الحكومة ان يكون لسان الدليل الحاكم بمنزلة اعني، بل يكفي في كون الدليل حاكما على دليل آخر هو ان يكون للدليل الحاكم خصوصية اما من جهة دلالته المطابقية او دلالته الالتزامية تكون نافية للدليل الآخر، و لا تكون للدليل المحكوم مثل تلك

ص: 17

.....

______________________________

الخصوصية، و حينئذ يكون الدليل الحاكم نافيا للدليل المحكوم و لا يكون المحكوم نافيا له.

و توضيح ذلك: ان الامارة حيث كان لسانها كون مؤدّاها هو الحكم واقعا فهي تدلّ بالمطابقة على كون مؤدّاها هو الحكم الواقعي، و دليل اعتبارها يدلّ بالالتزام على الغاء احتمال خلاف ما قامت عليه الامارة، فمثلا اذا قامت الامارة على حرمة شي ء فالامارة القائمة على ذلك تدلّ بالمطابقة على ان هذه الحرمة هي الحكم الواقعي، و دليل اعتبارها و هو صدّق العادل يدلّ بالالتزام على الغاء احتمال كون حكم ما قامت عليه الامارة هو الحلية واقعا، فاحتمال الخلاف في مورد قيام الامارة هو احتمال الخلاف واقعا، لان الامارة حيث كان لسانها ان مؤداها هو الحكم واقعا، فاحتمال الخلاف في مؤدّاها لا بد و ان يكون هو احتمال ان يكون الحكم الواقعي هو غير ما قامت عليه الامارة، و دليل اعتبار الامارة يدلّ على الغاء هذا الاحتمال بالالتزام، لان الدلالة المطابقية لصدّق العادل هي لزوم تصديق العادل، و لزوم التصديق يدلّ بالالتزام على نفي احتمال الخلاف. هذا مدلول الامارة.

و اما الاصل كمثل قوله كل شي ء لك حلال، فمدلوله المطابقي هو الحليّة الظاهريّة للمشكوك، و دليل اعتبار الاصل الدال على الاخذ بهذا الاصل- و هي قاعدة الحلّ مثلا- يدل بالالتزام على الغاء احتمال الخلاف في مؤدّاه، و حيث كان مؤدّاه هو الحليّة الظاهرية، فاحتمال الخلاف فيه هو احتمال ان لا يكون الحكم الظاهري هو الحلية الظاهرية بل غيرها، اما عدم هذه الحلية بنحو الاطلاق او كون الحكم الظاهري هو الحرمة الظاهرية لا الحلية. فدليل الغاء احتمال الخلاف في الامارة يدل على ان احتمال غير ما قامت عليه الامارة يلزم الغاؤه، فاذا قامت الامارة على ان العصير العنبي المغلي حرام، فدليل الغاء احتمال الخلاف فيها يدلّ على ان احتمال ان يكون للعصير العنبي المغلي حكم غير الحرمة يجب الغاؤه، فهو يدل على لزوم الغاء الحلية التي دلّت عليها قاعدة الحلّ، لوضوح انه اذا دلّ دليل

ص: 18

.....

______________________________

اعتبار الامارة على الغاء احتمال كل حكم واقعي للعصير المغلي عدا الحرمة التي قامت عليها الامارة، فهو يدل على ان العصير العنبي لا شك في حكمه الواقعي، و من الواضح كون الشك في الحكم الواقعي هو الموضوع لقاعدة الحلّ، فدليل اعتبار الامارة يدلّ بالالتزام على رفع الموضوع في القاعدة.

و اما دليل اعتبار القاعدة فهو و ان دلّ على لزوم الغاء احتمال الخلاف في موردها، الّا انه قد عرفت ان احتمال الخلاف في موردها هو احتمال خلاف الحكم الظاهري، و لا دلالة له على نفي كل حكم في مورد القاعدة حتى الحكم الواقعي.

فدليل الاعتبار في الامارة يدلّ بالالتزام على خصوصية تنفي الاصل، لدلالته على الغاء كل احتمال عدا مؤدّى الامارة، بخلاف دليل الاصل فانه لا دلالة فيه على خصوصية تنفي الامارة، فلذلك كانت الامارة حاكمة على الاصول، لما ذكرنا في انه لا يلزم في الدليل الحاكم ان يكون بمعنى اعني او ما يساوقه، بل يكفي في حكومة الدليل الحاكم ان يكون دالّا و لو بالالتزام على خصوصية تنفي الدليل المحكوم، و لا يكون للمحكوم خصوصية دالة على نفي الحاكم .. هذا لعلّه أوجه الوجوه في تقريب حكومة الامارات على الاصول من ناحية الغاء احتمال الخلاف.

و الجواب عنه: ان في الامارة شيئين: نفس الامارة الدالة على الحكم، و دليل اعتبارها و هو صدّق العادل. و لا دلالة لاي واحد منهما على الغاء احتمال الخلاف لا بالمطابقة و لا بالالتزام، اما نفس الامارة كخبر زرارة الدال على حرمة العصير العنبي المغلي مثلا، فانه لا دلالة له الّا الدلالة المطابقية على كون حكم العصير المغلي هو الحرمة واقعا، و ليس له دلالة التزامية على الغاء احتمال الخلاف، فلا تعرّض له الّا لبيان حكم مورده و هو حرمة العصير. و لو كان نفس بيان الامارة لحكم موردها ناظرا و شارحا لادلة الاصول بالالتزام، بدعوى: ان لازم دلالتها على ان الحكم هو الحكم الذي ادّت له رفع كل حكم غير الحكم الذي أدّت اليه، و منه الحكم الذي ادّت اليه الاصول- لكان الاصل ايضا شارحا و ناظرا الى الامارة، فانه حيث يدل

ص: 19

.....

______________________________

على الحكم في مورده فهو دالّ ايضا بالالتزام على انه لا حكم لمورده الّا الحكم الذي دلّ عليه الاصل.

و الحاصل: ان تعرّض نفس الدليل لحكم مورده و بيانه لا دلالة له بالالتزام على الغاء احتمال الخلاف، و لو كان نفس التعرّض لبيان الحكم دالّا بالالتزام لكان ذلك من الطرفين، فلا تختصّ الامارة بخصوصية تنفي الاصل، و لو كانت تلك الخصوصية مستفادة من نفس تعرّض الامارة لبيان حكم المورد لكانت مستفادة ايضا من نفس تعرّض الاصل لبيان حكم مورده.

و المصنف بعد ان نفى وجه تقديم الامارة على الاصول للحكومة حيث لا نظر لها و لا شرح لادلة الاصول بقوله: «و ليس وجه تقديمها حكومتها» أي ليس وجه تقديم الامارة هو حكومتها «على ادلتها» أي على ادلة الاصول «لعدم كونها ناظرة الى ادلتها بوجه» أي لعدم كون الامارة ناظرة الى ادلة الاصول بوجه من الوجوه. و حيث انه ليس في الامارة الا شيئان: نفس الامارة، و دليل اعتبارها- تعرّض أولا لبيان ان نفس الامارة لا دلالة لها على النظر و الشرح لادلة الاصول، لعدم دلالتها على الغاء احتمال الخلاف، لان دلالتها المطابقية ليست هي الّا بيان حكم موردها بقوله: «و تعرّضها لبيان حكم موردها» التي هي دلالتها المطابقية «لا يوجب كونها ناظرة» بهذه الدلالة «الى ادلتها» أي الى ادلة الاصول «و شارحة لها». و اشار الى ان نفس تعرّضها لبيان حكم موردها لو كان دالا و لو بالالتزام العقلي على نفي ادلة الاصول، لكانت ادلة الاصول- ايضا- دالة على مثل ذلك لتعرّضها ايضا لبيان حكم موردها بقوله: «و الّا كانت ادلتها» أي ادلة الاصول «ايضا دالة و لو بالالتزام على» نفي الامارة و «ان حكم مورد الاجتماع فعلا» و هو العصير العنبي المغلي الذي هو مورد الامارة الدالة على حرمته، و مورد الاصل الدال على حليّته يدل الاصل لتعرضه لبيان الحكم فيه على نفي الامارة ايضا، فنفس التعرّض لبيان حكم المورد في الامارة اذا كان نافيا للاصل بالالتزام العقلي،

ص: 20

.....

______________________________

فان نفس تعرض الاصل لبيان الحكم في مورده يكون نافيا- ايضا- بالالتزام العقلي للامارة.

و الحاصل: ان الاصل في مورد الاجتماع- ايضا- يدل بالالتزام العقلي على ان حكم مورده فعلا «هو مقتضى الاصل لا الامارة».

و بالجملة: انه اذا كان نفس التعرض لبيان حكم المورد هو النافي لغيره فحال الاصل في ذلك حال الامارة، فكما ان الامارة مستلزمة عقلا لنفي الاصل فالاصل «هو مستلزم عقلا» ايضا «نفي ما هو قضية الامارة». هذا كله بالنسبة الى نفس الامارة، و انها لا دلالة لها بالمطابقة على نفي احتمال الخلاف، و استلزامها عقلا لنفي الحكم الذي هو غير حكمها موجود في الاصل ايضا، فانه مستلزم عقلا لنفي الحكم غير الحكم الذي قام عليه. و اما دليل الاعتبار في الامارة و هو صدق العادل، فان كان المستفاد منه جعل الحكم المماثل على طبق ما أدّت اليه الامارة فحاله حال النفس الامارة، حيث لا دلالة له على هذا المبنى الا الدلالة على ان ما قامت عليه الامارة هو الحكم، و لا دلالة له على هذا على الغاء احتمال الخلاف، لا على الغاء الحكم المحتمل، و لا على الغاء حكم الاحتمال: أي ان صدق العادل اذا كان المراد منه جعل الحكم المماثل فلا دلالة لفظية له على غير ذلك، فلا يدل بالدلالة اللفظية لا المطابقية و لا الدلالة اللفظية الالتزامية على الغاء الحكم المحتمل واقعا غير الحكم المماثل، و لا على الغاء حكم الاحتمال الذي هو مورد الاصل، فان مورد الاصل مقام حكم الاحتمال لان مورده في مقام الشك و الاحتمال.

و الحاصل: ان حال صدق العادل حال الامارة ليس له إلّا التعرض لجعل الحكم المماثل. و دعوى نفيه عقلا لحكم غيره بنفس تعرضه لبيان الحكم المماثل كما مر بيانه في نفس الامارة .. يجري فيه- ايضا- ما ذكرناه من كون الاصل- ايضا- ينفي عقلا غيره كما عرفت.

ص: 21

.....

______________________________

لا يقال: ان صدق العادل يدل على لزوم التصديق بما جاء به العادل، و معنى التصديق به هو اعتقاد ان ما جاء به هو الواقع، و الاعتقاد بانه هو الواقع ينفي الحكم المحتمل الذي هو غير ما قامت عليه الامارة، و ينفي حكم الاحتمال لانه مع الاعتقاد بانه هو الواقع لا مجال للاحتمال حتى يكون له حكم و يجي ء مورد الاصل.

فانه يقال أولا: انه ليس المراد من تصديق العادل هو تصديقه جنانا، لان التصديق الجناني انما يحصل باسبابه، و ليس خبر العادل منها لانه من الظنيات، فلا يكون المراد من الامر بتصديق العادل هو التصديق الجناني، بل المراد من الامر بتصديقه هو التصديق العملي بترتيب الاثر على ما يقوله المخبر العادل عملا، و ليس هناك اعتقاد و قطع بالواقع حتى يكون نافيا لغير ما قامت عليه الامارة.

و ثانيا: انه سلمنا ان المراد من التصديق هو التصديق الجناني، إلّا انه لا بد و ان يكون بنحو الكناية عن العمل، و نتيجة الكناية هو طلب المكنى عنه دون نفس ما يدل عليه المكنى به.

فاتضح: انه لا دلالة لفظية لا بالمطابقة و لا بالالتزام لدليل الاعتبار و هو صدق العادل على الغاء احتمال الخلاف ..

و ثالثا: ان الكلام مبني على ان المستفاد من دليل الاعتبار هو جعل الحكم المماثل على طبق ما أدت اليه الامارة بعنوان تصديق العادل، بان يكون صدق العادل واسطة في جعل الحكم المماثل بعنوان انه تصديق العادل، كمن اراد ان يأمر عمرا باكرام زيد فأمره بعنوان اكرم جارك او صديقك، فلا يكون دالا على غير جعل الحكم المماثل، و يكون حال دليل الاعتبار حال نفس الامارة من دون فرق، الا كون الامارة دالة على نفس الحكم بعنوانه الخاص من الحرمة و الوجوب، و دليل الاعتبار دالا على جعله بعنوان انه تصديق المخبر العادل. فلا دلالة لصدق العادل لا بالمطابقة و لا بالالتزام على الغاء احتمال الخلاف، لا بالنسبة الى الحكم المحتمل،

ص: 22

مع احتمال أن يقال: إنه ليس قضية الحجية شرعا إلا لزوم العمل على وفق الحجة عقلا و تنجز الواقع مع المصادفة، و عدم تنجزه في صورة المخالفة (1). و كيف كان ليس مفاد دليل الاعتبار هو وجوب الغاء احتمال

______________________________

و لا بالنسبة الى حكم الاحتمال. هذا فيما اذا كان المستفاد من دليل الاعتبار هو جعل الحكم المماثل.

فاتضح: ان المستفاد من دليل الاعتبار هو جعل الحكم المماثل، فهو لا ينفي غيره الا بالاستلزام العقلي كما مر بيانه. و الى هذا اشار بقوله: «بل ليس مقتضى حجيتها» أي ليس مقتضى حجية الامارة بدليل اعتبارها «الا نفي ما قضيته عقلا» بنحو الاستلزام العقلي «من دون دلالة عليه لفظا». ثم اشار الى ما تدل عليه الامارة و دليل الاعتبار معا بقوله: «ضرورة ان نفس الامارة لا دلالة له الا على» ان مؤداها هو «الحكم الواقعي و قضية حجيتها» المستفادة من دليل الاعتبار «ليست» هي «الا لزوم العمل على وفقها شرعا» بجعل الحكم المماثل، فالمستفاد منهما معا هو الحكم «المنافي عقلا للزوم العمل على خلافه» و هو انما ينفي الخلاف بنحو الاستلزام العقلي، بمعنى ان لازم كون العصير العنبي حكمه هو الحرمة- مثلا- يستلزم عقلا نفي غيره من الاحكام للعصير، و قد عرفت ان النفي بهذا النحو من الاستلزام العقلي موجود في الاصل ايضا، و اليه اشار بقوله: «و هو قضية الاصل».

(1) ينبغي ان لا يخفى ان هذا يدل على ان كلامه المتقدم مبني على كون المستفاد من دليل الاعتبار هو جعل الحكم المماثل. و بعد ما فرغ من عدم دلالة دليل الاعتبار- بناء على جعل الحكم- على نفي احتمال الخلاف إلّا بنحو الاستلزام العقلي الموجود مثله في الاصل- تعرض الى انه بناء على ان المستفاد من دليل الاعتبار هو جعل الحجية، فلا دلالة ايضا على الغاء احتمال الخلاف، لانه لو كان المستفاد من دليل صدق العادل هو جعل الحجية لخبر العادل: بمعنى التنجيز للواقع لو اصاب

ص: 23

الخلاف تعبدا، كي يختلف الحال و يكون مفاده في الامارة نفي حكم الاصل، حيث أنه حكم الاحتمال بخلاف مفاده فيه، لاجل أن الحكم

______________________________

و العذر لو خالف، من دون دلالة له على جعل الحكم المماثل على طبق مؤدى خبر العادل، فمن الواضح ايضا انه لا دلالة لما دل على ذلك- و هو كون خبر العادل منجزا لو اصاب و معذرا لو خالف- على الغاء احتمال الخلاف لا بالدلالة المطابقية و لا بالدلالة الالتزامية اللفظية، فان كون خبر العادل مما ينجز لو اصاب و يعذر لو خالف لا دلالة له بالمطابقة و لا بالتزام على الغاء احتمال الخلاف، بل بناء على ان المستفاد من دليل الاعتبار هو جعل الحجية لا جعل الحكم المماثل، لا يكون دليل الاعتبار دالا على جعل حكم شرعا على طبق مؤدى الامارة حتى يكون ذلك الحكم نافيا عقلا لغيره. و لذا قال (قدس سره): «هذا» أي ان ما قلناه مبني على ان دليل الاعتبار يدل على جعل الحكم على وفق ما قامت عليه الامارة. و اما «مع احتمال ان يقال انه ليس قضية الحجية» لخبر العادل «شرعا الا لزوم العمل» على وفقه كما يلزم العمل «على وفق الحجة عقلا و» انه انما يدل على «تنجز الواقع مع المصادفة و عدم تنجزه في صورة المخالفة» فانه على هذا لا يكون دليل الاعتبار دالا على جعل حكم، بل لا يكون دالا الا على جعل نفس الحجية.

و لا يخفى انه قد تقدم من المصنف في اول حجية الظن ان مختاره في دليل الاعتبار هذا المعنى لا جعل الحكم المماثل.

و انما ذكره هنا بنحو الاحتمال مما شاة مع الشيخ الاعظم حيث انه لا يقول بجعل الحجية، بل هي عنده منتزعة عن جعل التكليف. فذكر أولا عدم دلالة دليل الاعتبار على الغاء احتمال الخلاف بناء على انه يدل على جعل الحكم، ثم اشار الى انه لا دلالة له ايضا بنحو أوضح- بناء على ان المستفاد منه هو جعل الحجية- حيث انه بناء عليه لا حكم حتى يكون بوجوده نافيا لغيره عقلا.

ص: 24

الواقعي ليس حكم احتمال خلافه، كيف؟ و هو حكم الشك فيه و احتماله، فافهم و تأمل جيدا.

فانقدح بذلك أنه لا تكاد ترتفع غائلة المطاردة و المعارضة بين الاصل و الامارة، إلا بما أشرنا سابقا و آنفا، فلا تغفل (1)، هذا و لا تعارض أيضا

______________________________

(1) حاصله: انه لا يستفاد من دليل اعتبار الامارة الدلالة على وجوب الغاء احتمال الخلاف تعبدا، لا بالدلالة المطابقية و لا بالدلالة الالتزامية اللفظية. نعم لو دل على ذلك لكان دالا على خصوصية تنفي مقتضى الاصل، بخلافه في الاصل لما مر بيانه: من ان دليل الاعتبار لو كان دالا على الغاء احتمال الخلاف، لكان مقتضاه في الامارة غير مقتضاه في الاصل، فان مقتضاه في الامارة هو الغاء احتمال غير ما قامت عليه الامارة، و في مورد قيام الامارة حيث انه هناك احتمالان: احتمال كون الحكم الواقعي غير ما قامت عليه الامارة، و احتمال حكم الشك في ذلك المورد فانه ايضا غير ما قامت عليه الامارة، فإلغاء احتمال الخلاف في الامارة يشمل كلا الامرين.

و اما مقتضى دليل الاعتبار في الاصل فهو لا يدل على اكثر من الغاء احتمال كون حكم الاحتمال في مورده هو غيره، و لا يدل على الغاء احتمال الخلاف مطلقا حتى الغاء احتمال الحكم الواقعي، لان المستفاد من دليل اعتبار الاصل هو العمل على طبق الاصل في مقام الشك.

و بعبارة اخرى: ان ما يقتضيه اصل الاباحة هو كون حكم الواقعة المشكوكة هو الاباحة الظاهرية لا الحرمة الظاهرية، و اما كون حكمها الواقعي هو الحرمة واقعا فدليل الاعتبار في الاصل لا ينفي هذا الاحتمال، بل دليل الاعتبار في الاصل يقول اعمل على طبق هذا الاصل و الغ احتمال غيره من احتمال حكم الشك، و لا يقول الغ احتمال الحكم الواقعي، بل لا يعقل ان يدل على الغاء احتمال الحكم الواقعي، لان موضوع الاصل هو احتمال الحكم الواقعي، فكيف يدل دليل اعتباره على الغاء احتمال الحكم الواقعي، و لو دل على الغائه للزم دلالته على الغاء نفس حكم

ص: 25

إذا كان أحدهما قرينة على التصرف في الآخر، كما في الظاهر مع النص أو الاظهر، مثل العام و الخاص و المطلق و المقيد، أو مثلهما مما كان

______________________________

الاصل، فيلزم من دليل اعتباره عدم اعتباره، لان موضوع دليل اعتباره متقوم بالشك في الحكم الواقعي، فلو دل على الغاء الحكم الواقعي لدل على الغاء موضوع دليل اعتباره. و لذا قال (قدس سره): «و كيف كان ليس مفاد دليل الاعتبار هو وجوب الغاء احتمال الخلاف تعبدا كي يختلف الحال» في ما يقتضيه دليل الاعتبار «و يكون مفاده في الامارة نفي حكم الاصل» لدلالته في الامارة على الغاء احتمال الخلاف سواء كان هو الحكم المحتمل او كان حكم الاحتمال و «حيث انه» في الاصل هو «حكم الاحتمال» فيدل دليل الاعتبار في الامارة على نفيه «بخلاف مفاده» أي بخلاف مفاد دليل الاعتبار «فيه» أي في الاصل فانه لا ينفي الامارة «لاجل ان» الامارة لسانها ان مؤداها هو «الحكم الواقعي» و دليل الاعتبار في الاصل يدل على الغاء الحكم الظاهري غير الحكم الذي ادى اليه، و لا يدل على الغاء احتمال الحكم الواقعي لان الحكم الواقعي «ليس» هو «حكم احتمال خلافه» أي خلاف الحكم الظاهري، و «كيف» يدل على الغاء احتمال الحكم الواقعي «و» الحال ان مفاد الاصل «هو حكم الشك فيه» أي في الحكم الواقعي «و» في مورد «احتماله» أي ان الموضوع في الاصل هو الشك في الحكم الواقعي و احتماله، فلا يعقل ان يدل دليل اعتبار حكم لموضوع على ارتفاع ما هو الموضوع لذلك الحكم.

قوله (قدس سره): «سابقا الخ» أي ان المطاردة و المنافاة بين المدلولين في الامارة و الاصل لا ترتفع، إلّا بما ذكره سابقا في المقام الثاني من آخر مبحث الاستصحاب، و بما ذكره آنفا في هذا المبحث بقوله: «و لذلك تقدم الامارات المعتبرة على الاصول الشرعية» و هو ورود الامارات على الاصول كما مر بيانه.

ص: 26

أحدهما نصا أو أظهر، حيث أن بناء العرف على كون النص أو الاظهر قرينة على التصرف في الآخر.

و بالجملة: الادلة في هذه الصور و إن كانت متنافية بحسب مدلولاتها، إلا أنها غير متعارضة، لعدم تنافيها في الدلالة و في مقام الاثبات، بحيث تبقى ابناء المحاورة متحيرة، بل بملاحظة المجموع أو خصوص بعضها يتصرف في الجميع أو في البعض عرفا، بما ترتفع به المنافاة التي تكون في البين (1)، و لا فرق فيها بين أن يكون السند فيها قطعيا أو ظنيا أو مختلفا،

______________________________

(1)

حمل الظاهر على النص أو الاظهر

توضيحه: ان التعارض كما مر بيانه على رأي المصنف ليس هو تنافي المدلولين، بل هو تنافي الدليلين في مقام الحجيّة الفعلية: أي تنافيهما في مقام الاثبات و التأثير لا في مقام الثبوت و الاقتضاء. فعلى هذا لا تنافي بينهما فيما اذا كان احدهما قرينة على التصرّف في الآخر، لان ما كان هو القرينة على التصرّف في الآخر فالتأثير الفعلي له دون الآخر الذي يتعيّن التصرّف فيه، كما في مثل العام و الخاص و المطلق و المقيد، فان العام و المطلق من قبيل الظاهر، و الخاص و المقيّد من قبيل النص او الاظهر، و لا ريب ان النصّ و الاظهر قرينة على التصرّف في الظاهر. ففي مقام الفعلية و التأثير لا حجيّة فعليّة للظاهر في قبال النصّ أو الاظهر، فلا تنافي بينهما في مقام الفعلية و التأثير، فليسا هما من المتعارضين على هذا. و اما كون النص و الاظهر قرينة على التصرّف في الظاهر فلان بناء العرف في مقام اجتماعهما على ذلك.

و الحاصل: ان المتعارضين هما الدليلان المتنافيان في مقام الفعلية و التأثير، بحيث يتحيّر ابناء المحاورة في الجمع بينهما في مقام اجتماعهما، و حيث ان بناء المحاورة في مقام اجتماع الظاهر مع النص او الاظهر لا تحيّر عندهم فيما هو المؤثر بالفعل و ما هو الحجة فعلا، و ان المؤثّر بالفعل و الحجة فعلا عندهم هو النصّ او الاظهر، فلا تنافي عند ابناء المحاورة في الحجّة الفعلية بين العام و الخاص و المطلق و المقيّد، لان الخاصّ و المقيّد عند ابناء المحاورة بمنزلة النصّ و الاظهر فهو الحجة الفعلية عندهم، و الذي

ص: 27

.....

______________________________

يتعيّن التصرّف فيه عند أبناء المحاورة برفع اليد عن تأثيره و حجيته بالفعل هو العام و المطلق لانهما من الظاهر.

و الحاصل: ان أبناء المحاورة عند اجتماع العام و الخاص و المطلق و المقيد يرون الخاص و المقيد قرينة على التصرّف في العام و المطلق، فلا تنافي بينهما عندهم فيما هو الحجّة الفعلية، فلا تعارض بينهما على هذا، لان المتعارضين هما الدليلان المتكافئان في مقام الحجيّة الفعلية.

و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «و لا تعارض ايضا اذا كان احدهما قرينة على التصرّف» ... الى قوله «و المطلق و المقيد».

و مما ذكرنا يظهر انه كلما اجتمع الظاهر مع النص او الاظهر فالنص و الاظهر يكونان قرينة على التصرّف في الظاهر، و تنحصر الحجّة الفعلية في النصّ و الاظهر، فلا تنافي في مقام التأثير و الحجية الفعلية بين كل ظاهر و نصّ او اظهر و ان كان بينهما عموم و خصوص من وجه، و لا اختصاص لما ذكرنا بالعام و الخاص و المطلق و المقيد، بل فيما كان بين الدليلين عموم و خصوص من وجه فان كان احدهما ظاهرا و الآخر نصّا يكون التصرّف في خصوص الظاهر، و ان كان كلّ منهما نصّا في جهة و ظاهرا في جهة اخرى يكون التصرّف في ظاهر كل منهما بقرينة النصوصية او الاظهريّة في الآخر. و الى هذا اشار بقوله: «او مثلهما» أي و مثل العام و الخاص و المطلق و المقيد غيرهما، كالدليلين اللذين كان بينهما عموم و خصوص من وجه «مما كان احدهما نصّا أو اظهر» من الآخر، فلا تعارض بين هذين الدليلين كما لا تعارض بين العام و الخاص و المطلق و المقيد. و قد اشار الى الوجه في عدم التعارض بين هذه الادلة بقوله: «حيث ان بناء العرف» ... الى قوله «و بالجملة». و اشار الى ان التعارض ليس هو التنافي بين المدلولين، بل هو التنافي بين الدليلين في مقام الاثبات و الحجيّة الفعلية بقوله: «و بالجملة» ... الى قوله «بحيث تبقى ابناء المحاورة متحيرة». ثم اشار الى ان التعارض ليس هو في مثل العام و الخاص و المطلق و المقيد، او ما كان

ص: 28

فيقدّم النصّ أو الاظهر- و إن كان بحسب السند ظنيّا- على الظاهر و لو كان بحسبه قطعيا (1).

______________________________

بينهما عموم و خصوص من وجه و كان احدهما ظاهرا و الآخر نصّا او اظهر، او كان كلّ واحد منهما ظاهرا في جهة و نصّا او اظهر في جهة اخرى، فان هذه الموارد لا تعارض بينها في مقام الحجيّة الفعلية، لتعيّن التصرف اما في احدهما بخصوصه او في كليهما، و بذلك ترتفع المنافاة بينهما في مقام التأثير و الحجية الفعلية، فلا تعارض بينهما فيما هو الحجّة بالفعل بقوله: «بل بملاحظة المجموع» ... الى آخر قوله «بما ترتفع المنافاة التي تكون في البين».

(1) حاصله: ان موارد الجمع الدلالي كلّها التي ضابطها ان يكون احدهما ظاهرا و الآخر نصّا او اظهر، يقدّم في جميعها النصّ و الاظهر و ان كان ظني السند على الظاهر و ان كان قطعي السند ... فان الصور المتصوّرة فيهما اربع:

الاول: ان يكونا معا قطعيين بحسب السند. الثانية: ان يكونا معا ظنيين بحسب السند. الثالثة: ان يكون النصّ او الاظهر قطعيا سندا و الظاهر ظنيّا. الرابعة:

بالعكس بان يكون النص او الاظهر ظنيّا سندا، و الظاهر قطعيّا بحسب السند.

و لما كانت الصورة الاخيرة هي التي ربما يتوهّم فيها تقديم الظاهر على النص او الاظهر، لفرض كون الظاهر فيها قطعيا من حيث السند و النصّ و الاظهر ظنيّا، لذلك نبّه على لزوم التقديم في جميع الصور حتى في هذه الصورة، و لا ينبغي ان يتوهّم فيها تقديم الظاهر لكونه قطعي السند، لان التقديم انما يكون مع التعارض، و حيث قد عرفت ان في موارد الجمع الدلالي كلها لا تعارض بين الدليلين فلا وجه للتقديم. فالنص و الاظهر دلالة الظني من حيث السند يتقدم على الظاهر دلالة و ان كان مقطوع السند، فان سريان التعارض الى السندين انما هو حيث يتحقق التعارض في مقام الدلالة للتنافي فيها، و حيث لا تنافي في مقام الدلالة فلا يكون بين السندين تعارض حتى يتوهّم لزوم تقديم القطعي بحسبه على الظن بحسبه. و لذا قال

ص: 29

و إنما يكون التعارض في غير هذه الصور مما كان التنافي فيه بين الادلة بحسب الدلالة و مرحلة الاثبات (1)، و إنما يكون التعارض بحسب السند

______________________________

(قدس سره): «و لا فرق فيها» أي لا فرق في موارد الجمع الدلالي كلها «بين ان يكون السند فيها قطعيا» في كليهما «او ظنيّا» في كليهما «او مختلفا» و في جميعها يتقدّم النصّ و الاظهر من دون فرق حتى في الصورة الاخيرة «فيقدّم النصّ أو الاظهر و ان كان بحسب السند ظنيّا على الظاهر و لو كان بحسبه قطعيا».

(1)

صور تعارض الدليلين

التعارض في غير صور الجمع الدلالي انما هو للتنافي في مقام الدلالة.

و صور التعارض في الدليلين المتنافيين- في مقام الدلالة و هي في مرحلة الاثبات- المتكافئين فيها ست:

الاولى: ان يكون الدليلان قطعيّ السند و قطعيّ الدلالة، و لا بد في هذه الصورة من ان يكونا من حيث جهة الصدور ظنيّين، اذ لا يعقل ان يكونا قطعيين حتى من حيث جهة الصدور للزوم التناقض في مرحلة الواقع، لانهما اذا كانا قطعي السند و قطعي الدلالة و قطعيين من حيث جهة الصدور بان يكونا قد صدرا لبيان الواقع واقعا، فلازم ذلك ان يكون الواقع الشي ء و عدمه اعمّ من كونه نقيضه او ضده، و هذا معنى لزوم التناقض، و لا يعقل صدور المتناقضين واقعا بحسب الواقع من الشارع.

الثانية: ان يكون الدليلان قطعيّ السند ظاهري الدلالة.

الثالثة: ان يكونا ظنيّ السند قطعيّ الدلالة.

الرابعة: ان يكونا ظنيّ السند ظاهري الدلالة.

الخامسة: ان يكون الدليلان مختلفين من حيث السند، فيكون احدهما قطعي السند و الآخر ظنيّه، و لكن من حيث الدلالة يكونان قطعيين معا.

السادسة: ان يكونا مختلفين- ايضا- من حيث السند، و لكن من حيث الدلالة يكونان معا ظاهرين.

ص: 30

فيما إذا كان كل واحد منها قطعيا دلالة و جهة، أو ظنيا (1) فيما إذا لم

______________________________

(1) توضيحه: ان الصور الست المذكورة للتعارض ليس في جميعها تعارض من حيث السند، بل التعارض من حيث السند في بعض منها.

بيان ذلك: انه فيما كان السند فيهما قطعيا لا تعارض من حيث السند، لوضوح انه مع فرض كون السند فيهما قطعيا فلا يعقل ان ينفي احدهما الآخر من جهة السند.

و مما ذكرنا يظهر انه لا تعارض من حيث السند في الصورة الاولى، و لا في الدلالة- ايضا- لفرض كونها قطعيّة ايضا، و يتعيّن التعارض حينئذ ان يكون في جهة الصدور فقط.

و لا تعارض- ايضا- من حيث السند في الصورة الثانية لفرض كونه قطعيا فيهما، و تكون المعارضة في الدلالة لكونها ظنيّة فيهما.

و في الصورة الثالثة لا تعارض بينهما من حيث الدلالة لفرض كونها قطعيّة فيهما، و ينحصر التعارض بينهما من حيث السند لكونه ظنيّا فيهما.

و في الصورة الرابعة يتعارضان من حيث السند و الدلالة لفرض كونهما معا ظنيين فيهما.

و في الصورة الخامسة حيث فرض كون احدهما قطعيّ السند و فرض كون الدلالة فيهما معا قطعيّة، فان كان ما هو قطعي السند و قطعي الدلالة قد كان قطعيا ايضا من حيث جهة الصدور، فلا بد من تقديمه على ما هو ظني السند، للعلم بان ما كان قطعيّا من حيث جهة الصدور قد صدر لبيان الواقع قطعا مع فرض كونه قطعي السند و الدلالة، للعلم بان الحكم الذي دلّ عليه هو الحكم الواقعي قطعا، و مع العلم بان حكمه هو الحكم الواقعي لا بد من العلم بان معارضه لم يكن صادرا، او كان صادرا لا لبيان الواقع، فهو ساقط عن الحجية قطعا، و اذا لم يكن ما هو قطعي

ص: 31

يكن التوفيق بينها بالتصرّف في البعض أو الكل (1)، فإنه حينئذ لا معنى للتعبّد بالسند في الكل، إما للعلم بكذب أحدهما، أو لاجل أنه لا معنى

______________________________

السند و قطعي الدلالة قطعيّا من حيث الجهة فيقع التعارض حينئذ بين جهته فقط و سند ظني السند و جهته، دون دلالته لفرض كونها قطعية ايضا.

و في الصورة السادسة يقع التعارض بين دلالة قطعي الصدور و سند ظني السند و دلالته، لفرض كون الدلالة فيهما معا غير قطعية و السند في خصوص احدهما ظنيّا.

و قد تبيّن مما مرّ ان تعارض الدليلين معا من ناحية السند انما هو في الصورة الثالثة و الرابعة، و عدم تعارضهما معا من حيث السند في الصورة الاولى و الثانية لفرض كونه قطعيا فيهما معا، و لا في الصورة الخامسة حيث ان احد السندين قطعي، و في الفرض الاول منه يتقدّم ما هو قطعي السند و الدلالة و الجهة، و في الفرض الثاني يقع التعارض بين جهة قطعي الصدور و الدلالة و بين سند ظني الصدور و جهته، فلا تعارض بينهما معا من حيث السند. و في الصورة السادسة يقع التعارض بين دلالة قطعي الصدور و سند ظني الصدور و دلالته، فلا تعارض ايضا بينهما معا من حيث السند. و قد اشار الى الصورتين التي يتعارض الدليلان معا من حيث السند فيها بقوله: «و انما يكون التعارض بحسب السند فيما اذا كان كل واحد من» الدليلين «قطعيا دلالة و جهة» كما في الصورة الثالثة «او» كان كل واحد منهما «ظنيّا» من جهة الدلالة كما هما ظنيان من جهة السند ايضا.

(1) لانه قد عرفت انه فيما اذا امكن التوفيق بالجمع الدلالي بينهما لا يكونان من المتعارضين، فلا تعارض بينهما من حيث السند فيما اذا كان احدهما نصّا او اظهر و كان الآخر ظاهرا، او كان كلّ واحد منهما نصّا من جهة و ظاهرا من جهة اخرى، ففي الصورة الاولى يكون التصرف في احدهما، و في الصورة الثانية يكون التصرّف فيهما معا كما مرّ بيان ذلك.

ص: 32

للتعبّد بصدورها مع إجمالها، فيقع التعارض بين أدلة السند حينئذ، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1) قد عرفت ان التعارض بين الدليلين في السندين معا انما هو في الصورة الثالثة و الرابعة ... و قد ذكر المصنف وجهين لوقوع التعارض: الوجه الاول ما اشار اليه بقوله: «فانه حينئذ لا معنى للتعبّد بالسند في الكل اما للعلم بكذب احدهما» و العلم بكذب احدهما هو الوجه الاول. و الوجه الثاني ما اشار اليه بقوله: «او لاجل انه لا معنى للتعبّد بصدورها مع اجمالها الى آخره».

و توضيح الاول: ان المتعارضين تارة يعلم اجمالا بان احدهما لم يصدر و اما الثاني يكون محتمل الصدور و عدم الصدور، و في هذه الصورة يعلم بكذب احدهما قطعا لفرض العلم بعدم صدور احدهما. و اخرى يعلم اجمالا بصدور احدهما و عدم صدور الآخر، و في هذه الصورة- ايضا- يعلم بكذب احدهما قطعا لفرض العلم بعدم صدور احدهما اجمالا. و ثالثة: يعلم اجمالا بصدور احدهما فقط من دون علم بالآخر، فيكون الآخر محتمل الصدور و عدم الصدور، و في هذه الصورة لا علم بكذب احدهما لفرض كون العلم بالصدور مختصّا باحدهما اجمالا، و الآخر محتمل الصدور و عدم الصدور فلا علم بالكذب. و رابعة: انه لا يكون علم اجمالي في البين، لا بعدم صدور احدهما، و لا بصدور احدهما و عدم صدور الآخر، و لا بصدور احدهما فقط، و في هذه الصورة ايضا لا علم بالكذب كما هو واضح، و في هذه الصورة لا يكون هناك الّا العلم الاجمالي بعدم صدورهما معا لبيان الواقع، اذ لا يعقل ان يكون الحكم الواقعي كل واحد منهما، و الّا لما كانا متعارضين.

و لا يخفى ان هذا العلم الاجمالي موجود في جميع صور التعارض.

فاتضح مما ذكرنا: ان العلم بالكذب و ان كان يختصّ بالصورة الاولى و الثانية، و لا يعمّ الصورة الثالثة و الرابعة المذكورتين للمتعارضين، إلّا ان العلم الاجمالي بعدم صدورهما معا لبيان الواقع يعم جميع الصور. و لا يخفى انه مع العلم بكذب

ص: 33

.....

______________________________

احدهما يمتنع عقلا جعل الحجيّة لكلّ واحد من السندين بناء على الطريقية لا الموضوعية، فيقع التعارض بين السندين لامتناع حجية كل واحد منهما- بناء على الطريقية- مع العلم بكذب احدهما، و يمتنع عقلا ايضا حجية كل واحد منهما مع العلم الاجمالي بعدم صدورهما معا لبيان الواقع.

و توضيح الثاني: انه قد عرفت ان تعارض السندين معا في الدليلين المتعارضين هو في الصورة الثالثة و الرابعة من الصور الست المتقدمة. و حيث فرض في الصورة الثالثة قطعية الدلالة فيهما معا فلا اجمال في الدلالة، و تنحصر المعارضة بينهما في السندين. و اما الصورة الرابعة فالدلالة فيهما و ان كانت ظنية كما هو المفروض فيها، إلّا انه بعد تعارضهما دلالة لا بناء من العقلاء على حجية الظهور فيهما معا، و يكون حالهما حال المجمل من حيث الظهور، فلا معنى لجعل الحجية الفعلية لكل واحد من السندين مع تعارضهما في الدلالة، فان جعل الحجية الفعلية لكليهما لغو من الحكيم مع فرض تعارضهما دلالة الموجب لاجمال الظهور فيهما، كما لو كان الدليل مجملا من حيث الدلالة فانه مع اجماله في الدلالة يكون جعل الحجية الفعلية لسنده لغوا من الحكيم لعدم الفائدة في هذا الجعل، فاذا كانت الادلة متعارضة في الدلالة فجعل الحجية الفعلية لسند كل واحد منها ايضا لا فائدة فيه لاجمال ظهورها فهو لغو لا يصدر من الحكيم، فلا بد و ان يكون الحجة الفعلية هو احد الادلة المتعارضة، و لذلك يقع التعارض في السند ايضا في الادلة المتعارضة في الدلالة.

و المتحصل من جميع ما ذكرنا: ان الموجب للتعارض: اما العلم الاجمالي بعدم صدورهما معا لبيان الواقع، او لزوم اللغوية في جعل الحجية الفعلية لكل واحد من المتعارضين، و هذا هو الثاني الذي اشار اليه بقوله (قدس سره): «او لاجل انه لا معنى للتعبد بصدورها» أي لا معنى للتعبد بصدور الادلة المتعارضة في الدلالة «مع اجمالها» لما عرفت من انه بعد تعارضها في الدلالة لا بناء من العقلاء على الاخذ بظهورها جميعا فتكون مجملة من حيث اصالة الظهور، و حيث عرفت ايضا

ص: 34

فصل التعارض و إن كان لا يوجب إلّا سقوط أحد المتعارضين عن الحجية رأسا، حيث لا يوجب إلا العلم بكذب أحدهما، فلا يكون هناك مانع عن حجية الآخر، إلا أنه حيث كان بلا تعيين و لا عنوان واقعا- فإنه لم يعلم كذبه إلا كذلك، و احتمال كون كل منهما كاذبا- لم يكن واحد منهما بحجة في خصوص مؤدّاه، لعدم التعيين في الحجة أصلا، كما لا يخفى.

نعم يكون نفي الثالث بأحدهما لبقائه على الحجية، و صلاحيته على ما هو عليه من عدم التّعيّن لذلك لا بهما (1)، هذا بناء على حجية

______________________________

انه لا معنى لجعل الحجية الفعلية لسند كل واحد منها «ف» لاجل ذلك «يقع التعارض بين ادلة السند حينئذ كما لا يخفى».

(1)

الفصل الثانى: الاصل الاولى فى المتعارضين بناء على الطريقية

اشارة

توضيح الحال يتوقف على امور: الاول: ان الظاهر من ادلة الجعل لحجيّة الامارات هو الطريقية و انها بداعي الايصال الى الواقع، كقوله عليه السّلام: العمري و ابنه ثقتان فما أدّيا فعني يؤدّيان، و غيره من ادلة الجعل، و ظهور اخبار العلاج في ذلك ايضا، فان المزايا المذكورة في الادلّة العلاجية: كالأوثقيّة و الأصدقيّة و الأورعيّة و الأفقهيّة و موافقة الكتاب و مخالفة القوم كلها ظاهرة في ان جعل الحجية انما هو بداعي الايصال الى الواقع.

الثاني: ان الجامع الاولي للامارة المجعولة هو احتمال الاصابة للواقع شخصا، و غلبة الاصابة نوعا.

الثالث: انه بناء على الطريقية فالعلم التفصيلي بكذب الامارة مخرج لها موضوعا عن ادلّة الحجية، لان جعل الحجية للامارة حيث انه بداعي الايصال فلا بد و ان تكون الامارة محتملة الاصابة شخصا غالبة الاصابة نوعا، و مع العلم بالكذب تفصيلا لا تكون الامارة محتملة الاصابة شخصا و لا غالبة الاصابة نوعا.

ص: 35

.....

______________________________

و اما مع العلم الاجمالي بكذب احدهما فان كل واحد من الامارتين و ان كان محتمل الاصابة شخصا غالب الاصابة نوعا، الّا ان الواقع حيث انه غير قابل للفعلية فيهما معا، لوضوح عدم امكان ان يكون الواقع كل واحد منهما، بل الواقع على فرضه لا يكون الّا في ضمن احدهما- فلا يعقل ان يكون كل واحد منهما مشمولا لادلة الحجية. و منه يظهر ان احتمال ان يكون كل واحد من الدليلين حجة بالفعل في مدلوله المطابقي غير معقول بناء على الطريقية.

و مما ذكرنا يظهر ايضا: ان العلم الاجمالي بعدم صدور كل واحد منهما لبيان الواقع- بناء على الطريقية- لا بد فيه في فرض التعارض، و مع هذا العلم الاجمالي لا يعقل- ايضا- ان يكون كل واحد من الدليلين حجة بالفعل في مدلوله المطابقي.

حجية احدهما بنحو التخيير العقلي بينهما

الرابع: انه بعد ما عرفت عدم امكان حجيّة كل واحد من المتعارضين فعلا في المدلول المطابقي ... فمحتملات المقام امور:

منها حجيّة احدهما بنحو التخيير العقلي بينهما.

و الوجه فيه ان اطلاق دليل الحجية يشملهما معا، لان كل واحد منهما محتمل الاصابة شخصا غالب الاصابة نوعا، لانه من الظنون النوعية، و العلم الاجمالي بكذب احدهما يوجب سلب القدرة عن العمل بهما معا، و لازم شمول الاطلاق لكلا الدليلين و عدم القدرة على الجمع بينهما هو التخيير بينهما عقلا.

و يرد عليه: ان اطلاق دليل الحجية و ان شمل كل واحد منهما مع الغض عن الآخر، الّا انه لا يشملهما معا: بمعنى انه لا يشمل كل واحد منهما مع لحاظ اجتماعه مع الآخر، للعلم بعدم وجود ملاكها فيهما معا ثبوتا بناء على الطريقية، فليس المانع هو عدم القدرة على الجمع بينهما، و انما يكون المانع عدم القدرة فيما اذا كان كل واحد منهما بلحاظ الآخر واجدا لملاك الحجية ثبوتا، كانقاذ الغريقين فانه حينئذ يكون المانع عدم القدرة على الجمع بينهما فيكون التخيير عقليا. اما في

ص: 36

.....

______________________________

المتعارضين فليس ملاك الحجية ثبوتا متحققا فيهما معا ليكون المانع عدم القدرة، بل المانع عدم تحقق ملاك الحجية ثبوتا فيهما معا، فلا يكون المقام من التخيير العقلي.

حجية الخبر الموافق للواقع و عدم حجية الخبر الكاذب

و منها: حجيّة الخبر الموافق للواقع و عدم حجية الخبر الكاذب غير الموافق للواقع، و يكون المقام من قبيل اشتباه الحجة باللاحجة.

و الوجه فيه ان كل واحد من الخبرين مع لحاظه بذاته يغض النظر عن الآخر يشمله اطلاق دليل الحجية، الّا ان الحجيّة الفعلية- بناء على الطريقية- الموجبة لتنجّز الواقع و الموصلة اليه هي خصوص الخبر الموافق للواقع، دون الخبر غير الموافق للواقع الذي هو الخبر الكاذب، لوضوح كون الخبر الكاذب لا ينجّز الواقع و لا يوصل اليه.

و بعبارة اخرى: انه مع لحاظ الخبرين معا مجتمعين فان احدهما بخصوصه و هو الخبر الموافق للواقع يكون هو الحجة، و الخبر غير الموافق للواقع لا يكون بحجة، و حيث لا يعلم الخبر الموافق للواقع بخصوصه من الخبر غير الموافق للواقع، فلازم هذا كون المقام من قبيل اشتباه الحجة باللّاحجّة.

و فيه أولا: ان مورد اشتباه الحجة باللّاحجّة هو ان لا يكون كل واحد من الخبرين مع فرض الغض عن الآخر مما يشمله اطلاق دليل الحجية، كما لو اشتبه- مثلا- رجال الخبرين الثقة و الضعيف، بان روى كل واحد من الخبرين عن ابن سنان، و علم اجمالا بان احدهما راويه هو ابن سنان الضعيف و الآخر ابن سنان الثقة، فان كل واحد من الخبرين لا يشمله اطلاق دليل الحجية، و حيث علم ان احد الراويين ثقة و الآخر ضعيف فالمورد يكون من قبيل اشتباه الحجة باللاحجة. اما في المقام فحيث ان اطلاق دليل الحجية يشمل كل واحد منهما على الفرض، و العلم بكذب احدهما اجمالا يمنع عن الحجية الفعلية لكل واحد منهما لا انه يوجب اخراج احدهما عن شمول اطلاق دليل الحجية، فلا يكون من قبيل اشتباه الحجة باللّاحجّة.

ص: 37

حجية احدهما من غير تعيين

و ثانيا: ان فرض الكلام هو العلم بكذب احدهما فقط، لا العلم بكذب احدهما و صدق الآخر، فلا يعلم بموافقة الآخر للواقع حتى يكون الخبر المعلوم موافقته للواقع هو الحجة و الخبر غير الموافق للواقع ليس بحجة، ليكون من قبيل اشتباه الحجة باللاحجة.

و الحاصل: ان فرض الكلام هو عدم موافقة احدهما للواقع، و اما الآخر فيمكن ان يكون موافقا و يمكن ان لا يكون موافقا، فليس في فرض الكلام لنا علم بموافقة احد الخبرين للواقع حتى يكون هو الحجة بخصوصه، و يكون من قبيل اشتباه الحجة باللاحجة.

و ثالثا: ان مجرد الموافقة للواقع لا تكفي في كون الخبر الموافق له حجة بالفعل، بل الحجة الفعلية متقومة بوصول الواقع بالخبر و تنجزه به، و حيث لم يعلم المنجز للواقع منهما و الموصل له، فمجرد كون احدهما موافقا للواقع من دون كون الواقع واصلا به و منجزا به لا يوجب كون احدهما هو الحجة الفعلية، فلم يبق لنا إلّا احتمال الموافقة و هو موجود في كل واحد من الخبرين، فلا يكون المقام من قبيل اشتباه الحجة باللاحجة.

و منها: كون الحجة هو احدهما من غير تعيين، و هو الذي يظهر من المتن اختياره.

و الوجه فيه هو ان المقتضي للحجية موجود في كل واحد من الخبرين، لان المقتضي للحجية في الخبر هو احتمال اصابته الواقع شخصا و غلبة اصابته نوعا، و هذا المعنى موجود في كل واحد من الخبرين، و المانع عن تأثير هذا الاقتضاء في كل واحد من الخبرين هو العلم الاجمالي بكذب احدهما، و هذا المانع متساوي النسبة الى كل واحد من المقتضيين الموجودين في الخبرين، و اذا كان المقتضي موجودا في كل واحد من الطرفين، و كان المانع متساوي النسبة اليهما، و لم يكن مانعا عن كل واحد منهما بخصوصه، و لم يكن ايضا مانعا عن احدهما المعين بخصوصه، كان

ص: 38

.....

______________________________

ذلك المانع مانعا عن تأثير المقتضيين فيهما معا.

نفي الثالث بالمتعارضين

اما تأثير المقتضي في احدهما بلا تعيين فلا مانع منه، فيكون الحجة هو احدهما من غير تعيين لتحقق المقتضى له من غير مانع، اما تحقق المقتضي له فلما عرفت من وجود المقتضى في كل واحد منهما، و اما عدم المانع فلما عرفت ايضا من ان المانع المذكور انما يمنع عن تأثير كلا المقتضيين معا، و لا يمنع عن تأثير كل واحد منهما بخصوصه و لا عن احدهما المعين بخصوصه ليكون مانعا عن التأثير في احدهما بلا تعيين، فلا مانع حينئذ عن تأثير المقتضي في احدهما بلا عنوان، و يسقط المقتضي عن التأثير في احدهما بلا عنوان ايضا، و على هذا فيكون الحجة هو احدهما بلا تعيين و الساقط هو احدهما بلا تعيين ايضا. و حيث كان الحجة هو احدهما بلا تعيين و لم يعلم انه أيهما فكل واحد منهما بخصوصه لا يكون حجة بالفعل في مؤداه، لان الحجة هو احدهما بلا عنوان و من غير تعيين، فما هو المعين بعنوانه الخاص ليس بحجة و ما هو الحجة هو احدهما بلا تعيين، و لازم ذلك عدم حجية كلا الخبرين في مدلولهما المطابقي و نفي الثالث غيرهما، لفرض كون الحجة هو احدهما بلا عنوان، و هذا المقدار كاف في نفي الثالث لان الثالث هو غيرهما، و حيث كان الحجة هو احدهما فلازمه ان يكون غيرهما ليس بحجة. فكون الحجة هو احدهما بلا تعيين صالح بنفسه لنفي الثالث.

و ليس نفي الثالث بهما معا، بدعوى انهما بعد تساقطهما في مدلولهما المطابقي ينفيان الثالث بمدلولهما الالتزامي، فان للدليل دلالة مطابقية و هو كون مؤداه هو الحكم، و دلالة التزامية و هو نفي الحكم الذي خالف مؤداه المطابقي، فالمتعارضان و ان سقطا في مدلولهما المطابقي للعلم بكذب احدهما، إلّا انهما لم يسقطا في مدلولهما الالتزامي و هو نفي الثالث، فيكون نفي الثالث منفيا بهما معا. و لكنه لا وجه لهذه الدعوى بعد ما عرفت من ان الحجة هو احدهما بلا تعيين، و انما تساقطا لعدم تمييز ما هو الحجة منهما، و بعد العلم بكذب احدهما يكون الكاذب

ص: 39

.....

______________________________

ساقطا عن الحجية في مدلوله المطابقي و الالتزامي، فلا بد و ان يكون نفي الثالث مستندا الى ما هو الحجة و هو احدهما بلا تعيين.

و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «التعارض و ان كان لا يوجب إلّا سقوط احد المتعارضين عن الحجية رأسا» لتحقق المقتضي للحجية في كل واحد منهما، و هو كونه محتمل الاصابة شخصا غالب الاصابة نوعا، و انما لا يؤثر هذا المقتضي في حجية كل واحد منهما لوجود المانع، و المانع «لا يوجب» الا عدم تأثير المقتضي في احدهما لانه ليس هو «إلّا العلم بكذب احدهما فلا يكون هناك مانع عن حجية الآخر إلّا انه حيث كان» ما هو الساقط هو احدهما «بلا تعيين و لا عنوان واقعا» لفرض عدم العلم به بخصوصه «فانه لم يعلم كذبه الا كذلك» أي لم يعلم كذبه الا اجمالا و كونه احدهما «و» هذا لا يوجب إلّا «احتمال كون كل منهما كاذبا» و لعدم تمييز ما هو الكاذب منهما «لم يكن واحد منهما بحجة في خصوص مؤداه لعدم التعيين في الحجة اصلا كما لا يخفى. نعم يكون نفي الثالث باحدهما لبقائه على الحجية» لما عرفت من عدم المانع عن كون الحجة هو احدهما بلا تعيين «و صلاحيته» أي و صلاحية ما هو الحجة و هو احدهما «على ما هو عليه من عدم التعين لذلك» أي لا يكون نفي الثالث به «لا بهما» معا.

سقوط المتعارضين في الحجيّة الفعلية

و منها: سقوط المتعارضين في الحجية الفعلية، و لا يكون الحجة هو احدهما بنحو التخيير العقلي لما عرفت، و لا الموافق للواقع منهما كما مر، و لا احدهما بلا تعيين كما هو ظاهر المتن لان مرجع ما ذكره الى حجية المردد، فان احدهما بلا تعيين واقعا ليس هو إلّا المردد، و المردد لا تحقق له لا ذهنا و لا خارجا، اما خارجا فلبداهة ان كل شي ء في الخارج هو هو لا هو او غيره، و اما ذهنا فلأن كل موجود سواء كان في الذهن او الخارج له ماهية ممتازة عن ساير الماهيات بامتياز ما هوي، و له وجود ممتاز بنفس هويته الوجودية عن ساير الوجودات، و من الواضح ان المردد بما هو مردد لا ماهية له ممتازة عن ساير الماهيات لفرض الترديد في نفس ذاته، و لا وجود له لان

ص: 40

.....

______________________________

الوجود مشخص لما تعلق به من الماهيات، و لا يعقل ان يكون الوجود مشخصا لما كان بذاته آبيا عن التشخص، و المردد بما هو مردد آب بذاته عن التشخص و التعين، و من الواضح ان الذهن نحو وجود للماهية و به تتشخص ذهنا، كما ان الوجود الخارجي مشخص لها خارجا.

فظهر ان المردد- بما هو مردد- لا وجود له لا ذهنا و لا خارجا، و ما لا وجود له بكلا نحوي الوجود لا يكون متعلقا لصفة من الصفات اصلا، لا الصفات الخارجية و لا الصفات النفسية كالعلم و الارادة، و لا الصفات الاعتبارية كالحجية، لانه لا معنى لتعلق الحجية بما لا تحقق له لا ذهنا و لا خارجا.

و ما يقال: من ان العلم الاجمالي المتعلق بنجاسة احد الإناءين- مثلا- قد تعلق بالمردد فان متعلقه هو عنوان احدهما.

فانه يقال: ان العلم الاجمالي لم يتعلق بالمردد، بل متعلقه مفصل من جهة كونه نجسا موجودا في الخارج، و لما كان ذلك المعلوم بما هو نجس في الخارج مجهول الانطباق على الإناءين كان هو علما من جهة مشوبا بجهل من جهة اخرى، فمرجع العلم الاجمالي الى علم من جهة و جهل من جهة، لا ان العلم الاجمالي هو العلم المتعلق بالمردد. و المفروض في المقام كون الحجة هو احدهما بلا تعيين واقعا، فان مرجعه الى الترديد، و لذلك لا يرد الترديد على من قال بان الحجة هو احدهما و هو الموافق للواقع، لان متعلق الحجة امر معين واقعا لا مردد.

و على كل فمن يرى عدم امكان كون الحجة هو احدهما بلا تعيين واقعا، و لا احدهما بنحو التخيير العقلي، و لا احدهما الموافق للواقع، و لا يعقل ايضا ان تكون الحجة كل واحد منهما للعلم بكذب احدهما- فلا بد من سقوط كلا المتعارضين في المدلول المطابقي، لعدم حجية كل واحد منهما، و اذا كان السقوط للمتعارضين في المدلول المطابقي لعدم الحجية فلا سبيل لنفي الثالث، لان سقوطهما لاجل عدم الحجية في المدلول المطابقي معناه عدم الحجة على الملزوم، فلا تكون هناك حجة على

ص: 41

الامارات من باب الطريقية (1)، كما هو كذلك (2) حيث لا يكاد يكون حجة طريقا إلا ما احتمل إصابته، فلا محالة كان العلم بكذب أحدهما

______________________________

اللازم، و المدلول الالتزامي هو اللازم للمدلول المطابقي، فحيث لا يكون الدليل حجة في مدلوله المطابقي لا يكون حجة في مدلوله الالتزامي، بخلاف ما اذا كان الحجة في المتعارضين هو احدهما باحد الانحاء المذكورة فانه يكون هو الحجة على نفي الثالث.

(1) لا يخفى ان الاحتمالات المتقدمة: من كون الحجة احدهما بنحو التخيير، او احدهما الموافق للواقع، او احدهما لا بعينه، او سقوطهما معا، مبنية على كون حجية الامارات من باب الطريقية و لا يصال الواقع و تنجزه بها.

و اما بناء على السببية و كون الحكم الواقعي هو مؤدى الامارة فسيأتي الكلام فيه.

و اما كون تلك المحتملات مبنية على الطريقية، فلوضوح ان كون الحجة هو احدهما باحد العناوين الثلاثة المذكورة، أو تساقطهما في الحجية لكون العلم بكذب احدهما مانعا انما هو حيث يكون المبنى في الامارة حجيتها طريقا لايصال الواقع و تنجزه بها، لبداهة انه اذا كان هناك واقع قد جعلت الامارة طريقا اليه يكون العلم بكذب احدهما و مخالفته له و عدم ايصاله اليه مانعا اما عن حجية احدهما او موجبا لتساقطهما.

و اما بناء على كون الحكم الواقعي هو مؤدى الامارة، فلا يكون العلم بكذب احدهما و مخالفته للواقع مانعا عن حجيتها، إلّا ان يدعى ان السببية في الامارة هي في خصوص الخبر الذي لم يعلم كذبه كما سيأتي بيانه. و اما اذا قيل بعدم تقيد السببية في الامارة بذلك فلا يكون العلم بكذب احدهما مانعا.

(2) يريد ان الصحيح هو حجية الامارة من باب الطريقية، لان حجيتها اما لبناء العقلاء، و من الواضح ان بناء العقلاء على الاخذ بخبر العادل او الثقة انما هو لكونه

ص: 42

مانعا عن حجيته (1)، و أما بناء على حجيتها من باب السببية فكذلك لو كان هو خصوص ما لم يعلم كذبه، بأن لا يكون المقتضي للسببية فيها إلا فيه، كما هو المتيقن من دليل اعتبار غير السند منها، و هو بناء العقلاء على أصالتي الظهور و الصدور، لا للتقية و نحوها، و كذا السند لو كان دليل اعتباره هو بناؤهم أيضا، و ظهوره فيه لو كان هو الآيات و الاخبار،

______________________________

طريقا الى الواقع، لا لان مؤداه هو الواقع واقعا. و اما للاخبار، و الظاهر منها ايضا هو ذلك، لوضوح ظهور قوله عليه السّلام صدق العادل فيما اخبر به بذلك، فان مادة التصديق ظاهرة في ان هناك واقعا يكون الاخذ باخبار العادل عنه تصديقا له بانه هو الواقع، و ان الامر بالأخذ بقول العادل عملا بعنوان كونه تصديقا له واضح الظهور ايضا في ان الامر بتصديقه لصدقه في خبره و مطابقته لواقع هناك، لا لأن ما اخبر به هو الحكم واقعا و انه ليس هناك شي ء يكون مطابقته له صدقا.

(1) هذا تعليل لكون ما تقدم من الكلام انما هو بناء على الطريقية. و حاصله:

انه بناء على الطريقية تكون الحجية منحصرة في الطريق الذي احتمل اصابته للواقع، اما ما علم عدم اصابته للواقع فلا يكون بحجة، و لذلك كان العلم اجمالا بكذب احدهما مانعا عن حجية احدهما، فلا يعقل ان يكون كل واحد من المتعارضين حجة بالفعل مع العلم بكذب احدهما، و لا بد ان يكون الحجة هو احدهما كما مر بيانه.

و قد اشار الى انحصار الحجية بما احتمل اصابته بقوله: «حيث لا يكاد الى آخر الجملة» و اشار الى كون العلم بكذب احدهما مانعا على الطريقية بقوله: «فلا محالة الى آخر الجملة».

ص: 43

ضرورة ظهورها فيه، لو لم نقل بظهورها في خصوص ما إذا حصل الظن منه أو الاطمئنان (1).

______________________________

(1)

مختار الشيخ الاعظم (قده) من التخيير مطلقا- بناء على السببية- و تعريض المصنف (قده) به من وجوه

لا يخفى ان ظاهر الشيخ (قدس سره) في رسائله انه بناء على السببية في الامارات فالوجه هو التخيير مطلقا و ان علم بكذب احدهما، فالعلم بكذب احدهما ليس بمانع بناء على السببية في الامارات. و كلام المصنف تعريض به.

و قد عرض به من وجوه: الاول ما اشار اليه بقوله: «فكذلك لو كان الى آخر الجملة» أي ان العلم بالكذب يكون مانعا حتى على القول بالسببية، فيما اذا قلنا بان ما يدل على ان الجعل في الامارات بنحو السببية هو في خصوص ما لم يعلم كذبه.

و توضيح ذلك: انه لا اشكال ان مقام جعل الامارة سواء على الطريقية او السببية هو الجهل بالحكم الواقعي، لبداهة انه مع العلم بالحكم الواقعي لا مقام لجعل الامارة، و في مقام الجهل بالحكم الواقعي يتأتى الجعل في الامارة التي هي من الظنون. و للامارة جهات ثلاث: جهة الدلالة، و جهة الصدور لا للتقية، وجه السند. و لا بد من تمامية الحجة في الامارة من هذه الجهات الثلاث، فانه متى كانت الحجة في جهة من هذه الثلاث غير تامة لا تكون الامارة بحجة.

و الحجة في الامارة من جهة الدلالة و جهة الصدور منحصرة في بناء العقلاء على الاخذ بظهور ما كان الدليل ظاهر الدلالة فيه، و في بناء العقلاء على ان الظاهر في الكلام الصادر من العقلاء انه قد صدر للواقع لا لبيان غير الواقع، و من الواضح ان القدر المتيقن من بناء العقلاء حيث انه لا اطلاق له لانه دليل عملي، فهو دليل لبي لا لفظي حتى يكون له اطلاق، و لذا كان القدر المتيقن منه كون الحجة في جهة الدلالة و جهة الصدور هو في الامارة التي لا يعلم كذبها.

و اما في جهة السند فالدليل غير منحصر ببناء العقلاء، فان الدليل على الحجية فيها: بناء العقلاء، و الآيات، و الاخبار. و حال بناء العقلاء في جهة السند كحاله في

ص: 44

.....

______________________________

جهة الظهور الدلالي و جهة الصدور لا للتقية في ان القدر المتيقن منه هو حجية سند الامارة التي لا يعلم كذبها. و اما الآيات و الاخبار فحيث انها دليل لفظي فقد يتوهم ان لها اطلاقا يعم الخبرين و ان علم بكذب احدهما .. إلّا انه توهم باطل، لضرورة ظهور اخبار الجعل- كصدق العادل المستفاد من آية النبأ، و مثل قوله عليه السّلام فلان مأمون على الدين و الدنيا، و فلان ثقة- في خروج ما علم كذبه من الامارة عن الحجية، فتختص الحجية في الامارة بخصوص ما لم يعلم الكذب منها. و هذا اذا لم نقل بان الاخبار تدل على اكثر من ذلك و انها انما تدل على حجية خصوص الامارة الموجبة للظن او لخصوص مرتبة الاطمئنان منه.

فتحصل من جميع ما ذكرنا: ان العلم بكذب احدهما مانع على السببية ايضا، و لازم كونه مانعا كون الحجة في المتعارضين هو احدهما لا على التعيين، كما كان ذلك هو اللازم على الطريقية على مختار المصنف (قدس سره) كما مر بيانه. و قد اشار الى هذه النتيجة في اول كلامه بقوله: «بان لا يكون المقتضي للسببية فيها» أي في الامارات «الا فيه» أي الا كون الحجة هي في خصوص ما لم يعلم كذبه، و عليه فلا بد من كون العلم بالكذب مانعا، و كون الحجة في المتعارضين هو احدهما بلا تعيين.

و اشار الى ان دليل الاعتبار في غير جهة السند- و هو جهة الدلالة و الصدور- منحصر في بناء العقلاء، و ان القدر المتيقن منه كون الحجة خصوص الامارة التي لم يعلم كذبها بقوله: «كما هو المتيقن من دليل اعتبار غير السند منها» و هو جهة الدلالة و جهة الصدور «و هو بناء العقلاء على أصالتي الظهور و الصدور لا للتقية و نحوها» كالقاء الخلاف بين الشيعة حفظا لهم.

و اشار الى ان جهة السند دليل الاعتبار فيها غير منحصر في بناء العقلاء، بل هو بناء العقلاء و الآيات و الاخبار، و انه فيما كان هو بناء العقلاء يكون الحال في جهة السند كالحال في جهة الدلالة و الصدور بقوله: «و كذا السند لو كان دليل اعتباره هو

ص: 45

و أما لو كان المقتضي للحجية في كل واحد من المتعارضين لكان التعارض بينهما من تزاحم الواجبين، فيما إذا كانا مؤديين إلى وجوب الضدين أو لزوم المتناقضين (1)، لا فيما إذا كان مؤدى أحدهما حكما غير

______________________________

بناؤهم ايضا». و اما الآيات و الاخبار فأشار الى ان الظاهر منها ايضا هو كون الحجة خصوص ما لم يعلم كذبه بقوله: «و ظهوره فيه» أي و ظهور دليل الاعتبار في حجية خصوص ما لم يعلم كذبه «لو كان هو الآيات و الاخبار ضرورة ظهورها فيه» كما عرفت من ان الظاهر- من صدق العادل المستفاد من آية النبأ، و الاخبار الواردة في ذلك كقوله عليه السّلام: فلان مأمون او ثقة- هو حجية خصوص ما لم يعلم كذبه. و اشار الى ان المستفاد من الآيات و الاخبار اكثر من ذلك بقوله: «لو لم نقل بظهورها في خصوص ما اذا حصل الظن منه» أي من السند «او» حصل منه «الاطمئنان».

و لا يخفى ان كون بناء العقلاء دليلا على الحجية لازمه كون مبنى الحجية هو الطريقية دون السببية، لان بناء العقلاء على الحجية في الامارات من حيث الجهات الثلاث كلها- جهة الدلالة و جهة الصدور و جهة السند- انما هو لان الاصل عندهم في الظهور الدلالي مطابقته للواقع، و لان الاصل في الصدور ان يكون لبيان الواقع، و لان الاصل في المخبر الثقة ان يكون صادقا يطابق اخباره الواقع، ففي جميع هذه الاصول الثلاثة العقلائية هناك واقع عند العقلاء، يكون مؤدى الخبر مطابقا له من حيث الدلالة و من حيث الصدور و من حيث المخبر، و ليس للسببية عند العقلاء عين و لا اثر. نعم السببية يمكن ان تدعى بالنسبة الى الادلة اللفظية الدالة على الاعتبار بالنسبة الى جهة السند كما سيأتي بيان ذلك.

(1) هذا هو الوجه الثاني من وجوه التعريض، و الرد على ما ذهب اليه الشيخ: من انه بناء على السببية فالوجه هو التخيير مطلقا و ان علم بكذب احدهما.

ص: 46

.....

______________________________

و توضيحه: ان مدرك القول بالسببية ان كان للتخلص عن اشكال تفويت المصالح الواقعية، فلازم ذلك هو القول بالسببية في خصوص الخبر المخالف للواقع، و اما الخبر الموافق للواقع فلا سببية فيه، و هذا قول بالطريقية و السببية معا، لان الخبر ان كان موافقا للواقع فقد ادرك فيه مصلحة الواقع، و ان كان مخالفا للواقع فقد كان به المصلحة التي بها يتدارك ما يفوت من مصلحة الواقع، و على هذا فالمقتضي للحجية و ان كان موجودا في كل واحد من الخبرين، إلّا ان لازم هذا القول كون دليل الاعتبار جامعا للطريقية و السببية، و هو جمع بين الآلية و الاستقلالية بنظر واحد و هو محال.

إلّا ان يقال: انه ليس في دليل الاعتبار جمع بين اللحاظين، بل دليل الاعتبار يتضمن لزوم اتباع ما اخبر به العادل، غايته ان العلة لاعتباره مختلفة: تارة تكون مصلحة الواقع، و اخرى المصلحة التي يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع.

و لكنه يرد عليه ما يأتي في المبنى الثاني للسببية من ان التخيير ليس مطلقا.

الثاني: ان مبنى القول بالسببية ليس التخلص عن اشكال التفويت، بل مبناها هو ان الظاهر من كل عنوان رتب عليه حكم ان الحكم قد رتب عليه بذاته، لا لانه معرف لغيره و طريق اليه، فظاهر اعتبار ما اخبر به العادل هو لزوم الاخذ به لانه خبر عادل، لا لانه طريق الى غيره، غايته حيث ان الجعل لا بد و ان يكون لمصلحة فيكون ما اخبر به ذا مصلحة على كل حال، و على هذا فالمقتضي للحجية في كل واحد من الخبرين موجود، و لا يكون العلم بالكذب مانعا لفرض كون المصلحة متحققة في نفس مؤدى الخبر، و هي العلة للجعل و الاعتبار، و ليس العلة للجعل و الاعتبار مصلحة الواقع حتى يكون العلم بعدم مطابقة مؤدى الخبر للواقع مانعا عن الحجية، بل ليس هناك داع للجعل الا المصلحة القائمة بنفس مؤدى الخبر، و هي متحققة في كل واحد من الخبرين.

ص: 47

.....

______________________________

فاذا تعارض الخبران على هذا المبنى للسببية يكونان من المتزاحمين في خصوص ما اذا كانا مؤديين الى حكمين الزاميين كوجوب الضدين، كما لو دل احدهما- مثلا- على وجوب القصر و الآخر على وجوب التام، او كانا مؤديين الى حكمين متناقضين، كما لو دل احدهما على وجوب فعل شي ء و الآخر على وجوب تركه.

و الوجه في كونهما من المتزاحمين هو تمامية المقتضي في كل واحد منهما، و هي المصلحة المشتمل عليها مؤدى كل منهما، و المانع عن تأثيرهما هو عدم القدرة على الجمع بينهما للزوم اجتماع الضدين او المتناقضين، فلا بد من القول بالتخيير بينهما لان بتركهما تفوت المصلحتان معا، و حيث لا يمكن الجمع بينهما فيكون الوجه هو التخيير بينهما.

و الحاصل: ان التعارض يكون من التزاحم بناء على السببية في خصوص ما اذا دل المتعارضان على مثل وجوب الضدين، أو دلا على وجوب امرين متناقضين كما اذا دلا على وجوب الفعل او وجوب الترك، و حينئذ فاللازم هو التخيير بينهما.

لا فيما اذا كان احد الخبرين دالا على حكم الزامي و الآخر على حكم غير الزامي، فانه لا وجه للقول بالتخيير بينهما كما سيأتي بيانه.

فاتضح مما ذكرنا: انه على القول بالسببية لا وجه للقول بالتخيير مطلقا في المتعارضين. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و اما لو كان المقتضي للحجية في كل واحد من المتعارضين» كما عرفت في السببية على المبنى الثاني، و على فرض كون السببية بهذا المعنى لا تكون النتيجة التخيير مطلقا بل «لكان التعارض بينهما» موجبا لان يكون التعارض «من» باب «تزاحم الواجبين في» خصوص «ما اذا كان مؤديين الى وجوب الضدين او لزوم المتناقضين».

ص: 48

إلزامي، فإنه حينئذ لا يزاحم الآخر، ضرورة عدم صلاحية ما لا اقتضاء فيه أن يزاحم به ما فيه الاقتضاء (1)، إلا أن يقال بأن قضية اعتبار دليل غير الالزامي أن يكون عن اقتضاء، فيزاحم به حينئذ ما يقتضي

______________________________

(1) توضيحه: ان مصلحة الحكم غير الالزامي في مرحلة الثبوت على نحوين: الاول:

ان تكون المصلحة لها اقتضاء بالنسبة الى الحد غير الالزامي، و اما بالنسبة الى المرتبة العليا التي هي فوق مرتبة غير الالزامي و هي مرتبة الحد الالزامي فهي لا اقتضاء، و على هذا فلا يكون تعارض الخبرين الدال احدهما على استحباب الشي ء و الآخر على وجوبه من المتزاحمين، لعدم معقولية مزاحمة ما لا اقتضاء له لما له الاقتضاء، لان ما دل على الاستحباب له مصلحة مقتضية للحد غير الالزامي، و بالنسبة الى المرتبة العليا و هي مرتبة اللزوم لا اقتضاء له، و الدليل الدال على الوجوب له اقتضاء بالنسبة الى المرتبة العليا و هي مرتبة اللزوم، فدليل الاستحباب بالنسبة الى مرتبة اللزوم لا اقتضاء له و دليل الوجوب بالنسبة الى مرتبة اللزوم له اقتضاء، و لا يعقل ان يزاحم ما ليس له اقتضاء لما له الاقتضاء، فلا تزاحم بين ما يدل على الاستحباب و بين ما يدل على الوجوب، و لا بد من تقديم ما يدل على الوجوب. فلا يكون في هذا الفرض تزاحم بين هذين المتعارضين ليكون الحكم فيها التخيير، فلا وجه للحكم بالتخيير مطلقا على السببية، فانه في مثل هذا الفرض لا بد من تقديم الامارة الدالة على الوجوب على الامارة الدالة على الاستحباب، لعدم التزاحم بين ما ليس له اقتضاء و ما له الاقتضاء.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «لا فيما اذا كان مؤدى احدهما حكما غير الزامي» و كان مؤدى الآخر حكما الزاميا «فانه حينئذ لا يزاحم الآخر» أي انه على هذا الفرض لا يزاحم ما كان غير الزامي لما كان الزاميا «ضرورة» انه اذا كان غير الالزامي لا اقتضاء له بالنسبة الى المرتبة العليا فلا يزاحم ما كان له الاقتضاء بالنسبة الى المرتبة العليا ل «عدم صلاحية ما لا اقتضاء فيه ان يزاحم به ما فيه الاقتضاء».

ص: 49

الالزامي، و يحكم فعلا بغير الالزامي، و لا يزاحم بمقتضاه ما يقتضي غير الالزامي، لكفاية عدم تمامية علة الالزامي في الحكم بغيره (1).

______________________________

(1) حاصل إلّا ان يقال: هو ان الدليل غير الالزامي له الاقتضاء ايضا بالنسبة الى عدم المرتبة العليا ثبوتا و إثباتا. فلا بد من التكلم فيه في مرحلة الثبوت و في مرحلة الاثبات ..

و اما الكلام في مرحلة الثبوت، فنقول: ان المصلحة في الدليل غير الالزامي كما انها يكون لها اقتضاء بالنسبة الى الحد غير الالزامي يكون لها اقتضاء ايضا بالنسبة الى عدم المرتبة العليا، لاقتضائها فعلية الحكم غير الالزامي، و فعلية الحد غير الالزامي تنافي فعلية الحد الالزامي، فلو كان هناك حد الزامي لكان منافيا لكون الحكم الفعلي هو الحد غير الالزامي. و على هذا الفرض يكون الدليل غير الالزامي مزاحما للدليل الالزامي، لانه كما ان الدليل الالزامي له اقتضاء بالنسبة الى المرتبة العليا فللدليل غير الالزامي اقتضاء ايضا بالنسبة الى عدمها، فيقع التزاحم بينهما بالنسبة الى المرتبة العليا التي هي حد الالزام، لان الدليل الالزامي يقتضي وجودها، و الدليل غير الالزامي يقتضي عدمها. و اما بالنسبة الى اصل الرجحان فلا تزاحم بينهما، بل كل منهما له اقتضاء بالنسبة اليه، و حينئذ فتكون النتيجة هو الحكم بالرجحان بعد تساقطهما في المرتبة العليا. هذا في مرحلة الثبوت.

و اما مرحلة الاثبات التي اشار اليها بقوله: «ان قضية اعتبار دليل غير الالزامي الى آخره»، فتوضيحها:

ان دليل الاعتبار الشامل للامارة المتكفلة للحكم غير الالزامي الاستحبابي يقتضي ان الحكم الفعلي هو الاستحباب على طبق مؤدى الامارة التي دلت عليه- بناء على السببية- و وجود المصلحة الفعلية في مؤدى الامارة، ففيما لو كان في الواقع مصلحة تقتضي الوجوب و كانت الامارة الدالة على الاستحباب لا مزاحم لها، فلا بد و ان هذه المصلحة الفعلية الاستحبابية لها اقتضاء بالنسبة الى عدم مرتبة اللزوم،

ص: 50

.....

______________________________

و ليست بالنسبة اليها لا اقتضاء، و إلّا لأثرت المصلحة الوجوبية و كانت هي الفعلية دون الاستحبابية، لعدم مزاحمة اللااقتضاء لما له اقتضاء، فيعلم من كون الحكم الفعلي هو الاستحباب ان المصلحة الاستحبابية لها اقتضاء بالنسبة الى عدم المرتبة الالزامية، بل يعلم منه اقوائية المصلحة غير اللزومية في مقام التأثير من المصلحة الالزامية لتغلبها عليها. هذا فيما اذا كانت الامارة الدالة على الاستحباب منفردة لا مزاحم لها.

و اما اذا كانت مزاحمة بالامارة الدالة على الوجوب فحيث ثبت ان الامارة الدالة على الاستحباب هي مما لها اقتضاء بالنسبة الى عدم المرتبة العليا الزائدة عليها فيتزاحمان في المرتبة العليا و هي مرتبة اللزوم، و تكون النتيجة مع الامارة الدالة على غير الالزام لكفاية اصل الرجحان في الحكم بالاستحباب بعد عدم الوجوب. هذا فيما اذا كانت الامارة متكفلة لحكم غير الزامي استحبابي.

و اما اذا كانت الامارة متكفلة لحكم غير الزامي و غير استحبابي كما في الامارة الدالة على الاباحة، فانه لا بد- بناء على السببية- ان تكون اقتضائية بالنسبة الى حكم الاباحة، و ان كانت الاباحة الواقعية يمكن ان تكون عن لا اقتضاء و يمكن ان تكون عن اقتضاء، لكنه بناء على السببية في مؤدى الامارة، و انها لا بد من وجود مصلحة على طبق مؤدى الامارة، فتكون الامارة على هذا واجدة لمصلحة اقتضت الاباحة، و حينئذ يقع التزاحم بينها و بين ما دل على الحكم الالزامي، لان الاباحة بعد ان كانت اقتضائية فهي تزاحم ما كان له اقتضاء الالزام، و النتيجة حينئذ بعد تساقطهما مع الاباحة، لكفاية عدم تمامية علة الحكم الالزامي في الحكم بعدم الالزام.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «إلّا ان يقال بان قضية اعتبار دليل غير الالزامي» بناء على السببية سواء كان دالا على الحكم الاستحبابي او على الاباحة «ان يكون عن اقتضاء» بالنسبة الى عدم المرتبة التي فوقه في الحكم الاستحبابي و بالنسبة الى الترخيص في العدم في الحكم الاباحتي «فيزاحم به حينئذ ما يقتضي» الحكم

ص: 51

نعم يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقا لو كان قضية الاعتبار هو لزوم البناء و الالتزام بما يؤدي إليه من الاحكام، لا مجرد العمل على وفقه بلا لزوم الالتزام به، و كونهما من تزاحم الواجبين حينئذ و إن كان واضحا، ضرورة عدم إمكان الالتزام بحكمين في موضوع واحد من الاحكام (1)، إلا أنه لا دليل نقلا و لا عقلا على

______________________________

«الالزامي» و تكون النتيجة مع غير الالزامي كما عرفت و «يحكم فعلا بغير الالزامي و لا يزاحم بمقتضاه» أي لا يزاحم بمقتضى الدليل الالزامي «ما يقتضي غير الالزامي لكفاية عدم تمامية علة» الحكم «الالزامي في» ان تكون النتيجة مع «الحكم بغيره».

(1) حاصله: انه استدرك عما ذكر من ان المتعارضين لو كان احدهما دالا على حكم الزامي و الآخر على حكم غير الزامي لا مورد للتخيير فيهما، لان الحكم غير الزامي ان كان لا اقتضاء فيه بالنسبة الى المرتبة العليا فالنتيجة تقديم الحكم الالزامي فلا تخيير، و ان كان عن اقتضاء لعدم المرتبة العليا فالنتيجة مع الحكم غير الالزامي فلا تخيير ايضا كما عرفت. فاستدرك كلامه هذا بما اشار اليه بقوله: «نعم يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقا الى آخر ما ذكره».

و توضيحه: ان المراد من قوله مطلقا هو كون الدليل غير الالزامي لو قلنا انه و ان كان لا اقتضاء له بالنسبة الى عدم المرتبة العليا الالزامية، لكنه يكون التعارض من باب التزاحم فيما اذا قلنا بان ادلة الاعتبار تدل على وجوب الموافقة الالتزامية، و انه يجب الالتزام بالمؤدى زيادة على جعل المؤدى على طبق ما اخبر به العادل بناء على السببية، فيكون لدليل الاعتبار دلالتان: دلالة على جعل المؤدى، و دلالة على وجوب الموافقة الالتزامية و هي وجوب الالتزام قلبا بهذا المؤدى .. و الوجه في ذلك ان المؤدى للخبر و ان كان غير الزامي، بل كان حكما استحبابيا عمليا لا اقتضائيا بالنسبة الى المرتبة العليا، إلّا ان الالتزام به قلبا يكون واجبا بناء على دلالة دليل

ص: 52

الموافقة الالتزامية للاحكام الواقعية فضلا عن الظاهرية، كما مر تحقيقه (1).

و حكم التعارض بناء على السببية فيما كان من باب التزاحم هو التخيير لو لم

______________________________

الاعتبار على وجوب الموافقة الالتزامية، و حينئذ فدليل الاستحباب و ان كان لا اقتضاء له بالنسبة الى دليل الوجوب من جهة المرتبة العليا، إلّا انه يجب الالتزام به كما يجب الالتزام بمؤدى الدليل الدال على الوجوب، فدليل الاعتبار بالنسبة الى وجوب الالتزام لا فرق فيه بين الدليل غير الالزامي اللااقتضائي و بين دليل الوجوب الاقتضائي. و حيث انه لا يعقل الالتزام قلبا بحكمين متنافيين في موضوع واحد فلا محالة يقع التزاحم بين الدليل الالزامي و الدليل غير الالزامي في وجوب الموافقة الالتزامية، و ان كان لا اقتضاء له، لانه بعد ان كان الالتزام بغير الالزامي واجبا كالالتزام بالدليل الالزامي فحيث لا يعقل الالتزام بهما معا يقع التزاحم بين هذين الواجبين.

و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «نعم يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقا» أي و ان كان الحكم غير الالزامي لا اقتضاء فيما «لو كان قضية الاعتبار هو لزوم البناء و الالتزام» قلبا «بما يؤدى اليه من الاحكام لا مجرد العمل على وفقه بلا لزوم الالتزام به» بان يكون لدليل الاعتبار دلالتان: العمل على وفق المؤدى، و وجوب الالتزام به «و كونهما من تزاحم الواجبين حينئذ و ان كان واضحا» لانه على هذا يجب الالتزام بالحكم غير الالزامي اللااقتضائي كما يجب الالتزام بالحكم الالزامي، فيكون التعارض بين الدليل غير الالزامي اللااقتضائي و الدليل الالزامي من باب تزاحم الواجبين بالنسبة الى وجوب الالتزام. و اشار الى وجه وقوع التزاحم بينهما بقوله: «ضرورة عدم امكان» وجوب «الالتزام بحكمين» متنافيين «في موضوع واحد من الاحكام».

(1) حاصله: ان التعارض يكون من باب التزاحم مطلقا، و ان كان بين الدليل غير الالزامي اللااقتضائي و الدليل الالزامي، فيما اذا قلنا بدلالة دليل الاعتبار على

ص: 53

يكن أحدهما معلوم الاهمية أو محتملها في الجملة، حسبما فصلناه في مسألة الضد، و إلا فالتعيين (1)، و فيما لم يكن من باب التزاحم هو لزوم الاخذ بما دل

______________________________

وجوب الموافقة الالتزامية زيادة على جعل الحكم على طبق مؤدى الخبر. إلّا انه قد تقدم في مبحث القطع انه لا دليل على وجوب الموافقة الالتزامية لا من العقل و لا من النقل في الاحكام الواقعية، فضلا عن الاحكام الظاهرية المجعولة للطرق في مقام الشك في الحكم الواقعي، و قد تبين هناك مفصلا انه لا دليل من العقل و لا من النقل على وجوب الالتزام بالحكم الواقعي قلبا، بل الدليل العقلي و النقلي لا يدلان على اكثر من موافقة الحكم الواقعي عملا و الجريان على طبقه عملا لا التزاما. فاذا كانت الموافقة لا تجب في الحكم الواقعي الواصل فبطريق اولى ان لا تجب الموافقة الالتزامية في الحكم الظاهري المجعول في مقام الشك في الحكم الواقعي، فدليل الاعتبار لا يدل على اكثر من الموافقة العملية، و لا دلالة له على وجوب الموافقة الالتزامية، فلا يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقا. و الى هذا اشار بقوله: «إلّا انه لا دليل نقلا و لا عقلا على الموافقة الالتزامية الى آخر الجملة».

(1) هذا هو الوجه الثالث من وجوه التعرض لما ذهب اليه الشيخ (قدس سره): من التخيير مطلقا.

و حاصله: انه لا وجه للتخيير مطلقا في المتعارضين بناء على السببية، حتى فيما كان الدليلان متكفلين لحكمين متضادين او متناقضين، بل فيما اذا احرز اهمية احدهما لزم تقديم الاهم فلا تخيير هنا كما مر بيان هذا في مسألة الضد.

و فيما اذا لم تحرز الاهمية في احدهما و لكن احتملنا الاهمية في احدهما فقد ذكر تفصيلا في حاشيته المباركة في هذا المقام، و حاصله: ان احتمال الاهمية ان كان منشؤه حدوث ملاك آخر و انطباقه على المورد، فحيث ان مرجعه الى احتمال تكليف آخر فهو مرفوع بادلة البراءة، و بعد رفعه بادلة البراءة يتساوى المتعارضان، و في مثله يحكم العقل بالتخيير كما لو قطعنا بعدم اهمية احدهما. و ان كان منشأ احتمال

ص: 54

.....

______________________________

الاهمية هو احتمال شدة الملاك و قوته في احدهما دون الآخر، فحيث ان شدة الملاك و قوته ليس مرجعه الى احتمال تكليف مستقل، بل في محتمل الاقوائية لا يكون هناك الا نفس التكليف بنحو اكيد، فاحتمال تأكد الطلب في احدهما لا مجرى فيه للبراءة، فلا بد من تعيين محتمل الاهمية اذ لا مدفع لهذا الاحتمال، فيحكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكليف الثابت في الجملة، و لا يقطع بالخروج عنه إلّا باتيان محتمل الاهمية، ففي مثل هذا الفرض لا وجه للقول بالتخيير مطلقا، بل يتعين الامتثال لخصوص محتمل الاهمية، و لا محالة يتقدم محتمل الاهمية.

فظهر ان مورد التخيير في المتعارضين الالزاميين انما هو فيما اذا لم يكن احد المتعارضين معلوم الاهمية، و فيما اذا لم يكن احدهما محتمل الاهمية ملاكا و مناطا، فانه في هذين الفرضين لا وجه للتخيير، بل لا بد من تقديم معلوم الاهمية و محتمل الاهمية. و انما يكون الحكم هو التخيير فيما اذا علم عدم الاهمية، أو كان احتمال الاهمية لانطباق عنوان آخر على احدهما كما مر بيانه.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و حكم التعارض بناء على السببية فيما كان من باب التزاحم» كما لو كان المتعارضان الزاميين «هو التخيير» و لكن ليس مطلقا بل هو «لو لم يكن احدهما معلوم الاهمية او محتملها في الجملة» بان لا يكون احتمال الاهمية لشدة الملاك و قوته «حسبما فصلناه في مسألة الضد» بالنسبة الى معلوم الاهمية و بالنسبة الى محتمل الاهمية في حاشية الرسائل على المقام «و إلّا فالتعيين» أي في معلوم الاهمية و في محتمل الاهمية لاحتمال شدة الملاك و قوته لا بد من التعيين، فانه لا تخيير في هذين الفرضين، بل لا بد من تقديم معلوم الاهمية و محتمل الاهمية.

ص: 55

على الحكم الالزامي، لو لم يكن في الآخر مقتضيا لغير الالزامي، و إلا فلا بأس بأخذه و العمل عليه، لما أشرنا إليه من وجهه آنفا (1)، فافهم (2).

______________________________

(1) هذا العطف منه هنا و ان كان اعادة لما سبق بيانه منه (قدس سره) إلّا انه لجمع نتيجة ما مر منه. و حاصله: ان ما ذكره الشيخ (قدس سره) من التخيير مطلقا بناء على السببية، بعد الغض عن الايراد الاول، و هو ان السببية انما هي فيما لم يعلم كذبه، فلا يكون لدليل الاعتبار على السببية اطلاق يشمل كلا الخبرين المتعارضين، فلو اعرضنا عن هذا و سلمنا الاطلاق في دليل الاعتبار على السببية، فتكون النتيجة هي التزاحم و التخيير في غير معلوم الاهمية او محتمل الاهمية لاحتمال قوة الملاك لا مطلقا، مضافا الى ما ذكره سابقا من عدم الاطلاق في التخيير فيما اذا كان احد المتعارضين غير الزامي و الآخر الزاميا، فانه مع كون غير الالزامي لا اقتضائيا تكون النتيجة تقديم الالزامي لا التزاحم و التخيير، و اذا كان غير الالزامي اقتضائيا كانت النتيجة هو العمل على طبق غير الالزامي فلا تخيير ايضا.

و قد اشار الى هذا بقوله: «و فيما لم يكن من باب التزاحم» و ذلك فيما اذا كان احد المتعارضين غير الزامي و الآخر الزاميا لا تزاحم بينهما فلا تخيير، بل اللازم «هو لزوم الاخذ بما دل على الحكم الالزامي لو لم يكن في الآخر مقتضيا غير الالزامي» بان كان غير الالزامي لا اقتضائيا «و إلّا» أي و ان كان غير الالزامي اقتضائيا «فلا بأس باخذه» أي فلا باس بأخذ غير الالزامي «و العمل عليه لما اشرنا اليه من وجهة آنفا» كما مر بيانه.

(2) لعله اشارة الى ما ذكره من التعريض الثالث على الشيخ: و هو لزوم تقديم محتمل الاهمية فيما اذا كان منشؤه احتمال شدة الملاك، لعدم جريان رفع ما لا يعلمون فيه لفرض تعينه بذاته و ان لم يكن متعينا بالفعل للمعارضة، و لكن احتمال شدة الملاك تعينه بالفعل.

ص: 56

هذا هو قضية القاعدة في تعارض الامارات، لا الجمع بينها بالتصرف في أحد المتعارضين أو في كليهما، كما هو قضية ما يتراءى مما قيل من أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح، إذ لا دليل عليه فيما لا يساعد عليه

______________________________

فان فيه: انه و ان لم تجر فيه البراءة النقلية و هي رفع ما لا يعلمون لعدم مجال للجعل الشرعي فيه بعد تعيّنه بذاته، الّا انه تجري فيه البراءة العقلية و هي قبح العقاب بلا بيان، لان لازم تعيّنه بالفعل صحّة العقاب عليه، و حيث انه لم يصل به بيان يعيّنه بالفعل يقبح العقاب عليه، و المفروض انه محض احتمال الاهمية من دون بيان فيه.

او انه اشارة الى ان ما ذكره من كون دليل الاعتبار يقتضي كون غير الالزامي اقتضائيا بالنسبة الى عدم المرتبة العليا لا يساعد عليه طبع الدليل الدال على الحكم غير الالزامي، فانه لا يقتضي اكثر من وجود مصلحة تقتضي هذا الحكم غير الالزامي، و اما كونه اقتضائيا- ايضا- لعدم المرتبة العليا فهي مئونة زائدة لا يساعد عليها نفس دليل الحكم غير الالزامي.

و ما ذكرناه من الوجه و هو ما اذا كان الدليل غير الالزامي منفردا و كان في مورده حكم واقعي لزومي فلا بد من غلبة المصلحة غير اللزومية على المصلحة اللزومية الواقعية، و الّا لكان الغالب هي المصلحة اللزومية، فلا وجه له لعدم لزوم غلبة المصلحة غير اللزومية، بل المصلحة غير اللزومية انما تنجزت لوصولها بالخبر الدال عليها، و المصلحة اللزومية لعدم وصولها لم تنجز، فلا داعي للالتزام بلزوم غلبة المصلحة غير اللزومية.

هذا مضافا الى ان فرض غلبة المصلحة غير اللزومية في مرحلة الثبوت و الواقع هو عدم وجود الحكم الواقعي على طبق المصلحة اللزومية، لفرض مغلوبيتها بالمصلحة غير اللزومية، و لازم هذا عدم الحكم الواقعي المشترك بين العالم و الجاهل، و هو تصويب مجمع على بطلانه. و اللّه العالم.

ص: 57

العرف مما كان المجموع أو أحدهما قرينة عرفية على التصرّف في أحدهما بعينه أو فيهما، كما عرفته في الصور السابقة (1)، مع أن في الجمع كذلك

______________________________

(1)

قاعدة (الجمع مهما امكن اولى من الطرح) و الاشكال عليها

قد عرفت مما مرّ ان القاعدة الاوليّة في الامارتين المتعارضتين بناء على الطريقيّة هي سقوط كلا الامارتين في مدلولهما المطابقي و حجيّة احدهما لا بعينه على مختاره، و بناء على السببيّة ايضا على مختاره هو حجيّة احدهما لا بعينه، و على مختار الشيخ (قدس سره) هو التخيير بما تقدّم من الكلام فيه. و ليس هناك قاعدة اخرى تقتضي في المتعارضين الجمع بينهما بالتصرّف في احدى الامارتين او في كليهما.

و الحاصل: انه بعد ما عرفت ان القاعدة الاولية في المتعارضين هي ما ذكرناه، فلا وجه لان يدعى ان القاعدة الاولى و ان كانت هي كما ذكر، الّا ان قاعدة الجمع مهما امكن اولى من الطرح تكون هي القاعدة التي يلزم اتباعها في المتعارضين، فهي كقاعدة ثانية مقدّمة على القاعدة الاولى في المتعارضين، لان قاعدة الجمع مهما امكن اولى من الطرح لا اصل لها.

و توضيح ذلك: ان قاعدة الجمع اولى من الطرح اما فيما يساعد العرف على الجمع بينهما بالتصرّف في احدهما كمورد الورود و الحكومة، او بالتصرّف في كليهما كما في بعض الموارد، فيما اذا كان لكل واحد من الدليلين نصّ من جهة و ظهور من جهة اخرى، فيؤخذ بنصّ كل منهما و يرفع اليد عن الظهور في كل منهما. فقد عرفت ان هذه الموارد كلها ليست من المتعارضين، و هي خارجة عن التعارض لان التعارض تنافي الدليلين لا المدلولين.

و اما فيما لا يساعد العرف على التصرّف في احدهما او في كليهما و هو مورد التعارض فلا مجال لهذه القاعدة، لان المراد من الامكان فيها المدلول للفظ مهما امكن: اما الامكان العرفي، و لازم ذلك كون الجمع مما يساعد عليه العرف، و قد عرفت ان ما يساعد عليه العرف خارج عن التعارض، و الكلام في التعارض و فيه

ص: 58

.....

______________________________

لا يساعد العرف على الجمع بينهما بالتصرّف، فلا يكون المراد من الامكان فيها هو الامكان العرفي.

و اما ان يراد منها هو الامكان العقلي، و فيه اولا: انه لا بد من دليل اما عقلي او نقلي يدل على انه مهما امكن عقلا الجمع فهو اولى من الطرح. و لا يخفى ان الامكان العقلي اعم مما يساعد عليه العرف و غيره مما لا يساعد عليه العرف، و منه يظهر ان مورد هذه القاعدة- بناء على ان المراد من امكان الجمع هو الامكان العقلي- مما يشمل ما هو خارج عن التعارض، و هو مورد الجمع الذي يساعد عليه العرف بالتصرّف في احدهما أو كليهما، و مورد التعارض المفروض انه لا يساعد العرف فيه على الجمع بالتصرّف في احدهما او كليهما. و قد ظهر مما مرّ انه فيما هو خارج عن التعارض الدليل على الجمع بينهما بالتصرّف في احدهما او فيهما هو مساعدة العرف على ذلك، كما مرّ بيانه في موارد الجمع المتقدّمة.

و الحاصل: انه فيما لا يساعد العرف على التصرّف فيه و هو مورد التعارض لا دليل من العقل على الجمع بينهما.

و ما استدل به على لزوم الجمع بين المتعارضين عقلا وجهان:

الاول: ان الاصل في الدليلين اعمالهما، فانه بعد فرض ان كل واحد من المتعارضين بنفسه يشمله دليل الاعتبار، فيكون الاصل في كل واحد منهما اعماله، فلا يجوز ان يطرحا معا و لا يجوز ان يؤخذ باحدهما دون الآخر لانه ترجيح بلا مرجّح، فلا بد من اعمالهما معا بالتصرّف في ظهور احدهما او كليهما.

فالقاعدة الاوليّة في المتعارضين و ان كان ما ذكر من سقوطهما او حجيّة احدهما او التخيير، الّا ان كون الاصل في الدليلين هو اعمالهما معا يكون هو القاعدة الثانية التي يلزم العمل بها في المتعارضين.

و يرد عليه أولا: ان دليل الاعتبار و ان كان يشمل كل واحد منهما لو كان منفردا، الّا انه بعد تعارضهما لا يعقل- بناء على الطريقية- شمول دليل الاعتبار

ص: 59

.....

______________________________

لهما معا مع كذب احدهما، لوضوح انه لا يعقل ان يكون الواقع مع كونه واحدا ان ينجّز بدليلين متنافيين. و بناء على السببيّة فانه و ان كان كل واحد منهما واجدا للمصلحة على طبق مؤدّاه، الّا انه بعد عدم امكان الجمع بين المصلحتين المتنافيتين لا يعقل شمول دليل الاعتبار لهما معا، فليس الاصل في المتعارضين لزوم اعمالهما، لان لزوم الاعمال انما هو لما كان حجة، و حيث لا يعقل حجتيهما معا فلا يكون الاصل في المتعارضين اعمالهما.

و ثانيا: ان التصرّف بعد فرض كونه مما لا يساعد العرف عليه لا بد و ان يكون تصرفا اقتراحيا، و لازم ذلك كون الاعمال اعمالا اقتراحيا، و الاصل المذكور انما يقتضي الاعمال العقلائي لا الاقتراحي، و حيث لا مجال للاعمال العقلائي لعدم مساعدة عليه، فلا يكون الاصل في المتعارضين الاعمال، لان الاعمال العقلائي لا مجال له، و الاقتراحي ليس اعمالا.

الوجه الثاني: ان القاعدة الاولى على ما ذكرتم- بناء على الطريقية- تقتضي سقوط كلا المتعارضين في الدلالة المطابقية، و بناء على السببية تقتضي التخيير مطلقا على رأي الشيخ (قدس سره)، و على رأي المصنف تقتضي ايضا سقوط كلا المتعارضين في الدلالة المطابقية، بناء على ان المجعول في السببية هو غير معلوم الكذب، و بناء على ان المجعول على السببية هو مؤدى الطريق من دون تخصيص لها بخصوص غير معلوم الكذب، فالنتيجة هي التخيير في بعض افراد المتعارضين.

و على كل حال فاللازم هو الطرح للدلالة المطابقية إما في كليهما او في احدهما.

و لا اشكال ان الدلالة المطابقية دلالة اصلية، فلازم ما ذكر هو اهمال دلالة اصلية، بخلاف اعمالهما معا فان لازمه اهمال دلالة تبعية لا اصلية.

و بيان ذلك: ان معنى اعمالهما معا هو رفع اليد عن شمول كل منهما لمورد المعارضة، بان يكون المراد من كليهما معنى يرتفع به التعارض بينهما، فيكون لازم الاعمال رفع اليد عن بعض مدلول الدليل، و شمول الدليل لهذا البعض تبع الدلالة

ص: 60

.....

______________________________

الاصلية الشاملة لمورد المعارضة، فالقاعدة الاولية في المتعارضين و ان كانت ما ذكر إلّا انه لما كان لازمها اهمال دلالة اصلية، و كان لازم الجمع بينهما اهمال دلالة تبعية، فقاعدة الجمع اولى من الطرح تكون هي القاعدة الثانية في المتعارضين.

و يرد عليه أولا: ان كون الجمع مستلزما لاهمال دلالة تبعية، بخلاف القاعدة الاولية فانها مستلزمة لاهمال دلالة اصلية، لا يوجب كون قاعدة الجمع هي القاعدة التي يلزم اتباعها في المتعارضين، لعدم كون ذلك برهانا عقليا محضا، و لا بناء عقلائيا لعدم بناء العقلاء الا على اصالة الظهور و اصالة الصدور و اصالة السند، و لا بناء من العقلاء على تقديم ما يستلزم الاهمال في الدلالة التبعية على ما يستلزم الاهمال في الدلالة الاصلية.

و ثانيا: ان لزوم تقديم ما يستلزم الدلالة التبعية على ما يستلزم الاهمال في الدلالة الاصلية لا يقتضي كون الجمع اولى من الطرح، لان الجمع برفع اليد عن بعض ما يشمله المدلول الاولي- ايضا- هو رفع يد عن الدلالة الاصلية، لان المفروض كون الدلالة الاصلية هي الشمول، فرفع اليد عن الشمول رفع يد عن الدلالة الاصلية ايضا، فلا يكون الجمع اولى من الطرح، لان في الجمع- ايضا- اهمالا لدلالة اصلية. هذا في الدليل العقلي على قاعدة الجمع.

و اما الدليل النقلي فغايته هو دعوى الاجماع المنقول عليها .. و فيه اولا: عدم حجية الاجماع المنقول. و ثانيا: انه لا صراحة في هذا الاجماع المنقول على ان المراد من امكان الجمع هو الامكان العقلي الشامل لما لا يساعد العرف على التصرف فيه الذي هو مورد التعارض، بل يحتمل ان يكون المراد من امكان الجمع هو الامكان العرفي المختص بما يساعد العرف على التصرف فيه، و هو مختص بغير مورد التعارض كما عرفت.

فاتضح مما ذكرنا: انه لا دليل لا من العقل و لا من النقل على هذه القاعدة لتكون هي القاعدة المتبعة في المتعارضين دون القاعدة الاولية. و الى ما ذكرنا اشار بقوله:

ص: 61

أيضا طرحا للامارة أو الامارتين، ضرورة سقوط أصالة الظهور في أحدهما أو كليهما معه، و قد عرفت أن التعارض بين الظهورين فيما كان سنداهما قطعيين، و في السندين إذا كانا ظنيين (1)، و قد عرفت أن

______________________________

«اذ لا دليل عليه فيما لا يساعد عليه العرف» الذي هو مورد التعارض. نعم الجمع اولى من الطرح فيما يساعد عليه العرف الخارج عن التعارض «مما كان المجموع او احدهما قرينة عرفية على التصرف في احدهما بعينه» كما في مثل الورود و الحكومة «او فيهما» و ذلك في بعض موارد التوفيق العرفي كما اذا كان لكل واحد من الدليلين نص من جهة و ظهور من جهة اخرى «كما عرفته في الصورة السابقة».

(1) هذا هو الايراد الثاني على قاعدة الجمع في المتن، لانه بعد ان اورد عليها أولا بانه لا دليل عليها لا من العقل و لا من النقل ... اضاف الايراد الثاني بقوله: «مع ان الى الى آخره».

و توضيحه: ان الاصول العقلائية في الطريق كالخبر الواحد- مثلا- ثلاثة: اصالة السند، و اصالة الظهور، و اصالة الصدور. و لازم كون القاعدة هي الجمع هو تقديم اصالة السند فيهما على اصالة الظهور، و لازم القاعدة الاولية المذكورة في المتعارضين هو سراية التعارض من الظهور فيهما الى سنديهما، في مثل الخبرين اللذين هما ظنيا السند ظنيا الدلالة، و بناء على قاعدة الجمع و التصرف في مدلولهما او مدلول احدهما هو المحافظة على اصالة السند فيهما و رفع اليد عن اصالة الظهور فيهما، ففي قاعدة الجمع في المتعارضين بالتصرف في مدلولهما او مدلول احدهما طرح لاصالة الظهور، فلم يخل العمل بقاعدة الجمع في المتعارضين عن طرح ايضا. و ما المرجح لاصالة السند على اصالة الظهور؟ نعم فيما كان السند في المتعارضين قطعيا يكون الجمع بالتصرف في مدلولهما او مدلول احدهما طرحا لاصالة الظهور خاصة، من دون تقديم لاصالة السند عليها، فقاعدة الجمع المذكورة لم تخل عن الطرح لاصالة الظهور على كل حال.

ص: 62

قضية التعارض إنما هو سقوط المتعارضين في خصوص كل ما يؤديان إليه من الحكمين، لا بقاؤهما على الحجية بما يتصرف فيهما أو في أحدهما، أو بقاء سنديهما عليها كذلك بلا دليل يساعد عليه من عقل أو نقل (1)،

______________________________

و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «مع ان في الجمع كذلك» بالتصرف في مدلولهما او مدلول احدهما «ايضا طرحا للامارة» بالتصرف في احدهما «او الامارتين» بالتصرف في كليهما «ضرورة سقوط اصالة الظهور في احدهما او كليهما معه» أي مع الجمع على كل حال كما عرفت. و اشار الى ان التعارض في الظهورين فقط فيما اذا كان السندان قطعيين، و في السندين ايضا فيما اذا كان السندان ظنيين كالظهورين بقوله: «و قد عرفت ان التعارض بين الظهورين الى آخر الجملة».

(1) حاصله: الاشارة الى ما مر تحقيقه: من ان القاعدة في الدليلين المتعارضين الظني السند و الظهور- كالخبرين- هي سقوط كلا المتعارضين عن الحجية سندا في جميع مدلولهما المطابقي، دون قاعدة الجمع التي مقتضاها بقاء سنديهما على الحجية و عدم سقوطهما في جميع مدلولهما المطابقي، بالتصرف في ظهورهما او في ظهور احدهما بما به ترتفع المعارضة بينهما. و مما ذكرنا يظهر نفي احتمال ثالث و هو بقاء سنديهما على الحجية و سقوطهما معا في الدلالة المطابقية، بدعوى ان المعارضة بينهما انما هي في مدلولهما، فلا مجال للاخذ باصالة الظهور فيهما بعد المعارضة، و بعد سقوطهما في الظهور لا معارضة بينهما من حيث السند، فلا مانع من التعبد بسنديهما، فتكون النتيجة بقاء سنديهما على الحجية و سقوطهما في الدلالة المطابقية.

و يرد عليه: ان التعبد بالسند مع عدم حجية الظهور لغو لا فائدة فيه، فلا وجه لبقاء سنديهما على الحجية مع عدم حجية الظهور فيهما معا.

و قد اشار الى ما هو المختار الذي مر تحقيقه بقوله: «و قد عرفت الى آخر الجملة». و الى عدم صحة قاعدة الجمع بقوله: «لا بقاؤهما على الحجية الى آخر الجملة». و الى نفي الاحتمال الثالث بقوله: «او بقاء سنديهما عليها» أي على

ص: 63

فلا يبعد أن يكون المراد من إمكان الجمع هو إمكانه عرفا، و لا ينافيه الحكم بأنه أولى مع لزومه حينئذ و تعينه، فإن أولويته من قبيل الاولوية في أولي الارحام، و عليه لا إشكال فيه و لا كلام (1).

______________________________

الحجية «كذلك» أي مع سقوطهما في الدلالة. و اشار الى ان الوجه في عدم صحة قاعدة الجمع و الاحتمال الثالث: انه لا دليل من العقل و لا من النقل يساعد على ما ذكروه بقوله: «بلا دليل يساعد الى آخر الجملة».

(1) حاصله: انه لو ثبت اجماع على القضية المذكورة التي استدل بها من قال بالجمع في المتعارضين، من ان الجمع مهما امكن اولى من الطرح، فحيث ان الامكان العقلي لا يصح ارادته كما عرفت، فلا يبعد ان يكون المراد من الامكان فيها هو الامكان العرفي الخارج عن مبحث التعارض كما مر، فيكون المراد بهذه القضية الثانية بالاجماع هو موارد الجمع العرفي الذي يساعد العرف فيه على التصرف اما في احدهما او في كليهما.

لا يقال: ان ظاهر لفظ الاولى في القضية المذكورة كون الجمع بالتصرف ليس متعينا بالذات، و لازم ذلك ان يكون موردها التعارض لكون الجمع بالتصرف ليس متعينا فيه، بل القاعدة الاولية تقتضي غير الجمع بالتصرف، بخلاف الجمع فيما يساعد عليه العرف فانه متعين بذاته.

فانه يقال: لا مانع من كون المراد من الاولى فيها هو التعين بالذات، و تكون الاولوية فيه كالاولوية في آية اولي الارحام بعضهم اولى ببعض، فان الاولوية في ميراث ذوي الارحام يراد بها التعين و اللزوم.

و قد اشار الى حمل القضية على الامكان العرفي بقوله: «فلا يبعد الى آخر الجملة». و اشار الى الاشكال المذكور بقوله: «و لا ينافيه الحكم بانه اولى» الظاهر في عدم تعين الجمع و لزومه «مع لزومه» أي مع كون الجمع لازما متعينا بناء على ان المراد منها هو الامكان العرفي، لان الجمع فيما يساعد العرف على التصرف فيه

ص: 64

فصل لا يخفى أن ما ذكر من قضية التعارض بين الامارات، إنما هو بملاحظة القاعدة في تعارضها، و إلا فربما يدعى الاجماع على عدم سقوط كلا المتعارضين في الاخبار، كما اتفقت عليه كلمة غير واحد من الاخبار (1)، و لا يخفى أن اللازم فيما إذا لم تنهض حجة على التعيين أو

______________________________

لازم «حينئذ و تعينه» واضح. و الى جوابه اشار بقوله: «فان أولويته من قبيل الاولويّة في اولي الارحام» فهو اولوية لزومية «و عليه لا اشكال فيه و لا كلام» أي حيث تكون الاولوية لزومية يرتفع الاشكال عن حمل القضية على الامكان العرفي.

(1)

الفصل الثالث: القاعدة الثانوية فى المتعارضين

اشارة

حاصله: انك قد عرفت ان القاعدة الاولى في المتعارضين من الطرق و الامارات تقتضي سقوط كلا المتعارضين في الدلالة المطابقية على الطريقية، و على السببيّة فالقاعدة الاولية تقتضي التخيير مطلقا على رأي الشيخ (قدس سره)، و على رأي المصنف هو سقوطهما- ايضا- في الدلالة المطابقية بناء على كون العلم بالكذب مانعا، و التخيير في بعض المقامات و التعيين في بعض المقدمات بناء على عدم كون العلم بالكذب مانعا كما مرّ بيانه.

و اما القاعدة الثانية ففي خصوص المتعارضين من الاخبار فقد قام الاجماع و جملة وافية من الاخبار على عدم سقوط كلا المتعارضين في الدلالة المطابقية. هذا هو القدر المتيقن من القاعدة الثانية.

و قد اشار الى هذا بقوله: «لا يخفى ان ما ذكر من قضية التعارض بين الامارات» من سقوط كلا المتعارضين في الدلالة المطابقية اما مطلقا او في بعض المقامات و في بعضها بالتخيير «انما هو بملاحظة القاعدة» الاولية «في تعارضها» أي في تعارض الامارات «و الّا» فبملاحظة القاعدة الثانوية «فربما يدعى الاجماع على عدم سقوط كلا المتعارضين في» خصوص «الاخبار» من الامارات المتعارضة «كما» انه يدل على ذلك ايضا ما «اتفقت عليه كلمة غير واحد من الاخبار».

ص: 65

التخيير بينهما هو الاقتصار على الراجح منهما، للقطع بحجيته تخييرا أو تعيينا، بخلاف الآخر لعدم القطع بحجيته، و الاصل عدم حجية ما لم يقطع بحجيته، بل ربما ادعي الاجماع أيضا على حجية خصوص الراجح (1)،

______________________________

(1)

تأسيس الاصل

حاصله: انه بعد ما عرفت ان القاعدة الثانوية في خصوص تعارض الاخبار:

هي عدم سقوط كلا المتعارضين في الدلالة المطابقية، و ان هذا هو القدر المتيقن من القاعدة الثانوية ... فلا بد من تأسيس اصل- بناء على هذه القاعدة الثانوية- قبل الدخول فيما تقتضيه الادلة الخاصة في المقام.

و الاصل يقتضي- بناء على الطريقية- الاقتصار على الراجح من الخبرين، لانه من دوران الامر بين التخيير و التعيين في المسألة الاصولية، فانا لو قلنا بالتخيير في دوران الامر بين التعيين و التخيير في المسألة الفرعية، لكن لا نقول به في المسألة الاصولية كما في المقام لان المشكوك هو الحجية و الامر دائر بين كون الحجة هو احدهما على التخيير، أو ان الحجة هو خصوص الراجح منهما .. و ليس التخيير في الحكم الفرعي و انه هل هو احدهما تخييرا او خصوص احدهما تعيينا؟

و توضيح ذلك: يتوقف على امور:

الاول: انه هل هناك مانع عقلي من التخيير بينهما بناء على الطريقية، ام لا مانع عقلا من التخيير حتى بناء على الطريقية؟

و ما يمكن ان يقال في وجه المانعية عن التخيير بناء على الطريقية: هو انه بناء على الطريقية ان الواقع واحد و قد جعلت الامارة طريقا الى تنجيزه، و حيث ان احدى الامارتين توافقه و الاخرى تخالفه، فجعل التخيير بين ما يوافق الواقع و ما يخالفه مناف لكون الداعي لجعل الامارة تنجيز الواقع بها و ايصالها له، فلا وجه للتخيير بين ما يوافق الواقع و بين ما يخالفه، مع فرض كون الواقع واحدا و ان الداعي للجعل ايصاله بالامارة، فكيف يجعل الشارع ما يخالف الواقع حجة مع كون الداعي لجعل الحجية هي الايصال؟

ص: 66

.....

______________________________

و الجواب عنه: ان محض موافقة الامارة للواقع ليست هي العلّة التامة لجعل الامارة، و الّا كانت كلّ امارة موافقة للواقع حجّة، فاختصاص جعل الحجيّة ببعض الامارات دون بعض- كخبر الثقة دون غيره- يكشف عن انه هناك شي ء آخر اوجب ان يختصّ الجعل ببعض الامارات دون بعضها، و ذلك الشي ء الآخر موجود في بعض الامارات دون بعضها الآخر.

فتحصّل مما ذكرنا: ان العلّة لجعل الامارة هي موافقة الواقع، و مصلحة اخرى موجودة في بعض الامارات دون بعضها، فاذا كان هناك شي ء آخر غير الاصابة و موافقة الواقع شريكا في جعل الحجية يتضح معقولية جعل التخيير في مورد التعارض، لان صرف موافقة احدى الامارتين للواقع ليست هي العلّة التامة لجعل الحجية حتى يكون التخيير بين ما يوافقه و ما لا يوافقه غير معقول، بل هناك مصلحة اخرى لا بد من انضمامها الى موافقة الواقع، و المصلحة الاخرى انما تتحقق في الامارة الموافقة حيث لا تعارض هذه الامارة امارة الاخرى التي هي العدل لهذه الامارة الموافقة، اما اذا عارضتها الامارة الاخرى فلا تكون الامارة الموافقة تامة المصلحة حتى تكون الحجية لها دون غيرها، و حيث لا تكون العلة تامة في الامارة الموافقة فلا مانع عقلا من جعل الحجية للامارة المخالفة بنحو التخيير.

الثاني: ان معنى الحجية بنحو التخيير هي كون كل واحدة من الامارتين منجزيتها متقوّمة بأمرين: موافقتها للواقع، و ترك العمل على طبق عدلها المعذّر.

و معذّريتها متقوّمة بأمرين ايضا: خطؤها و العمل على طبقها او على طبق عدلها.

الثالث: ان من الواضح ان المنجّز للواقع هو الحجة الواصلة، و المعذّر عن مخالفة الواقع هو الحجة الواصلة. و من البيّن ان الامارة الراجحة يعلم قطعا بكونها منجّزة للواقع اما تعيينا او تخييرا، و الامارة المرجوحة لا يعلم معذريتها عن الواقع، لاحتمال كون الامارة الراجحة هي الحجة تعيينا، فلا تكون موافقتها مقطوعة المعذريّة بالفعل، فالعقل يحكم بلزوم الاقتصار على الامارة الراجحة لانها معذّرة

ص: 67

.....

______________________________

قطعا للعلم بحجيتها اما تعيينا او تخييرا، و لا محالة ما هو مقطوع الحجية معذر قطعا، بخلاف الامارة المرجوحة فان العقل لا يجوز الاقتصار على موافقتها، لانه لم يعلم كون موافقتها معذرة عن مخالفة الامارة الراجحة، لاحتمال كون الامارة الراجحة هي الحجة تعيينا. فاذا كانت معذرية الامارة الراجحة واصلة بحكم العقل، و معذرية الامارة المرجوحة غير واصلة، فلا مانع من العقاب على مخالفة الامارة الراجحة لو كانت مصادفة للواقع، بخلاف الامارة المرجوحة فانه يقطع بعدم العقاب على مخالفتها و ان صادفت الواقع لموافقة عدلها الراجح الذي هو معذر عن مخالفتها.

و مما ذكرنا يظهر: ان اصالة البراءة غير جارية في المقام، لان مورد البراءة عدم وصول البيان، و بعد وصول حكم العقل بلزوم الاقتصار على الراجح لانه معذر قطعا، و عدم جواز الاقتصار على المرجوح لعدم القطع بمعذريته، و انه لا دافع لاحتمال العقاب على مخالفة الراجح لو اقتصرنا على المرجوح، فان هذا من العقل يكون بيانا واصلا، و مع وصول هذا البيان لا مجرى للبراءة. هذا كله بناء على الطريقية، و قد اتضح ان الاصل يقتضي الاقتصار على الراجح.

و اما بناء على السببية و الموضوعية، فقد مر ان الاصل الاولي و القاعدة الاولية هو حجية احدهما: تارة على التعيين، و اخرى على التخيير، فلا فائدة في هذه القاعدة الثانوية على القول بالسببية، لان القدر المتيقن منها- اما للاجماع او للاخبار- هو عدم سقوطهما معا عن الحجية. و بعد ان كانت القاعدة الاولية هو حجية احدهما تعيينا او تخييرا فالاجماع على عدم سقوطهما لا يفيد تعبدا جديدا. و مثله الاخبار الدالة على محض عدم سقوطهما لدلالة القاعدة الاولية على ذلك.

و اما ما يقتضيه الاصل في الخبرين الدالين على الحكم الالزامي، فيما اذا كان احد الخبرين ذا مزية دون الآخر، فانه حيث كان- بناء على السببية- كل واحد من الخبرين واجدا لملاك الحجية بالذات فهما مع الغض عن هذه المزية من الواجبين المتزاحمين، و لكن بملاحظة المزية يكون واجدها محتمل الاهمية. و قد مر من المصنف

ص: 68

الأخبار العلاجية

و استدل عليه بوجوه أخر أحسنها الاخبار (1)، و هي على طوائف:

______________________________

انه لا بد من الاقتصار على محتمل الاهمية، و عليه فالاصل بناء على السببيّة كالطريقية يقتضي الاقتصار على الراجح منهما، و لذا اطلق المصنف في المتن بان الاصل يقتضي الاقتصار على الراجح من دون تخصيص له بالطريقية، فقال (قدس سره): «و لا يخفى ان اللازم فيما اذا لم تنهض حجة» خاصة «على التعيين او التخيير بينهما» في الخبرين المتعارضين بعد كون القاعدة الثانوية المستفادة من الاجماع و الاخبار هو عدم سقوطهما معا عن الحجية، فالاصل في المقام «هو الاقتصار على الراجح منهما». ثم اشار الى الوجه في هذا الاصل بقوله: «للقطع بحجيّته» أي للقطع بحجية الراجح اما «تخييرا او تعيينا بخلاف الآخر» و هو المرجوح «لعدم القطع بحجيّته و» لما كان «الاصل» الاولي في الامارات هو «عدم حجية ما لم يقطع بحجيّته» فلا يكون المرجوح بحجة بالفعل «بل» مضافا الى هذا الاصل «ربما ادّعي الاجماع ايضا على حجية خصوص الراجح».

و لا يخفى حيث ان الاجماع المدعى في المقام من الاجماع المنقول أولا، و ثانيا انه محتمل المدرك .. فلذلك اشار الى ضعفه بقوله: «بل ربما ادعي الاجماع ايضا».

(1) قد عرفت ان الاصل في المقام يقتضي الاقتصار على خصوص الراجح، و عليه فذو المزية من الخبرين يكون هو الحجة الفعلية بمقتضى هذا الاصل، و قد استدل ايضا بلزوم الاقتصار على ذي المزية بوجوه أخر غير هذا الاصل سيأتي التعرّض لها، و لكن احسنها الاخبار الدالة على تقديم الراجح و هو ذو المزية.

و لا يخفى انه لو تمت دلالة الاخبار على حجية خصوص الراجح لكانت دليلا خاصا على التعيين للراجح، و معها لا مجال للاصل المذكور و ان كان موافقا لها، لوضوح ان الرجوع الى الاصل انما هو حيث لا يكون هناك دليل خاص، هذا اذا تمت دلالة الاخبار على تقديم الراجح و هو ذو المزية. و اما اذا لم تتم دلالة هذه

ص: 69

منها: ما دلّ على التخيير على الاطلاق، كخبر الحسن بن الجهم، عن الرضا- عليه السّلام: قلت: يجيئنا الرجلان و كلاهما ثقة بحديثين مختلفين و لا يعلم أيهما الحق، قال: فإذا لم يعلم فموسع عليك بأيهما أخذت. و خبر الحارث بن المغيرة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: إذا سمعت من أصحابك الحديث و كلّهم ثقة، فموسع عليك حتى ترى القائم فترد عليه. و مكاتبة عبد اللّه بن محمد إلى أبي الحسن عليه السّلام اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في ركعتي الفجر، فروى بعضهم: صل في المحمل، و روى بعضهم:

لا تصلها إلا في الارض، فوقع عليه السّلام موسع عليك بأية عملت و مكاتبة الحميري إلى الحجة عليه السّلام- إلى أن قال في الجواب عن ذلك حديثان ..

إلى أن قال عليه السّلام و بأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا (1)

______________________________

الطائفة من الاخبار، و تمت دلالة طائفة اخرى على التخيير كانت هذه الطائفة هي المقدمة على الاصل المذكور.

(1)

أخبار التخيير

لا يخفى ان الطوائف هي مطلق الاخبار: الدال بعضها على التخيير، و بعضها على التوقّف، و بعضها على الاحتياط، و بعضها على الترجيح، لا خصوص اخبار الترجيح كما يوهمه ظاهر عبارة المتن في قوله و هي على طوائف 6] بعد قوله و استدل عليه: أي على الترجيح بوجوه احسنها الاخبار، الّا انه بعد قوله و منها ما دلّ على التخيير يتعيّن ان مراده من الطوائف ما ذكرناه، فيكون ذلك على سبيل الاستخدام.

ثم ان الاخبار التي ذكرها في المتن اربعة: خبر الحسن بن الجهم 7] و خبر الحارث بن المغيرة(1)، و مكاتبة عبد اللّه بن محمد(2)، و مكاتبة الحميري 10].

ص: 70


1- 8. ( 3) الوسائل ج 18: 87/ 41، باب 9 من أبواب صفات القاضي.
2- 9. ( 4) الوسائل ج 18: 88/ 44، باب 9 من أبواب صفات القاضي.

.....

______________________________

و يدل على التخيير مطلقا في خبر الحسن قوله عليه السّلام: فاذا لم يعلم- أي الحق- فموسع عليك بايهما اخذت، فان مورد السؤال فيه هو الخبران المتعارضان الذي كان راوي كل واحد منهما ثقة، بحيث لو لا تعارضهما لما كان يسأل ابن الجهم عن الحكم فيهما، بل كان يأخذ بكل واحد منهما فيما لو كان منفردا. و جوابه عليه السّلام كان في ذلك الفرض هو جواز الأخذ بأيّ واحد منهما من دون تقييد بشي ء مما ذكر في اخبار الترجيح.

و مثله خبر الحارث فان قوله عليه السّلام فيه: (فموسع عليك حتى ترى القائم)، فانه و ان كان قد دلّ على التخيير مطلقا الى ان يلقى الامام عليه السّلام، الّا انه لو كان الاخذ بالراجح لازما لقيّده بذلك، و لو في تلك المدّة الواقعة بين سماع الاحاديث و لقاء الامام عليه السّلام.

و كذلك الحال في مكاتبة عبد اللّه بن محمد، فان قوله عليه السّلام: فموسع عليك بأيّة عملت، بعد كون السائل قد سأل عن تعارض الخبرين في صلاة ركعتي الفجر من انها هل تصلّى في المحمل كما رواه بعض الاصحاب، او تصلّى على الارض كما رواه البعض الآخر منهم؟ فاجابه عليه السّلام بانه موسع عليه باي واحد منهما اخذ.

الّا ان هذه المكاتبة قابلة للمناقشة:

أوّلا بانها خاصة لان السؤال فيها عن التعارض في خصوص ركعتي الفجر، فالتخيير في جوابه عليه السّلام لا اطلاق فيه يعم غير مورد السؤال.

و ثانيا: بانه لا تعارض في هذه الرواية، لانه لا يشترط في الصلاة الاستحبابية كيفيّة خاصة، و التعارض انما هو حيث يكون الحكم الواقعي واحدا، و حيث ان الحكم الواقعي في الصلاة الاستحبابية عدم اشتراطها بكيفيّة خاصة فلا تعارض هنا.

و ثالثا: انه لو تعدّينا عن المورد لكان لنا التخيير في خصوص تعارض المستحبات، و التخيير في المستحبات لا يستلزم التخيير في تعارض الالزاميات، فان المستحبات

ص: 71

إلى غير ذلك من الاطلاقات (1).

و منها: ما دلّ على التوقف مطلقا (2).

______________________________

نختلف عن الالزاميات في جملة من الاحكام، فليس لنا التعدّي من الحكم فيها الى الالزاميات.

و اما مكاتبة الحميري فالحال فيها كمكاتبة عبد اللّه بن محمد، لان قوله- عجّل اللّه فرجه- فيها: و بايهما اخذت من باب التسليم كان صوابا يدل على التخيير مطلقا.

و لكنها واردة ايضا في خصوص تعارض المستحبات، و المناقشة كالمناقشة في مكاتبة عبد اللّه بن محمد.

(1) قد عرفت ان المصنف ذكر في المتن اربع روايات مما تدل على التخيير مطلقا.

و لما كان هناك روايات اخرى تدل باطلاقها على التخيير مطلقا- ايضا- اشار الى ذلك بقوله: «الى غير ذلك من الاطلاقات».

منها ما في العيون في خبر طويل عن الرضا عليه السّلام قال في آخره: (و بايهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم)(1).

و منها ما في الكافي عن ابي عبد اللّه عليه السّلام (قال سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من اهل دينة في امر كلاهما يرويه، احدهما يامره و الآخر ينهاه، كيف يصنع؟ قال عليه السّلام: (يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه)(2). ثم قال صاحب الكافي: و في رواية اخرى بايهما اخذت من باب التسليم وسعك.

(2)

أخبار الوقوف

لا يخفى ان الاخبار التي تدل على التوقف مطلقا في خصوص مورد التعارض:

هو خبر سماعة عن ابي عبد اللّه عليه السّلام (قلت يرد علينا حديثان واحد يامرنا بالاخذ به و الآخر ينهانا عنه. قال عليه السّلام: لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله.

ص: 72


1- 11. ( 1) عيون اخبار الرضا( ط. قم) ج 1، ص 290، حديث 39.
2- 12. ( 2) الكافي ج 1: ص 66، حديث 7.

و منها: ما دلّ على ما هو الحائط منها (1).

______________________________

قلت لا بد ان نعمل بواحد منهما. قال عليه السّلام: خذ بما فيه خلاف العامة)(1) و هذا و ان كان ملحوقا بالترجيح الّا انه في خصوص ما لا بد فيه من العمل، فلا ينافي دلالته على التوقف مطلقا، لان الظاهر مما لا بد فيه من العمل هو مورد الدوران بين المحذورين، و هو خارج عن مورد جعل التوقف شرعا، و التخيير فيه عقلي.

و مكاتبة محمد بن علي بن عيسى الى على بن محمد عليه السّلام يسأله عن العلم المنقول الينا عن آبائك و اجدادك عليهم السّلام (قال قد اختلف علينا فيه فكيف العمل به على اختلافه؟ أو الردّ اليك فيما اختلف فيه؟ فكتب عليه السّلام: ما علمتم انه قولنا فالزموه، و ما لم تعلموا فردّوه الينا) و قوله عليه السّلام: ما لم تعلموا فردّوه الينا بعد ان كان السؤال عن مورد الاختلاف يدل على التوقف مطلقا.

(1)

أخبار الاحتياط

لا يخفى انه لا يوجد ما يدل على الاحتياط مطلقا في مورد التعارض، فان ما يدل على الحائطة مطلقا هو ما ذكر في مبحث البراءة، و المفروض ذكر الطوائف في مورد التعارض، و ليس في مورد التعارض ما يدل على الاحتياط مطلقا.

الّا ان يقال: ان تلك الاخبار التي ذكرت في البراءة لا بد و ان يكون موردها التعارض أو تكون محمولة عليه، لما عرفت من انه لا تعارض في موارد الجمع العرفي، بل لا بد فيها من حمل العام على الخاص و المطلق على المقيد و المورود على الوارد و المحكوم على الحاكم. و لا مجال للاحتياط لعدم التحيّر فيها، فان الجمع فيها بما مرّ لازم عند العرف. و على كل فلم يرد لزوم الاحتياط ابتداء بعنوان التعارض.

نعم في المقام قد ورد الامر بالاحتياط بعد فقد المرجحات ايضا. فليس في المقام ما يدل على الاحتياط مطلقا.

ص: 73


1- 13. ( 1) الوسائل ج 18: 88/ 42، باب 9 من ابواب صفات القاضي.

و منها: ما دلّ على الترجيح بمزايا مخصوصة و مرجحات منصوصة، من مخالفة القوم و موافقة الكتاب و السنة، و الاعدليّة، و الأصدقيّة، و الافقهية و الأورعيّة، و الاوثقية، و الشهرة (1) على اختلافها في الاقتصار على بعضها و في الترتيب بينها (2).

و لاجل اختلاف الاخبار اختلفت الانظار (3).

______________________________

(1)

أخبار الترجيح

لا يخفى ان الشيخ الاجل في رسائله قد استقصى الاخبار الدالة على الترجيح بمزايا خاصة، الّا انه سيأتي ان عمدة الاخبار الدالة على الترجيح هي مقبولة عمر بن حنظلة و مرفوعة زرارة لانهما اجمع الاخبار بالنسبة الى المزايا المقتضية لترجيح ذي المزية على عدله.

(2) حاصله: ان اخبار الترجيح مختلفة من جهتين: من جهة سعة المزايا و كثرتها، فان المقبولة اوسع الاخبار لذكر المزايا. و من جهة الاختلاف في ترتيب المزايا من حيث التقديم و التأخير، فان في المقبولة اخّر الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالاعدليّة، و جملة من مزايا اخرى. و في المرفوعة قدّم الترجيح بالشهرة على الترجيح بالاعدليّة، و غيرها من المزايا.

و الى هاتين الجهتين في اخبار الترجيح اشار بقوله: «على اختلافها». الى الجهة الاولى اشار بقوله: «في الاقتصار على بعضها»، و الى الجهة الثانية اشار بقوله:

«و في الترتيب بينها».

(3) توضيحه: ان الطوائف المتقدّمة و ان كان قد عدّها المصنف اربعا، إلّا انه حيث لم يوجد في مورد التعارض بعنوان التعارض ما يدل على الاحتياط مطلقا، فلا قائل به.

و اما ما دلّ على التوقف كخبر سماعة و مكاتبة محمد بن علي بن عيسى فلم يقل به احد في مورد التعارض، لضعف خبر سماعة و اعراض المشهور عن العمل بهما.

فالاقوال في المقام هي: في التخيير مطلقا، او بعد عدم المزية فيهما، او لوجود المزية في كل منهما. أما اذا كانت المزيّة في احدهما فالترجيح لذي المزيّة. و على

ص: 74

فمنهم من أوجب الترجيح بها، مقيدين بأخباره إطلاقات التخيير، و هم بين من اقتصر على الترجيح بها، و من تعدى منها إلى سائر المزايا الموجبة لأقوائية ذي المزية و أقربيته، كما صار إليه شيخنا العلامة أعلى اللّه مقامه، أو المفيدة للظن، كما ربما يظهر من غيره (1).

______________________________

القول بالترجيح هل يجب الاقتصار فيه على المزايا المنصوصة، او يتعدّى عنها الى غيرها؟

و لا يخفى ان السبب في الاختلاف و تعدد الاقوال هو اختلاف الاخبار، لان بعضها كما عرفت دلّ على التخيير مطلقا، و بعضها يدل على الترجيح ثم التخيير.

و اختلاف الانظار فيما يستفاد منها من لزوم الاقتصار على المزايا المنصوصة أو التعدّي عنها الى غيرها من المزايا غير المنصوصة.

(1)

الاقوال المشار اليها في الترجيح ثلاثة

الاقوال التي اشار اليها المصنف في الترجيح ثلاثة، و لازم هذه الثلاثة كلها هو تقييد اطلاقات اخبار التخيير المتقدمة:

الاول: تقييد اطلاقات اخبار التخيير بين بلزوم الترجيح بخصوص المزايا المنصوصة في اخبار الترجيح بلا تعدّ منها الى غيرها، و هو مذهب الاخباريين و نسب الى المشهور ايضا.

الثاني: التعدّي منها الى غيرها من المزايا غير المنصوصة مما توجب اقوائية ذي المزية و اقربيته نوعا، و ان لم يحصل منها الظن الفعلي الشخصي.

الثالث: التعدّي منها الى غيرها مما يفيد الظن الشخصي الفعلي.

و الى الاول اشار بقوله: «و هم بين من اقتصر على الترجيح بها»، و الى الثاني اشار بقوله: «و من تعدى منها الى سائر المزايا الموجبة لأقوائية ذي المزية و اقربيته».

و حيث انه في قبال ما يفيد الظن الشخصي الفعلي، فلا بد و ان يكون المراد بالاقوائية و الاقربية النوعية. و الى الثاني ذهب الشيخ الاجل في رسائله، كما اشار الى ذلك بقوله: «كما صار اليه شيخنا العلامة اعلى اللّه مقامه» و الى الثالث اشار بقوله:

ص: 75

فالتحقيق أن يقال: إن أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الاخبار هو المقبولة و المرفوعة (1)، مع اختلافهما و ضعف سند المرفوعة

______________________________

«او المفيدة للظن كما ربما يظهر من غيره». و لم يذكر المصنف من الذي يظهر من كلامه ذلك.

(1)

تحقيق فساد الاقوال الثلاثة

لما كان مختار المصنف (قدس سره) هو التخيير مطلقا في المتعارضين ... شرع في تحقيق فساد كون الترجيح لازما من أصله، و منه يظهر فساد الاقوال الثلاثة المتقدّمة.

و لما كان عمدة اخبار الترجيح هي المقبولة و المرفوعة جعلهما هدف التحقيق لما يدل على فساد استفادة لزوم الترجيح منهما بحيث يعم مورد الفتوى.

و لا بأس بذكر نفس الروايتين تيمّنا و تبرّكا و تتميما للفائدة.

مقبولة عمر بن حنظلة

اما المقبولة فهي مقبولة عمر بن حنظلة (قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجلين من اصحابنا يكون بينهما منازعة في دين او ميراث فتحاكما الى السلطان او الى القضاة أ يحل ذلك؟ قال عليه السّلام: من تحاكم اليهم في حق او باطل فانما تحاكم الى الطاغوت الى ان قال- قلت: فان كان كل رجل يختار رجلا من اصحابنا فرضيا ان يكونا الناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما و كلاهما اختلفا في حديثكم. قال عليه السّلام: الحكم ما حكم به اعدلهما و أفقههما و اصدقهما في الحديث و اورعهما، و لا يلتفت الى ما يحكم به الآخر. قلت: فانهما عدلان مرضيان عند اصحابنا لا يفضل واحد منهم على الآخر قال عليه السّلام ينظر الى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين اصحابك فيؤخذ به من حكمهما، و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند اصحابك، فان المجمع عليه لا ريب فيه- الى ان قال- قلت فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم. قال عليه السّلام: ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب و السنة و خالف العامة فيؤخذ به و يترك ما خالف الكتاب و السنة و وافق العامة. قلت جعلت فداك: أ رأيت ان كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب و السنة فوجدنا احد الخبرين موافقا للعامة و الآخر مخالفا بايّ الخبرين يؤخذ؟ قال عليه السّلام: ما

ص: 76

جدا (1)، و الاحتجاج بهما على وجوب الترجيح في مقام الفتوى لا يخلو عن إشكال، لقوة احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع

______________________________

خالف العامة ففيه الرشاد. قلت جعلت فداك: فان وافقهم الخبران جميعا. قال عليه السّلام: ينظر الى ما هم اميل اليه حكّامهم و قضاتهم فيترك و يؤخذ بالآخر. قلت:

فان وافق حكامهم الخبرين جميعا. قال عليه السّلام: اذا كان ذلك فارجه حتى تلقى امامك فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات) ...(1) انتهت هذا الرواية المباركة.

مرفوعة زرارة

و اما المرفوعة فهي الرواية التي ذكرها صاحب عوالي اللآلي عن كتب العلامة (قدس سرهما) رفعها عن زرارة (قال سألت أبا جعفر عليه السّلام فقلت جعلت فداك:

يأتي عنكم الخبران و الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ فقال عليه السّلام: يا زرارة خذ بما اشتهر بين اصحابك ودع الشاذ النادر. فقلت يا سيدي: انهما معا مشهوران مأثوران عنكم فقال عليه السّلام: خذ بما يقول اعدلهما عندك و اوثقهما في نفسك. فقلت:

انهما معا عدلان مرضيان موثقان. فقال عليه السّلام: انظر ما وافق منهما العامة فاتركه و خذ بما خالف، فان الحق فيما خالفهم. قلت ربما كانا موافقين لهم او مخالفين فكيف اصنع؟ قال عليه السّلام: إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك و اترك الآخر. قلت:

فانهما معا موافقان للاحتياط او مخالفان له فكيف اصنع؟ فقال عليه السّلام: اذا فتخير احدهما فتأخذ به ودع الآخر)(2).

(1)

اشكالات المصنف في الاستدلال بهما على وجوب الترجيح

قد عرفت انهما مختلفان من جهة كثرة المزايا المرجحة و قلتها، فان المقبولة اكثر، لانه في المرفوعة اقتصر على الاعدل، لان الظاهر من الاوثق في نفسك هو الاعدل،

ص: 77


1- 14. ( 1) الكافي ج 1، ص 67، ح 10.
2- 15. ( 2) عوالي اللآلي ج 4، ص 133.

.....

______________________________

و في المقبولة ضم اليه الافقه و الاصدق و الاورع، و في المقبولة موافقة الكتاب و ليس موجودا في المرفوعة، و في المقبولة الحكم الذي كان حكامهم و قضاتهم اميل اليه، و ليس له ذكر في المرفوعة.

نعم في المرفوعة موافقة الاحتياط و لم تذكر في المقبولة، كما انه أمر في المقبولة بالارجاء عند التساوي، و في المرفوعة بالتخيير.

و من جهة الترتيب- ايضا- مختلفان فانه في المقبولة الاعدلية و الصفات الاخرى للراوي مقدمة على الشهرة، و في المرفوعة الشهرة مقدمة على الاعدلية.

و لو كان الترجيح بهذه المزايا لازما لوقع التعارض بين المقبولة و المرفوعة للاختلاف المذكور.

إلّا ان يقال: ان المرفوعة ضعيفة السند جدا، و لم توجد في كتب العلامة التي ذكر صاحب العوالي انه نقله عنها. و قد طعن فيها صاحب الحدائق الذي ليس من مبناه الطعن في الروايات. فلا تعارض بين المقبولة و المرفوعة، لان المقبولة مروية في كتب الحديث و قد قبلها المشهور و لهذا سميت بالمقبولة. فالقائل بلزوم الترجيح يقتصر على المقبولة، و القائل بلزوم الاقتصار على المزايا المنصوصة يقتصر ايضا على ترتيب المقبولة.

و قد اشار المصنف الى ضعف سند المرفوعة بقوله: «و ضعف سند المرفوعة جدا» و ظاهره ايضا ضعف المقبولة سندا إلّا ان المرفوعة اشد ضعفا، و لكن بعد ان كان المشهور قبلوها و اعتمدوا عليها و لذا سميت بالمقبولة فضعف سندها منجبر بذلك.

و لا يخفى ان الاختلاف و ضعف السند هو الاشكال الاول الذي اشار اليه المصنف في روايات الترجيح.

ص: 78

المنازعة و فصل الخصومة كما هو موردهما، و لا وجه معه للتعدي منه إلى غيره، كما لا يخفى (1).

و لا وجه لدعوى تنقيح المناط، مع ملاحظة أن رفع الخصومة بالحكومة في صورة تعارض الحكمين، و تعارض ما استند إليه من

______________________________

(1) هذا هو الاشكال الثاني عليها. و حاصله: انه حيث كانت المرفوعة ضعيفة السند جدا فهي غير قابلة للاحتجاج بها، لان المستند لا بد و ان يكون جامعا لشرائط الوثوق و هو منتف في المرفوعة، فالاحتجاج للترجيح بالمزايا لا بد و ان يكون المستند فيه هي المقبولة. إلّا ان الاحتجاج بها و الاستناد اليها في مقام الفتوى لا يخلو عن الاشكال.

و وجهه ان مورد المقبولة هو التنازع، و من الواضح ان التنازع لا يعقل فيه التخيير، لان التخيير لا يرفع الخصومة، لان كل واحد من المتخاصمين يختار ما يوافق مدعاه فلا ترتفع الخصومة، فلا مجال للتخيير في مورد التنازع و المخاصمات، و لا ترتفع الخصومة إلّا بالترجيح، او بايقاف الدعوى حتى يلقى الامام عليه السّلام. و مع كون المورد مما لا يصح فيه التخيير فلا وجه للتعدي بواسطة المقبولة التي موردها لا يقبل التخيير الى المورد الذي يقبل التخيير و هو مقام الفتوى، فيقال بلزوم الترجيح فيه كما في مقام التنازع.

و الى هذا اشار بقوله: «لقوة احتمال اختصاص الترجيح بها» أي بالمقبولة «بمورد الحكومة لرفع المنازعة و فصل الخصومة كما هو موردهما» لما عرفت من ان مقام التنازع لا يعقل فيه التخيير لعدم امكان رفع الخصومة به، و لا بد فيه من الترجيح او الايقاف.

و اشار الى ان مورد المقبولة حيث كان لا يقبل التخيير فلا وجه للتعدي عنه الى ما يقبل التخيير، بان يكون الحال فيما يقبل التخيير هو لزوم الترجيح ايضا بقوله:

«و لا وجه معه» أي لا وجه مع كون مورد المقبولة مما لا يقبل التخيير و هو مورد التنازع «للتعدي منه الى غيره» و هو المورد الذي يقبل التخيير و هو مورد الفتوى.(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 9 ؛ ص80

ص: 79


1- 16. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

الروايتين لا يكاد يكون إلا بالترجيح و لذا أمر عليه السّلام بإرجاء الواقعة إلى لقائه عليه السّلام في صورة تساويهما فيما ذكر من المزايا، بخلاف مقام الفتوى (1) و مجرد مناسبة الترجيح لمقامها أيضا لا يوجب ظهور الرواية في وجوبه مطلقا و لو في غير مورد الحكومة، كما لا يخفى (2).

______________________________

(1) حاصله: انه لا وجه لان يدعى تنقيح المناط بين مورد التنازع و مورد الفتوى، بان الغرض في كل منهما بيان ما هو الحكم، و كما ان مورد التنازع و تعارض الروايات فيه لا ينتهي إلّا بالحكم الشرعي، فكذا مورد الفتوى.

و الوجه في عدم صحة تنقيح المناط: هو لان التعارض لا يرتفع إلّا بالحكم الشرعي البات، فالترجيح في مورد التنازع لبيان الحكم الشرعي البات الذي لا تخيير فيه، و هذا المناط غير موجود في مورد الفتوى عند تعارض الروايات لامكان التخيير فيه.

و بما ذكرنا تعرف انه لا وجه لتنقيح المناط، لانه لا بد في تنقيح المناط من تساوي المقيس و المقيس عليه، و لا تساوي بينهما هنا لما عرفت من ان مورد التنازع مما لا يقبل التخيير، بخلاف مورد الفتوى فانه يقبل التخيير، و مع هذا الاختلاف بينهما لا وجه لتنقيح المناط و التعدي عن مورد الخصومة الى مورد الفتوى.

و الى هذا اشار بقوله: «و لا وجه لدعوى تنقيح المناط» ليكون الترجيح في مورد التنازع جاريا- ايضا- في مورد الفتوى، فانه لا وجه لوحدة المناط فيهما «مع ملاحظة ان رفع الخصومة» لا يكاد يكون الا «بالحكومة» و «في صورة تعارض الحكمين و تعارض ما استند اليه من الروايتين لا يكاد يكون إلّا بالترجيح» او بالايقاف «و لذا امر عليه السّلام بارجاء الواقعة الى لقائه عليه السّلام في صورة تساويهما فيما ذكر من المزايا» و لا مجال للتخيير فيه «بخلاف مقام الفتوى» فان للتخيير مجالا فيه.

(2) توضيحه: ان مقام الفتوى مما يمكن فيه الامور الثلاثة: الترجيح بالمزايا، و التوقف، و التخيير. و مقام المخاصمة يختص بالترجيح و التوقف، و لا يعقل فيه التخيير.

ص: 80

و إن أبيت إلا عن ظهورهما في الترجيح في كلا المقامين، فلا مجال لتقييد إطلاقات التخيير في مثل زماننا مما لا يتمكن من لقاء الامام عليه السّلام بهما، لقصور المرفوعة سندا و قصور المقبولة دلالة، لاختصاصها بزمان التمكن من لقائه عليه السّلام (1)، و لذا ما أرجع إلى التخيير بعد فقد

______________________________

و ليس لقائل ان يقول: ان الترجيح كما يناسب مقام المخاصمة كذلك يناسب مقام الفتوى، فلا مانع من تنقيح المناط في مقام الفتوى بعد ان كان الترجيح يناسب المقامين.

لان مجرد المناسبة بين المقامين بامكان الترجيح فيهما لا يصحح تنقيح المناط، بل لا بد من مساواة المقيس و المقيس عليه في عامة الجهات، و حيث كان مورد المقيس عليه و هي المقبولة في خصوص المخاصمة الذي لا يناسبه التخيير، فلا تتم المساواة في عامة الجهات بينهما حتى يصح تنقيح المناط. و الى هذا اشار بقوله: «و مجرد مناسبة الترجيح لمقامها» أي لمقام الفتوى كما هو مناسب لمقام المخاصمة «ايضا لا يوجب ظهور الرواية في وجوبه مطلقا و لو في غير مورد الحكومة» و المخاصمة بحيث يكون شاملا لمقام الفتوى «كما لا يخفى».

(1) حاصله: انه مع التنزل و تسليم دلالة المقبولة و المرفوعة على وجوب الترجيح مطلقا حتى في مقام الفتوى، فلا بد من الاقتصار على وجوب الترجيح في مقام الفتوى في زمان الحضور دون زمان الغيبة، فان ادلة التخيير مطلقة شاملة لزمان الحضور و زمان الغيبة، و لا تصلح المقبولة و المرفوعة لتقييد هذا الاطلاق بحيث يشمل التقييد زمان الغيبة، لان المرفوعة و ان لم تكن مقيدة بزمان الحضور، إلّا ان ضعف سندها جدا مانع عن قابليتها لتقييد مطلقات التخيير، لان المقيد لا بد و ان يكون بالغا مرتبة الحجية حتى يكون صالحا لتقييد المطلقات، فان المطلق انما يجب تقييده بالمقيد لكون المقيد حجة اقوى منه، و المرفوعة حيث انها ليست بحجة لضعفها جدا فلا تصلح لتقييد مطلقات التخيير.

ص: 81

الترجيح (1)، مع أن تقييد الاطلاقات الواردة في مقام الجواب عن سؤال حكم المتعارضين- بلا استفصال عن كونهما متعادلين أو متفاضلين، مع

______________________________

و اما المقبولة فمضافا الى ما عرفت من ان صدرها مختص بمورد الحكومة و المخاصمة، و مع التنزل عنه فان ذيلها مختص بزمان الحضور، فلو كانت شاملة لمقام الفتوى لاختص ذلك بالفتوى في زمان الحضور و لا تشمل الفتوى في زمان الغيبة، لانه عليه السّلام بعد فرض تساوي المتعارضين امره بالارجاء الى ان يلقى الامام عليه السّلام، و الارجاء الى ان يلقى الامام مختص بزمان الحضور، فلو كانت المقبولة شاملة لمقام الفتوى لكانت دالة على وجوب الترجيح في زمان الحضور دون الغيبة، فلا تكون المقبولة صالحة لتقييد اطلاق ادلة التخيير حتى في زمان الغيبة و ان كانت شاملة لمقام الفتوى.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و ان ابيت الا عن ظهورهما» أي المرفوعة و المقبولة «في الترجيح في كلا المقامين» أي في مقام الحكومة و مقام الفتوى و مع ذلك «فلا مجال لتقييد اطلاقات التخيير» حتى «في مثل زماننا» و هو زمان الغيبة الذي هو «مما لا يتمكن من لقاء الامام عليه السّلام» فيها «بهما» أي بالمرفوعة و المقبولة، فمتعلق هذا الجار و المجرور هو قوله فلا مجال لتقييد اطلاقات التخيير. و حاصله: انه مع التنزل و تسليم ظهور المرفوعة و المقبولة لشمول الترجيح لمقام الفتوى فلا مجال لتقييد اطلاقات التخيير بهما «لقصور المرفوعة سندا» فليست بالغة مرتبة الحجية حتى تصلح لتقييد المطلقات المذكورة «و قصور المقبولة دلالة لاختصاصها» بواسطة ذيلها «بزمان التمكن من لقائه عليه السّلام» و هو زمان الحضور فانه في ذيلها بعد فرض التساوي امر عليه السّلام بالارجاء الى لقائه عليه السّلام.

(1) هذا شاهد على اختصاص المقبولة بزمان الحضور. و حاصله: ان تقييد المطلق على نحوين فانه: تارة يكون موجبا لتضييق دائرة الاطلاق في خصوص بعض افراد المطلق، كما لو قال اكرم العالم، ثم ورد تقييده بخصوص العادل من افراد العالم.

ص: 82

ندرة كونهما متساويين جدا- بعيد قطعا، بحيث لو لم يكن ظهور المقبولة في ذاك الاختصاص لوجب حملها عليه أو على ما لا ينافيها من الحمل على الاستحباب، كما فعله بعض الاصحاب (1)، و يشهد به الاختلاف

______________________________

و اخرى يكون التقييد موجبا لا خراج بعض افراد المطلق من دون دلالة له على التخصيص ببعض الافراد، و في مثله لا بد و ان يكون الاخراج غير منته، لاهمال الاطلاق و عدم العمل به اصلا لاستلزامه لغوية الاطلاق. و المقبولة لو كانت دالة على وجوب الترجيح حتى في زمان الغيبة لكانت دالة على ان المتعارضين عند عدم تساويهما لا بد من الترجيح و عند تساويهما لا بد من ايقاف العمل بهما، فلا يبقى مورد لاطلاقات التخيير.

لا يقال: ان الايقاف انما هو في زمان الحضور، لان الايقاف حتى يلقى الامام عليه السّلام مما يختص بزمان الحضور، فيبقى مورد التخيير عند تساويهما في زمان الغيبة.

فانه يقال: ان وجوب الايقاف لما وجب فيه الترجيح فلا بد و ان يكون الطرفان في زمان الحضور، فلا وجه لان يكون احد الطرفين و هو وجوب الترجيح شاملا لزمان الغيبة دون وجوب الايقاف، و مع شمول الايقاف لزمان الغيبة لا يبقى مورد لاطلاق ادلة التخيير. و الى هذا اشار بقوله: «و لذا ما ارجع الى التخيير بعد فقد الترجيح».

(1) هذا هو الاشكال الثالث على كون ادلة الترجيح مقيدة لاطلاق ادلة التخيير.

و حاصله: ان مرجع الاطلاق و التقييد هو حمل المطلق على المقيد، و حيث يكون التقييد مخرجا لافراد المطلق كما عرفت، لا بد و ان لا يكون المطلق محمولا على الفرد النادر، و لازم وجوب الترجيح و تقييد اطلاقات التخيير بادلته هو لزوم حمل اطلاقات التخيير على الفرد النادر، لانه قلما يكون المتعارضان متساويين من جميع الجهات، و الغالب في المتعارضين هو وجود احدى المزايا المذكورة في ادلة الترجيح في احد المتعارضين، فمع لزوم الترجيح في المتعارضين مطلقا يلزم حمل اطلاقات التخيير على الفرد النادر و هو قبيح، فلو كانت ادلة الترجيح سالمة عن كل اشكال

ص: 83

الكثير بين ما دل على الترجيح من الاخبار (1).

______________________________

و ظاهرة في وجوب الترجيح مطلقا لوجب رفع اليد عن احد ظهورين فيها: اما عن ظهورها في الاطلاق و الشمول لمقام الفتوى، و بقاء ظهور الوجوب فيها على حاله مختصا بمورد الحكومة و المخاصمة. او عن ظهورها في الوجوب و حملها على الاستحباب، و بقاء شمولها لمقام الفتوى على حاله حتى لا يلزم حمل اطلاقات التخيير على الفرد النادر.

و قد اشار الى ندرة تساوي المتعارضين بقوله: «مع ندرة كونهما متساويين جدا» و جدا من متعلقات الندرة: أي ان كون المتعارضين متساويين من جميع الجهات نادر جدا، و حمل اطلاقات التخيير على الفرد النادر «بعيد قطعا»، و لازم كون الترجيح واجبا مطلقا مع غلبة وجود احدى المزايا الموجبة للترجيح في احد المتعارضين هو حمل اطلاقات التخيير على الفرد النادر الذي هو بعيد قطعا.

و قد اشار الى لزوم رفع اليد عن احد الظهورين حتى لا يلزم حمل اطلاقات التخيير على الفرد النادر بقوله: «بحيث لو لم يكن ظهور المقبولة في ذاك الاختصاص» و هو مورد الحكومة و المخاصمة «لوجب حملها عليه» مع بقاء ظهور الوجوب فيها على حاله «او» وجب حملها «على ما لا ينافيها» أي على ما لا ينافي اطلاقات التخيير بوجه آخر «من الحمل على الاستحباب» و ابقاء شمولها لمورد الفتوى «كما فعله بعض الاصحاب».

(1) هذا شاهد الحمل على الاستحباب .. و وجهه: ان اختلاف ادلة الترجيح من جهة الترتيب و من جهة نفس المرجحات من ناحية الكثرة و القلة يشهد بان الامر فيها استحبابي، و إلّا لوقعت المعارضة بين ادلة الترجيح بانفسها، و لما كان في حملها على الاستحباب يرتفع التنافي بينها و يرتفع التنافي بينها و بين اطلاقات التخيير ايضا، لذا كان هذا الاختلاف شاهدا على ان الامر فيها للاستحباب لا للوجوب.

ص: 84

و منه قد انقدح حال سائر أخباره (1)، مع أن في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظرا، وجهه قوة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجة، بشهادة ما ورد في أنه زخرف، و باطل، و ليس بشي ء، أو أنه لم نقله، أو أمر بطرحه على الجدار، و كذا الخبر الموافق للقوم، ضرورة أن أصالة عدم صدوره تقية بملاحظة الخبر المخالف لهم مع الوثوق بصدوره لو لا القطع به غير جارية، للوثوق حينئذ بصدوره كذلك، و كذا الصدور أو الظهور في الخبر المخالف للكتاب يكون موهونا بحيث لا يعمه أدلة اعتبار السند و لا الظهور، كما لا يخفى، فتكون هذه الاخبار في مقام تميز الحجة عن اللاحجة لا ترجيح الحجة على الحجة (2)،

______________________________

(1)

حكم سائر الاخبار المشتملة على المرجحات

أي مما ذكرنا من الاشكالات على المرفوعة و المقبولة: من عدم الاطلاق فيها بحيث يشمل مورد الفتوى تارة، و من كونها مختصة بزمان الحضور اخرى، و من لزوم حملها على ما لا ينافي اطلاقات التخيير بحملها على الاستحباب ثالثة- يظهر الحال في الاخبار الأخر التي ذكرها الشيخ الاجل في رسائله للدلالة على وجوب الترجيح في مقام الفتوى في زمان الغيبة.

(2)

دلالة اخبار موافقة الكتاب و مخالفة العامة على تمييز الحجة على اللاحجة

لا يخفى ان المزايا المذكورة في ادلة الترجيح مختلفة: بعضها يرجع الى صفات الراوي كالاعدلية و امثالها، و بعضها يرجع الى نفس الرواية ككونها مشهورة او غير مشهورة، و بعضها يرجع الى الحكم في الرواية كموافقة الكتاب و مخالفة العامة.

و الغرض المناقشة في عد مزية موافقة الكتاب و مخالفة العامة من مزايا الترجيح، لان الترجيح لا بد فيه من فرض الروايتين مشمولتين لادلة الاعتبار لو لا المعارضة، فتكون المرجحات موجبة لترجيح احدى الحجتين على الاخرى، لا ان تكون المزية موجبة لتمييز الحجة عن اللاحجة. و يحتمل قويا في هاتين المزيتين كونهما لتمييز الحجة عن اللاحجة لا لترجيح الحجة على الحجة، ففي عدهما من مزايا الترجيح نظر، لان

ص: 85

.....

______________________________

الضابط في مورد الترجيح كون الرواية حجة لو لا المعارضة، بحيث تكون الرواية جامعة لجميع شرائط الحجية، و بالمعارضة تسقط فعلية حجيتها، و حينئذ يكون الترجيح لترجيح حجة على حجة، و الرواية المخالفة للكتاب غير حجة لما ورد من الاخبار في الخبر المخالف للكتاب بمضامين كلها تقتضي ان الخبر المخالف للكتاب خارج عن دائرة الحجية، كما مر ذكرها في مبحث حجية الظن، كمضمون ان الخبر المخالف للكتاب زخرف و باطل، و في بعضها انه ليس بشي ء، و في بعضها ان ما خالف قول ربنا لم نقله، و في بعضها امر عليه السّلام بطرحه على الجدار.

و مثله في الخبر الموافق للعامة، فانه ورد الامر بترك موافقة العامة، لان الرشد في خلافهم، و في بعضها اجاب الامام عليه السّلام السائل له عن حكم امر حادث لا بد له من معرفته، فقال له عليه السّلام: (ائت فقيه البلد فاستفته من امرك فاذا افتاك بشي ء فخذ بخلافه فان الحق فيه)(1) و في بعضها ذكر التعليل للاخذ بما خالف العامة فيما ورد عن ابي عبد اللّه عليه السّلام: (قال عليه السّلام: أ تدري لم امرتم بالاخذ بخلاف ما تقول العامة.

فقلت: لا، فقال عليه السّلام: ان عليا عليه السّلام لم يكن يدين اللّه بدين الا خالف عليه الامة الى غيره ارادة لابطال امره، و كانوا لا يسألون امير المؤمنين عليه السّلام عن الشي ء الذي لا يعلمونه، فاذا افتاهم جعلوا له ضدا من عندهم ليلتبسوا على الناس)(2).

و مثله ما جاء في رواية عبيد بن زرارة عن الصادق عليه السّلام (قال عليه السّلام:

ما سمعته مني يشبه قول الناس فيه التقية، و ما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه)(3).

ص: 86


1- 17. ( 1) وسائل الشيعة ج 18: 82/ 23 باب 9 من أبواب صفات القاضي.
2- 18. ( 2) الوسائل ج 18: 83/ 24 باب 9 من ابواب صفات القاضي.
3- 19. ( 3) الوسائل ج 18: 88/ 46 باب 9 من ابواب صفات القاضي.

.....

______________________________

و توضيح الحال لكون ما وافق العامة و ما خالف الكتاب خارجا عن الحجية:

اما في الخبر الموافق للعامة فان في حجية الخبر اصولا ثلاثة: اصالة تصديق العادل في الصدور، و اصالة الظهور، و اصالة كون الصدور لبيان الواقع، و من الواضح انه مع الاخبار المتقدمة فيما وافق العامة لا مجال لاصالة الصدور لبيان الواقع، فان الخبر الموافق لهم لو كان موثوق الصدور او مقطوعا بصدوره و كان قوي الظهور في مضمونه او كان نصا فيه فلا مجال للاخذ به، لدلالة تلك الاخبار على ان جهة صدوره كان لاجل التقية، فهو خارج عن الحجية لعدم تمامية اصالة الصدور فيه لبيان الواقع، فانه مع دلالة الاخبار المذكورة على ان الموافق للعامة قد صدر لا لبيان الواقع بل كان صدوره للتقية لا مجال لاصالة الصدور فيه، فلا يكون مستوفيا لشرائط الحجية.

فاتضح مما ذكرنا: ان معارضة الخبر المخالف للعامة و الخبر الموافق لهم من معارضة الحجة باللاحجة، لان الخبر الموافق للعامة غير داخل فيما هو الحجة، فعد مخالفة العامة من المرجحات لا وجه له، بل هي في مقام تمييز الحجة عن اللاحجة.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «ضرورة ان اصالة عدم صدوره تقية» أي ان اصالة عدم صدور الخبر الموافق للعامة تقية، بان يكون اصالة كونه لبيان الواقع «بملاحظة الخبر المخالف لهم» أي للعامة حتى «مع الوثوق بصدوره» أي بصدور الخبر الموافق لهم «لو لا القطع به» أي حتى مع القطع بصدور الموافق «غير جارية» هذا خبر لاسم ان المتقدم و هو اصالة عدم صدوره تقية، و التقدير ان اصالة عدم صدوره تقية غير جارية في مقام معارضته بالخبر المخالف لهم «للوثوق حينئذ بصدوره كذلك» أي للتقية، ففي حال معارضته بالخبر المخالف للعامة يحصل الوثوق بان الخبر الموافق للعامة كان صدوره للتقية لا لبيان الواقع، و مع الوثوق بكونه للتقية لا مجال لاصالة صدوره لبيان الواقع، و اذا كان لا مجال لجريان اصالة جهة الصدور فيه فيكون مما لم يتم فيه شروط الحجية.

ص: 87

.....

______________________________

فاتضح مما ذكرنا: ان الموافقة و المخالفة لهم لتمييز الحجة عن اللاحجة، لا لترجيح احدى الحجتين على الاخرى، فعد مزية مخالفة العامة من المزايا بالمرجحة غير صحيح، لما عرفت من ان ضابط الترجيح هو كون الخبر مما تم فيه شرائط الحجية، لانه حينئذ يكون الترجيح من باب رجحان احدى الحجتين على الأخرى.

اما اذا كان فاقد المزية خارجا عن دائرة الحجية، فالمزية تكون لتمييز الحجة عن اللاحجة، لا لترجيح احدى الحجتين على الأخرى.

و اما في الخبر المخالف للكتاب فان ما ورد فيه من المضامين المتقدمة- كقوله عليه السّلام انه زخرف، و باطل، و انه لم نقله، و الامر بطرحه على الجدار، و عدم العمل به- يوجب الوهن في اصالة تصديق العادل بالنسبة اليه، و في اصالة الظهور فيه ايضا، فانه بعد قوله عليه السّلام: (ما خالف قول ربنا لم نقله) الدال على ان المخالف للكتاب لا يقولونه و ليس بصادر منهم عليه السّلام لا تكون اصالة تصديق العادل المقتضية للصدور جارية، بل تكون موهونة فيما اذا كان الخبر من الظنون النوعية، و اذا كان موثوق الصدور او مقطوع الصدور فلا بد و ان يكون الراوي قد اخطأ فيما سمعه عنهم، فتكون اصالة الظهور موهونة، فلا يكون الخبر المخالف للكتاب مما تمت فيه شرائط الحجية، و لا تعمه ادلة اعتبار السند، و لا دليل اعتبار الظهور، فمعارضته بالخبر الموافق للكتاب من معارضة الحجة باللاحجة، و عليه فتكون مزية موافقة الكتاب لتمييز الحجة عن اللاحجة، لا لترجيح الحجة على الحجة.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و كذا الصدور او الظهور في الخبر المخالف للكتاب يكون موهونا» تارة من جهة السند، و اخرى من جهة الظهور «بحيث» يكون خارجا عن الحجية «و لا يعمه ادلة اعتبار السند و لا» دليل اعتبار الظهور كما لا يخفى» و عليه «فتكون هذه الاخبار» الدالة على الاخذ بالخبر الموافق للكتاب دون الخبر المخالف له «في مقام تمييز الحجة عن اللاحجة لا» في مقام «ترجيح الحجة على الحجة» لتكون من باب الترجيح.

ص: 88

فافهم (1).

______________________________

(1) لعله اشارة الى ان مخالفة الكتاب على نحوين: تارة بنحو التباين، و اخرى بنحو العموم و الخصوص، و الاخبار المتقدمة ظاهرة في المخالفة على نحو التباين، لان المخالفة بنحو العموم و الخصوص مما لا ريب فيها، و لذا جاز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد. و عليه فلا مانع من عد الموافقة للكتاب من المرجحات، لان الخبر المخالف للكتاب على نحو العموم و الخصوص جامع لشرائط الحجية، و لا يكون المقام من باب تمييز الحجة عن اللاحجة فيما لو عارضه خبر آخر موافق للكتاب، بل من باب ترجيح احدى الحجتين على الاخرى.

و مثله الحال في موافقة العامة، فان الاخبار الواردة في غير فرض التعارض انما تدل على ترك ما تفرد به العامة، كأمره عليه السّلام بالرجوع الى قاضي البلد و الاخذ بخلافه، و كالتعليل في وجه امرهم بخلاف ما ذهب اليه العامة من انهم كانوا يسألون عليا امير المؤمنين عليه السّلام ثم يجعلون له ضدا من عند انفسهم.

و اما الموافقة في مورد التعارض ففرضها فرض عدم كون الحكم مما تفرد به العامة، مضافا الى ان المتعارضين ربما يكونان دالين على حكمين كليهما موافقين للعامة، كما في المرفوعة فانه فرض فيها موافقتهما تارة لما عند العامة و مخالفتهما اخرى معا لهما، و هذا يدل على ان مورد المعارضة ليس دائما يكون احد الخبرين موافقا لما تفرد به العامة، مع ان المتعارضين الموافقين للعامة ربما يكونان دالين على حكمين متنافيين بالسلب و الايجاب، و لا يعقل ان يكون الرشد في خلاف السلب و الايجاب معا. هذا مضافا الى ان موافقة الكتاب و مخالفة العامة قد ذكرا في المقبولة، و في المرفوعة بعد ذكر جملة من المرجحات، فلو كان ذلك من باب تمييز الحجة عن اللاحجة لكان ذكرهما متقدما على بقية المرجحات.

فاتضح: ان دعوى موافقة العامة دائما حتى في مورد التعارض من باب تمييز الحجة عن اللاحجة لا يخلو عن اشكال.

ص: 89

و إن أبيت عن ذلك، فلا محيص عن حملها توفيقا بينها و بين الاطلاقات، إما على ذلك أو على الاستحباب كما أشرنا إليه آنفا، هذا (1) ثم إنه لو لا التوفيق بذلك للزم التقييد أيضا في أخبار المرجحات، و هي آبية عنه، كيف يمكن تقييد مثل: ما خالف قول ربنا لم أقله، أو زخرف، أو باطل؟ ... كما لا يخفى (2).

______________________________

(1) حاصله: انه لو قلنا بان موافقة الكتاب و مخالفة العامة من المرجحات، و شأنهما شأن المزايا الأخر المذكورة معهما كالأعدلية و الشهرة، إلّا انه لما عرفت من كون عمدة اخبار الترجيح المقبولة، و قد مر الاشكال عليها: تارة بانها واردة في مورد الخصومة و المحاكمة، و اخرى بان موردها زمان الحضور، و ثالثة بلزوم حمل مطلقات التخيير على الفرد النادر، فلا بد من حملها على ما لا ينافي اطلاق ادلة التخيير، اما على اختصاص وجوب الترجيح بمورد الحكومة او على الاستحباب.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و ان أبيت عن ذلك» أي و ان أبيت عن قبول ما ذكرنا: من كون موافقة الكتاب و مخالفة العامة لتمييز الحجة عن اللاحجة، بل كان حالهما حال غيرهما من المزايا المذكورة معهما واردة للترجيح «فلا محيص عن حملها» على ما لا ينافي اطلاقات التخيير «توفيقا بينها و بين الاطلاقات اما على ذلك» أي على لزوم الترجيح بالمزايا المذكورة في مورد الحكومة «او على الاستحباب».

(2) حاصله: انه لو لم نحمل اخبار الترجيح على ما ذكرنا، و قلنا بان المزايا المذكورة في اخبار الترجيح كلها للترجيح حتى موافقة الكتاب و مخالفة العامة، فلا بد من تقييد مطلقات اخبار موافقة الكتاب و مخالفة العامة بغير الموافقة و المخالفة في مورد التعارض، لوضوح ظهور تلك المطلقات في كون المخالف لكتاب اللّه و الموافق للعامة مطلقا ليس بحجة من رأس، و لكنها في مورد التعارض تكون حجة مرجوحة، لان الترجيح لا بد فيه من فرض الحجية أولا ثم تقديم الراجح. و حينئذ يرد اشكال آخر:

ص: 90

فتلخص- مما ذكرنا- أن اطلاقات التخيير محكمة، و ليس في الاخبار ما يصلح لتقييدها. نعم قد استدل على تقييدها، و وجوب الترجيح في المتفاضلين (1) بوجوه أخر:

______________________________

و هو ان ظهور تلك المطلقات آب عن التخصيص و التقييد، فان قوله عليه السّلام ما خالف قول ربنا لم نقله، او انه زخرف و باطل، و مثل مضمون قوله عليه السّلام في مقام موافقة العامة ائت فقيه البلد و استفته و خذ بخلافه فان الحق فيه آب عن التقييد ... و مرجع هذا الى اشكال رابع على اخبار الترجيح في خصوص موافقة الكتاب و مخالفة العامة.

و لا يخفى ان ظاهر المتن ان التوفيق بما ذكره بين مطلقات اخبار التخيير و اخبار الترجيح يقتضي صحة كون الموافقة للكتاب و المخالفة للعامة من المرجحات، مع انه حيث تكون اخبارها المطلقة آبية عن التقييد فالتوفيق المذكور لا يصحح كونها من المرجحات حتى في مورد الحكومة، بل لا بد من انها حتى في هذا المورد لتمييز الحجة عن اللاحجة لا من المرجحات. و كذا بالحمل على الاستحباب فان المخالف لكتاب اللّه و الموافق للعامة لا يجوز العمل عليه لانه ليس بحجة، لا انه يستحب العمل بالموافق لكتاب اللّه و المخالف للعامة بالنسبة الى المخالف لكتاب اللّه و الموافق للعامة.

(1) هذا ملخص ما مر: من ان الاصل العملي و ان كان يقتضي الاخذ بما فيه المزية، إلّا انه لا مجرى له مع اطلاقات التخيير، لوضوح ان الرجوع الى الاصل العملي انما هو حيث لا يرد دليل لفظي على خلافه، و بعد ورود اطلاقات التخيير فلا وجه لجريانه.

و اما اخبار الترجيح و تقييد مطلقات التخيير بها فقد عرفت انه لا وجه له ايضا، لما يرد عليها من الاشكالات المتقدمة.

فالحق في تعارض الخبرين هو التخيير بينهما في مقام الفتوى.

ص: 91

منها: دعوى الاجماع على الاخذ بأقوى الدليلين (1).

و فيه أن دعوى الاجماع- مع مصير مثل الكليني إلى التخيير، و هو في عهد الغيبة الصغرى و يخالط النواب و السفراء، قال في ديباجة الكافي:

و لا نجد شيئا (2) أوسع و لا أحوط من التخيير (3)- مجازفة.

______________________________

(1)

الاستدلال على وجوب الترجيح بوجوه أخر

قد استدل القائلون بلزوم الترجيح في المتعارضين بوجوه أخر:

منها الاجماع المدعى على لزوم الاخذ باقوى الدليلين. و لا ريب ان المزايا المذكورة مما توجب قوة الدليل الواجد لها على الفاقد لها، فان الدليل الذي يكون راويه اعدل هو اقوى من حيث السند من الدليل الذي راويه ليس باعدل، و الرواية التي تكون مشهورة هي اقوى من الرواية غير المشهورة، و الرواية التي يكون حكمها موافقا للكتاب او مخالفا للعامة هي اقوى من حيث جهة الصدور من الرواية المخالفة للكتاب او الموافقة للعامة.

(2)

الاجماع على الأخذ بأقوى الدليلين و منعه

توضيحه: ان الصحيح من مسالك الاجماع هو الاجماع الحدسي كما مر بيانه في مبحث الاجماع. و مع مصير الكليني (قدس سره) الى التخيير في المتعارضين لا وجه لدعوى الاجماع، لان حياة الكليني (قدس سره) كانت في الغيبة الصغرى، و كان مخالطا لنواب الامام و سفرائه فيها، و ذهاب الكليني الى التخيير يكشف عن ان رأي السفراء لم يكن على الترجيح، و إلّا لما قال بالتخيير.

(3) حاصله: ان الكليني (قدس سره) يقول انه ليس هناك شي ء اوسع من التخيير في المتعارضين و لا احوط منه. و لا يخفى ان كلامه (قدس سره) ظاهر بذهابه الى التخيير و انه اوسع و احوط: اما كونه اوسع فواضح، لان الاخذ بأي واحد من الخبرين اوسع من الاخذ بخصوص احدهما. و اما كونه احوط فقد يكون المراد من احوطيته هو كون ادلة التخيير اقوى من ادلة الترجيح، و لا ريب ان الاخذ باقوى الدليلين احوط، او انه احوط لكونه عملا بكلا الدليلين و هو احوط من الاخذ باحدهما.

و اللّه العالم.

ص: 92

و منها: أنه لو لم يجب ترجيح ذي المزية، لزم ترجيح المرجوح على الراجح و هو قبيح عقلا، بل ممتنع قطعا (1).

و فيه انه إنما يجب الترجيح لو كانت المزية موجبة لتأكد ملاك الحجية في نظر الشارع، ضرورة إمكان أن تكون تلك المزية بالاضافة إلى ملاكها من قبيل الحجر في جنب الانسان، و كان الترجيح بها بلا مرجح، و هو قبيح كما هو واضح (2)، هذا مضافا إلى ما هو في الاضراب من الحكم

______________________________

قوله: «مجازفة الخ» هذا خبر إن و التقدير ان دعوى الاجماع على الترجيح مجازفة مع ذهاب الكليني الى التخيير.

(1)

الترجيح بحكم العقل و منعه

توضيح هذا الوجه ان الخبر الواجد للمزية هو الراجح، و الخبر الفاقد للمزية هو المرجوح، فلو لم يكن العمل على طبق الراجح واجبا بان يكون الحكم هو التخيير بينهما للزم ترجيح المرجوح على الراجح، لوضوح ان الحكم بالتخيير بينهما معناه مساواتهما و الغاء رجحان الراجح، و من البين ان ترجيح المرجوح على الراجح قبيح عقلا، بل ممتنع قطعا على الشارع.

و لا يخفى انه لو تم هذا الدليل لكان لازمه تقديم الخبر ذي المزية مطلقا سواء كانت المزية منصوصة أو غير منصوصة، و لكان لازمه عدم امكان القول بالتخيير، لوضوح انه بعد تمامية البرهان العقلي على لزوم الترجيح لما هو واجد للمزية لا يعقل الاخذ بظهور اخبار التخيير، لعدم امكان مصادمة الظهور لما قام الدليل العقلي عليه.

(2) توضيح ما اجاب به (قدس سره) عن هذا الوجه و هو ان كبرى هذه القضية و هو ان ترجيح المرجوح على الراجح قبيح مسلمة، و لكن الفساد ناشئ من تطبيقها على ما نحن فيه.

و بيان ذلك: ان مساواة فاقد المزية لواجدها انما يكون من مصاديق هذه الكبرى و من ترجيح المرجوح على الراجح، حيث تكون تلك المزية في الواجد موجبة

ص: 93

.....

______________________________

لاقوائية ملاك الحجيّة في الواجد بالنسبة الى ملاك الحجيّة في الفاقد، و ليس كل مزيّة في الواجد تكون موجبة لقوّة ملاك الحجيّة في نظر الشارع، فان من الجائز ان تكون المزيّة بالنسبة الى ملاك الحجية اجنبية تماما، و من قبيل الحجر في جنب الانسان، فان وجود الحجر في جنب الانسان غير مرتبط بإنسانيته، و حيث تكون تلك المزية اجنبية تماما عن اقوائية ملاك الحجية في احد الخبرين في نظر الشارع فترجيح الواجد لها حينئذ على الفاقد يكون ترجيحا من غير مرجح، لا ان مساواة الفاقد للواجد من ترجيح المرجوح على الراجح، لوضوح ان الواجد للمزية اذا كانت المزية فيه اجنبية عن قوّة ملاك الحجية فيكون ملاك الحجية في الواجد و الفاقد على حدّ سواء، فترجيح الواجد- حينئذ- على الفاقد بالنسبة الى ملاك الحجيّة من الترجيح بلا مرجّح، لفرض كون تلك المزية اجنبية عنه، و لا موجب آخر للترجيح، فالترجيح حينئذ يكون بلا مرجّح، و ينقلب الحال للزوم المساواة على الفرض، و ترجيح الواجد على الفاقد يكون من الترجيح بلا مرجّح.

هذا بالنسبة الى اصل المزيّة. و اما بالنسبة الى المزايا المنصوصة، فحيث عرفت ان القدر المتيقن منها هو اما مورد الحكومة او زمان الحضور. اما بالنسبة الى مورد الفتوى في زمان الغيبة فلا دلالة لها على كونها موجبة لاقوائيّة ملاك الحجية فيه في نظر الشارع، فلا يكون الحكم بالمساواة بين الواجد و الفاقد في زمان الغيبة في مقام الفتوى من ترجيح المرجوح على الراجح، بل اطلاقات التخيير تقتضي المساواة بينهما، فلا يكون الحكم بالتخيير من ترجيح المرجوح على الراجح، بل يكون لزوم تقديم الواجد على الفاقد من الترجيح بلا مرجّح، لعدم ثبوت ما يقتضي الترجيح.

فظهر مما ذكرنا: ان عدم القول بالترجيح في زمان الغيبة في الخبرين المتعارضين ليس من مصاديق ترجيح المرجوح على الراجح، لانه انما يكون من مصاديقها حيث تكون المزيّة موجبة لاقوائيّة ملاك الحجية في نظر الشارع و لم يثبت ذلك.

ص: 94

بالقبح إلى الامتناع، من أن الترجيح بلا مرجح في الافعال الاختيارية و منها الاحكام الشرعية، لا يكون إلا قبيحا، و لا يستحيل وقوعه إلا على الحكيم تعالى، و إلّا فهو بمكان من الامكان، لكفاية إرادة المختار علة لفعله، و إنما الممتنع هو وجود الممكن بلا علّة، فلا استحالة في ترجيحه تعالى للمرجوح، إلّا من باب امتناع صدوره منه تعالى، و أما غيره فلا استحالة في ترجيحه لما هو المرجوح مما باختياره.

و بالجملة: الترجيح بلا مرجّح بمعنى بلا علّة محال، و بمعنى بلا داع عقلائي قبيح ليس بمحال، فلا تشتبه (1).

______________________________

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و فيه انه انما يجب الترجيح» لواجد المزية على فاقدها «لو كانت المزية موجبة لتأكد ملاك الحجية في نظر الشارع» و قد عرفت انه ليس كل مزية موجبة لتأكّد ملاك الحجية في نظر الشارع «ضرورة امكان ان تكون تلك المزية بالاضافة الى ملاكها» أي الى ملاك الحجية «من قبيل الحجر في جنب الانسان» فلا تكون تلك المزية موجبة لتأكّد ملاك الحجية.

و قد اشار الى انه حيث تكون تلك المزية اجنبية عن تأكّد ملاك الحجية ينقلب الحال و يكون الترجيح بها من الترجيح بلا مرجّح بقوله: «و كان الترجيح بها بلا مرجّح و هو قبيح كما هو واضح» لبداهة ان الترجيح مع فرض كون تلك المزية اجنبية عن تأكد ملاك الحجية يكون الترجيح بها بلا مرجّح، لان الترجيح بما لا يقتضي الترجيح من الترجيح بلا مرجّح.

(1) المراد من الاضراب هو قولهم: بل ممتنع عقلا.

و محصل مرامهم: انه لو لم يجب ترجيح الواجد للمزيّة على الفاقد لها لزم ترجيح المرجوح على الراجح، و ترجيح المرجوح على الراجح قبيح عقلا، بل مضافا الى قبحه عقلا انه ممتنع قطعا، ففيه محذوران: القبح العقلي، و الامتناع الذاتي.

ص: 95

.....

______________________________

و حاصل ما يقوله المصنف: ان كون ترجيح المرجوح على الراجح في مقامنا من الممتنع بالذات فيه خلط بين موارد هذه القاعدة.

و توضيح ذلك: ان هناك نزاعا بين العدلية و الاشاعرة في افعاله تبارك و تعالى، مع فرض كون الفعل خاليا عن أي غرض و عن أي مصلحة. فذهب الاشاعرة الى انه لا مانع من صدور الفعل الخالي عن أي مصلحة و غرض منه تعالى شأنه.

و قال العدلية بقبحه من جهة، و بامتناعه من جهة اخرى مع تسالم الطرفين على ان الفعل لا بد من صدوره عن ارادة و اختيار، لان صدور الفعل بلا ارادة منه تعالى و لا اختيار مرجعه الى جواز حصول المعلول بلا علة، و هو من الترجيح بلا مرجح، و قد اطبق الكل على محاليته.

و الاشاعرة حيث انكروا الحسن و القبح العقلي و قالوا بامكان الارادة الجزافية قالوا لا مانع من صدور الفعل الخالي عن أي غرض و مصلحة منه تعالى شأنه، لانه انما لا يصدر منه الفعل الخالي عن الغرض و المصلحة لانه قبيح حيث لا بد و ان يكون فعله حسنا اما بالذات او بالعرض، و فعل ما ليس فيه غرض و لا مصلحة قبيح فعله من الحكيم، و هذا انما يلزم عند من يرى الحسن و القبح العقلي. اما من لا يرى ذلك فلا مانع عنده من صدور الفعل منه تعالى بلا مصلحة و لا غرض، و يكفي في صدور الفعل منه تعالى نفس الارادة و الاختيار، فلا يكون الفعل الخالي عن المصلحة و الغرض من المعلول بلا علة، لفرض كونه صادرا عن ارادة و اختيار.

نعم لازم ذلك هو الارادة الجزافية، لانه مع فرض خلو الفعل عن المصلحة و الغرض تكون ارادته من الجزاف، و لذا قالوا بامكان الجزافية له تبارك و تعالى شأنه عن ذلك علوا كبيرا.

و العدلية بعد ان اثبتوا الحسن و القبح العقلي اوردوا عليهم: بان فعل ما ليس فيه غرض و لا مصلحة بالنظر الى نفس صدور الفعل بلا مصلحة و لا غرض هو قبيح عقلا فلا يصدر منه، تعالى شأنه عن صدور القبيح منه، و بالنظر الى نفس الارادة

ص: 96

.....

______________________________

الجزافية فهي ممتنعة عقلا، لان الارادة المتعلقة بالفعل الخالي عن المصلحة و الغرض حيث انها بنفسها موجود من الموجودات فهي مما تحتاج الى علة، فان كانت العلة المرجحة لتحققها و تعلقها بهذا الفعل الخالي عن كل شي ء دون غيره هو ارادة اخرى يلزم التسلسل، و ان كان تحققها من غير علة يلزم كون هذه الارادة المتعلقة بالفعل الخالي عن كل شي ء من المعلول بلا علة، و هو من الترجيح بلا مرجح المسلم بطلانه عند الكل. فالمانع بالنسبة الى نفس صدور الفعل الخالي عن كل شي ء هو القبيح، و المانع بالنسبة الى نفس الارادة الجزافية هو الامتناع.

و لا يخفى ان الكلام في هذه المسألة خارج عن مقامنا، لان المفروض في مقامنا ان هناك شيئين في كل واحد منهما مصلحة و غرض، غايته ان المصلحة و الغرض في احدهما اقوى من الآخر. فالكلام في تلك المسألة في الترجيح بلا مرجح. و الكلام في هذه المسألة هي في ترجيح من فيه رجحان على ما هو ارجح منه، و هو يرجع الى ترجيح المرجوح على الراجح. و لما كان تقديم المرجوح على الراجح لدواع غير عقلائية لا امتناع فيه، بل كثيرا ما يصدر من غير الحكيم، لذلك كان ترجيح المرجوح على الراجح لا يصدر منه تعالى لانه قبيح، حيث انه لا بد و ان يكون لداع غير عقلائي، لا لان ارادته من المعلول بلا علة.

فظهر مما ذكرنا: ان مورد الامتناع العقلي هو الارادة الجزافية المتعلقة بالفعل الخالي عن الغرض و المصلحة، و هو من الترجيح بلا مرجح، و بالنسبة الى نفس الفعل هو من الترجيح بلا مرجح، و مقامنا مورد القبح العقلي هو الفعل بلا داع عقلائي، و هو مما لا يصدر من الحكيم، و لا امتناع فيه بالذات لانه من ترجيح المرجوح على الراجح من غير داع عقلائي، و ليس فيه امتناع بالذات، و إلّا لما صدر من غيره.

فتبين ان الاضراب في كلام هذا القائل قد صدر من الخلط بين المقامين، و لا وجه له في مقامنا لان مقامنا من ترجيح المرجوح على الراجح من غير داع عقلائي.

ص: 97

و منها: غير ذلك مما لا يكاد يفيد الظن، فالصفح عنه أولى و أحسن.

ثم إنه لا إشكال في الافتاء بما اختاره من الخبرين، في عمل نفسه و عمل مقلديه، و لا وجه للافتاء بالتخيير في المسألة الفرعية، لعدم الدليل عليه فيها. نعم له الافتاء به في المسألة الاصولية، فلا بأس حينئذ باختيار

______________________________

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «هذا مضافا الى ما هو في الاضراب من الحكم بالقبح العقلي الى الامتناع» العقلي. و اشار الى الوجه في عدم صحة هذا الاضراب، و ان مقامنا ليس مورد الامتناع بالذات الذي مرجعه الى حدوث المعلول بلا علة بقوله: «من ان الترجيح بلا مرجح في الافعال الاختيارية و منها الاحكام الشرعية لا يكون إلّا قبيحا» لانه من الترجيح بلا مرجح عقلائي «و» هو قبيح عقلا لا ممتنع عقلا لانه «لا يستحيل وقوعه الا على الحكيم تعالى شأنه» عن فعل القبيح «و إلّا فهو بمكان من الامكان» لصدوره من غير الحكيم و «لكفاية ارادة المختار» و لو لداع غير عقلائي «علة لفعله و انما الممتنع هو وجود الممكن بلا علة» و مورده الفعل الخالي عن أي غرض «فلا استحالة في ترجيحه تعالى للمرجوح» لداع غير عقلائي «الا من باب امتناع صدوره منه تعالى» لانه حكيم و يستحيل على الحكيم الفعل لداع غير عقلائي لانه قبيح «و اما غيره» تعالى «فلا استحالة في ترجيحه لما هو المرجوح» لداع غير عقلائي «مما» يصدر «باختياره» لموجب غير عقلائي «و بالجملة الترجيح بلا مرجح» الذي هو «بمعنى» الترجيح بلا مرجح و حدوث المعلول «بلا علة محال» و هو الممتنع عقلا «و» ترجيح المرجوح على الراجح الذي هو «بمعنى» كونه «بلا داع عقلائي قبيح عقلا و ليس بمحال» بالذات عقلا «فلا تشتبه».

ص: 98

المقلد غير ما اختاره المفتي، فيعمل بما يفهم منه بصريحه أو بظهوره الذي لا شبهة فيه (1).

______________________________

(1)

الإفتاء بالتخيير بين الخبرين المتعارضين

لا يخفى ان فتوى المفتي في مقامين: الاول: في الحكم الفرعي في مورد التعارض، و في هذا المقام ليس له ان يفتي بالتخيير بين الحكمين المدلولين للخبرين المتعارضين، و لكن له ان يختار احد الخبرين و يفتي بالحكم الفرعي الذي هو مؤدّى الخبر الذي اختاره منهما، و الوجه في ذلك انه بناء على الطريقية الحكم الواقعي واحد فهو تعييني لا تخييري، و لازم الافتاء بالتخيير بين الحكمين كون الحكم الواقعي تخييريا مع انه تعييني لا تخييري، فالافتاء بالتخيير بين الحكمين يكون تشريعا محرما.

و لكنه حيث قام الدليل في التعارض على التخيير في الاخذ بايّ الخبرين فله ان يختار احد الخبرين، و يفتي بمؤدّاه في عمل نفسه و عمل مقلّديه.

و بعبارة اوضح: ان الدليل انما قام على التخيير في الطريق لا في الحكم الواقعي، و معنى التخيير في الحكم هو كونه واجبا تخييريا، و حيث لم يقم الدليل على الوجوب التخييري فالافتاء بما يرجع الى الوجوب التخييري تشريع محرم. نعم قد دلّ الدليل على التخيير في الطريق: أي ان له الاخذ بايّ واحد من الخبرين المتعارضين.

و الحاصل: ان التخيير في الحكم الفرعي في مقام الفتوى هو ان يقول المقلّد الى مقلّديه: انتم مخيّرون بين الوجوب و غيره فيما لو دلّ احد الخبرين على الوجوب و دلّ الخبر الثاني المعارض على غير الوجوب. و اما التخيير في المسألة الاصولية هو ان يقول المقلّد لمقلّديه: انتم مخيّرون في الاخذ و الاتباع لاحد هذين الخبرين المتعارضين.

و لازم التخيير في الطريق أي الاخذ باحد الخبرين مما ذكرنا من جواز اختيار احد الخبرين و الافتاء على طبقه، و لا وجه للافتاء بالتخيير في نفس الحكمين لرجوعه الى الوجوب التخييري، و حيث لا دليل عليه فهو تشريع محرم.

و المقام الثاني ما اشرنا اليه و هو الافتاء بالتخيير في نفس المسألة الاصولية، و له فيها ان يفتي بالتخيير بان يقول: قد تعارض الخبران و للشخص ان يختار احد الخبرين

ص: 99

و هل التخيير بدوي أم استمراري؟ قضية الاستصحاب لو لم نقل بأنه قضية الاطلاقات أيضا كونه استمراريا (1).

______________________________

و يعمل على طبقه. و يتفرّع على الفتوى بالتخيير في المسألة الاصولية انه لا مانع من ان يكون عمل المقلّد لهذا المفتي على خلاف عمل المفتي، بان يختار المقلّد خبرا غير الخبر الذي اختاره المفتي.

و قد اشار الى المقام الاول و هو ان للمجتهد ان يختار احد الخبرين و يفتي على طبقه بقوله: «ثم انه لا اشكال في الافتاء بما اختاره من الخبرين الى آخر الجملة». و اشار الى انه ليس له ان يفتي بالتخيير بين حكمي الخبرين و هو التخيير في المسألة الفرعية بقوله: «و لا وجه للافتاء بالتخيير في المسألة الفرعية لعدم الدليل عليه» أي لعدم الدليل على التخيير في نفس الحكم الفرعي، و انما قام الدليل على التخيير في الاخذ بايّ واحد من الخبرين و هو من التخيير في الطريق للحكم الفرعي لا في نفس الحكم الفرعي، فالتخيير في الحكم الفرعي لا دليل عليه «فيها» أي في مسألة التعارض.

و اشار الى المقام الثاني و هو الافتاء بالتخيير في المسألة الاصولية بقوله: «نعم له الافتاء به» أي بالتخيير «في المسألة الاصولية» كما عرفت. و قد اشار الى ما يتفرّع على الفتوى بالتخيير في المسألة الاصولية بقوله: «فلا بأس حينئذ باختيار المقلّد غير ما اختاره المفتي الى آخر الجملة».

(1) لا يخفى ان المراد من التخيير الذي وقع الخلاف في كونه بدويّا او استمراريا هو التخيير الثابت بقوله عليه السّلام اذا فتخيّر في مرفوعة زرارة، و المستفاد من قوله عليه السّلام موسع عليك باية عملت .. و قد وقع الكلام في ان هذا التخيير بدوي او استمراري.

و معنى كونه بدويا انه اذا اختار احد الخبرين فليس له بعد ذلك ان يختار الخبر الآخر.

و معنى كونه استمراريا انه له بعد اختيار احد الخبرين ان يختار الخبر الآخر ايضا.

و مختار المصنف انه استمراري. و قد اشار الى وجهين للدلالة على انه استمراري:

ص: 100

و توهم أن المتحير كان محكوما بالتخيير، و لا تحير له بعد الاختيار، فلا يكون الاطلاق و لا الاستصحاب مقتضيا للاستمرار، لاختلاف الموضوع فيهما، فاسد، فإن التحير بمعنى تعارض الخبرين باق على حاله، و بمعنى آخر لم يقع في خطاب موضوعا للتخيير أصلا، كما لا يخفى (1).

______________________________

الاول: اطلاق قوله عليه السّلام موسع عليك باية عملت، فانه قد دلّ على التوسعة بان له ان يعمل على أيّ الخبرين شاء مطلقا، سواء كان ما عمل باحدهما او كان قد عمل باحدهما. و حيث انه يمكن ان يناقش في الاطلاق بان مورده من لم يعمل، فان سؤال السائل فيها قد كان لاجل ان يعرف كيف يعمل عند التعارض، فمورد الروايات هو من لم يعمل، و عليه فيكون القدر المتيقن من البيان فيها هو البيان لمن لم يعمل، فلا يكون لها اطلاق يشمل من عمل. و لذا جعل المصنف الدليل على التخيير الاستمراري أولا هو الاستصحاب، و ذكر الاطلاق بنحو لو لم نقل.

الثاني: الاستصحاب فان التخيير بعد ان ثبت بالروايات لمن لم يعمل فبعد العمل يشك في بقائه فيستصحب بقاؤه، و قد اشار الى الاستصحاب بقوله: «قضية الاستصحاب»، و الى الاطلاق بقوله: «لو لم نقل الى آخر الجملة».

(1) حاصل هذا التوهّم: انه لا مجال لجريان الاستصحاب، لانه لا بد في جريانه من اتحاد الموضوع في القضية المتيقنة و المشكوكة، و حيث ان الموضوع للتخيير هو المتحيّر في عمله، و لا تحيّر له بعد العمل و الاخذ باحدهما، فلا بقاء للموضوع.

و الحاصل: ان المتحيّر من لم يختر احدهما، اما بعد اختياره احدهما فلا يكون متحيّرا، و بعد عدم بقاء الموضوع و هو عنوان المتحيّر لا وجه لجريان الاستصحاب.

و منه يظهر انه لا مجال للتمسك بالاطلاق ايضا، لان الموضوع لادلّة التخيير اذا كان هو المتحيّر فلا وجه للتمسك باطلاقها ايضا بعد رفع التحير و ارتفاع عنوان المتحيّر، لما عرفت من انه بعد اختيار أحد الخبرين و العمل عليه لا يكون هناك تحيّر

ص: 101

.....

______________________________

فلا وجه للتمسك بالاطلاق ايضا. و على هذا فلا وجه للتخيير الاستمراري حيث لا اطلاق يدل عليه و لا استصحاب يقتضيه.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و توهم ان المتحير» هو الموضوع الذي «كان محكوما بالتخيير و لا تحير له بعد الاختيار» و الاخذ باحدهما «فلا يكون الاطلاق و لا الاستصحاب مقتضيا للاستمرار» للزوم بقاء الموضوع في التمسك بالاطلاق و في جريان الاستصحاب، و لا وجه للاطلاق و لا لجريان الاستصحاب بعد اختيار احدهما «لاختلاف الموضوع فيهما» و صيرورة المتحير بعد الاختيار غير متحير، و لكنه «فاسد» أي هذا التوهم فاسد، ففاسد خبر التوهم.

و وجه فساده ان لفظ المتحير لم يرد بلفظه في اخبار التخيير، فلا بد و ان يكون مستفادا من الاخبار، فان كان المراد من المتحير هو من تعارض عنده الخبران، باعتبار ان من تعارض عنده الخبران يحصل عنده التحير عند تحقق التعارض، و اذا كان المراد من المتحير هو من تعارض عنده الخبران و هو الموضوع لاخبار التخيير كما هو المستفاد من الاسئلة المذكورة في اخبار التخيير، فان السؤال ورد فيها عن تعارض الخبرين، و الموضوع على هذا باق بعد الاختيار لاحدهما، لبداهة ان اختياره لاحدهما لا يخرجه عن كونه ممن تعارض عنده الخبران، و مع بقاء الموضوع يصح التمسك بالاطلاق و يجري الاستصحاب، لاتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة في الموضوع.

و الحاصل: ان المستفاد من اخبار التخيير ان الموضوع للتخيير هو من تعارض عنده الخبران، و عبر عنه بالتحير لتحيره عند تحقق التعارض، فاجابه الامام عليه السّلام بان من تعارض عنده الخبران حكمه التخيير، فما هو الموضوع لحكم التخيير باق بعد الاختيار لاحدهما، و على هذا فيكون التحير الذي يكون موضوعا للتخيير هو تعارض الخبرين، و هو باق على حاله بعد اختيار احدهما، لبداهة انه بعد الاختيار لا يرتفع التعارض بين الخبرين، فانه لا يزال كل واحد من الخبرين يعارض الآخر في

ص: 102

.....

______________________________

مدلوله، و لذا قال (قدس سره) «فان التحير بمعنى تعارض الخبرين باق على حاله» هذا اذا كان المراد من المتحير هو بمعنى من تعارض عنده الخبران.

و اما اذا كان المراد من المتحير لا بهذا المعنى فلا يخلو: اما ان يكون المراد منه المتحير في الحكم الواقعي.

ففيه اولا: انه لم يؤخذ التحير في الحكم الواقعي موضوعا للحكم بالتخيير، لما عرفت من انه لم يرد لفظ المتحير أو التحير في اخبار التخيير لا سؤالا و لا جوابا.

و ثانيا: ان التحير في الحكم باق بعد الاختيار، فانه لا يزال من اختار احد المتعارضين لا علم له بالحكم الواقعي لا وجدانا و هو واضح و لا تعبدا، لان الحكم بالتخيير في احد الطريقين ليس معناه كون احد الطريقين هو الواقع تعبدا، بل معناه كون الوظيفة الفعلية هو الاخذ باحد الطريقين، كما يشهد به قوله عليه السّلام: بايهما اخذت من باب التسليم وسعك .. فظهر مما ذكرنا: ان التحير في الحكم الواقعي باق بعد الاختيار.

أو يكون المراد من المتحير هو المتحير في الوظيفة الفعلية .. ففيه اولا: ما أوردناه على أولا على المتحير بالحكم الواقعي.

و ثانيا: ان التحير في الوظيفة الفعلية لا يعقل ان يكون عنوانا للحكم بالتخيير، لوضوح ان موضوع الحكم لا بد و ان يكون باقيا حال الحكم، و التحير في الوظيفة الفعلية يرتفع بمجرد العلم بان الوظيفة الفعلية هو التخيير، و ما يرتفع بمجرد العلم بالحكم لا يعقل ان يكون موضوعا للحكم، بل يكون كالعلة المحدثة للحكم فقط، و العلة المحدثة للحكم فقط لا تكون موضوعا له، فان الموضوع للحكم لا بد و ان يكون بمنزلة العلة المحدثة و المبقية، لا بمنزلة العلة المحدثة فقط.

فتبين ان التحير في الوظيفة الفعلية لا يكون هو الموضوع للحكم بالتخيير.

و ما ذكرناه يرد ايضا على ما اذا كان المراد من المتحير هو من لم يعلم الحكم، فان المراد بمن لم يعلم الحكم: ان كان هو من لم يعلم الحكم الواقعي فيرد عليه ما

ص: 103

فصل هل على القول بالترجيح، يقتصر فيه على المرجحات المخصوصة المنصوصة، أو يتعدى إلى غيرها؟ قيل بالتعدي، لما في الترجيح بمثل الأصدقيّة و الاوثقية و نحوهما، مما فيه من الدلالة على أن المناط في الترجيح بها هو كونها موجبة للاقربية إلى الواقع، و لما في التعليل بأن المشهور مما لا ريب فيه، من استظهار أن العلة هو عدم الريب فيه بالاضافة إلى الخبر الآخر و لو كان فيه ألف ريب، و لما في التعليل بأن الرشد في خلافهم (1).

______________________________

اوردناه على المتحير في الحكم الواقعي، لبداهة عدم العلم بالحكم الواقعي لا وجدانا و لا تعبدا بعد الاختيار، فالموضوع باق بعد الاختيار. و ان كان المراد هو من لم يعلم الحكم الفعلي فمرجعه الى عدم العلم بالوظيفة الفعلية فيرد عليه ما ذكرناه في المتحير، بمعنى من لم يعلم بالوظيفة الفعلية.

و قد اشار المصنف الى الايراد الاول على ما اذا كان الموضوع هو المتحير بمعنى آخر غير من تعارض عنده الخبران بقوله: «و بمعنى آخر لم يقع في خطاب موضوعا للتخيير اصلا كما لا يخفى» و قد عرفت مفصل الكلام فيه.

(1)

الفصل الرابع: الاقتصار على المرجحات المنصوصة و التعدي عنها

الاستدلال على التعدي بوجوه

الكلام في هذا الفصل هو انه بعد البناء على لزوم الترجيح في الخبرين المتعارضين، فهل يقتصر على المرجحات المنصوصة الوارد ذكرها في اخبار الترجيح كما هو مذهب الاخباريين و نسب الى المشهور ايضا؟ او يتعدى عنها الى كل مزية توجب الاقربية الى الواقع نوعا؟ كما صار اليه الشيخ الاجل في رسائله. و مختار المتن انه بعد البناء على الترجيح لا بد من الاقتصار على المزايا المنصوصة، و لا يتعدى عنها الى غيرها، لان ما ذكر من الوجوه للتعدي كلها مخدوشة.

و قد اشار في المتن الى وجوه ثلاثة تقتضي التعدي: الاول: قوله (قدس سره):

«قيل بالتعدي لما في الترجيح بمثل الأصدقيّة الى آخر الجملة».

ص: 104

.....

______________________________

و توضيح هذا الوجه: انه لا يخفى ان من جملة المرجّحات المنصوصة الأصدقية الواردة في المقبولة و الاوثقية الواردة في المرفوعة، و هما من صفات الراوي، و لهذه الصفات جهتان: جهة كونهما من الصفات النفسية لذات الراوي، وجهة تعلّقهما بغير الراوي لانها من الصفات ذات الاضافة، فان الصدق كما انه صفة لذات الراوي فان له تعلّقا بنفس روايته و كلامه ايضا فانها موصوفة بالصدق ايضا، فانه كما يقال الراوي صادق كذلك يقال الرواية صادقة و كلامه صدق باعتبار إراءة الواقع و مطابقته له.

و الظاهر من اخذ صفة الصدق ليس اخذها بما هي صفة من الصفات بان يكون لها موضوعية، بل الظاهر منها اخذها مرجّحا بما فيها من إراءة الواقع. و مثلها الاوثقية فانها مما لها تعلق باراءة الواقع و مطابقته، فان الشخص الذي يكون في كلامه اوثق من غيره معناه ان احتمال مطابقة الواقع في كلامه اشد من غيره. و الظاهر منها ايضا هو اخذها مرجّحا من هذه الجهة، و هي كون احتمال المطابقة للواقع فيها آكد و اشد من غيره لا لكونها لها موضوعية، و اذا كان الملاك في اخذهما ذلك فلا بد من التعدّي عنهما لكلّ ما يكون اقرب الى الواقع، و كذلك الحال في الاعدلية و الاورعية فان الظاهر من اخذهما هو اخذهما ايضا بما ان الراوي الاعدل و الاورع كلامه آكد في احتمال الواقع و مطابقته من غير الاعدل و الاورع.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «لما في الترجيح بمثل الأصدقيّة و الاوثقية و نحوهما» كالاعدليّة و الاورعية «مما فيه من الدلالة على ان المناط في الترجيح بها هو» الجهة المتعلّقة بكلامه من حيث كونه اقرب الى الواقع، فالمناط في الترجيح بهذه الصفات هو «كونها موجبة للاقربية الى الواقع» لا جهة موضوعيتها. و اذا كان المناط في اخذها ذلك فلا بد من التعدّي عنه لكلّ ما يكون اقرب الى الواقع لتحقق المناط فيه.

الوجه الثاني: في الترجيح بالشهرة فان كونها مرجّحة يقتضي التعدّي ايضا لكلّ ما هو اقرب الى الواقع.

ص: 105

.....

______________________________

و بيان ذلك: ان التعليل الوارد وجها لتقديم الرواية المشهورة على غير المشهورة هو كون المشهور لا ريب فيه، لا بد و ان يكون المراد منه هو نفي الريب الاضافي عنها، لا نفي الريب عن الرواية المشهورة حقيقة، لوضوح ان الرواية لها جهات ثلاث: جهة السند، وجهة الظهور، وجهة الصدور. و لو كان المراد نفي الريب عنها حقيقة للزم كون المشهورة مقطوعة من الجهات الثلاث، و من البديهي ان شهرة الرواية لا توجب القطع لا بسندها و لا بظهورها و لا بجهة صدورها، بل هي باقية على حالها من كونها ظنية السند ظنية الدلالة ظنية جهة الصدور، لبداهة ان الروايتين المتعارضتين تكونان معا مشهورتين، و لا يعقل ان يكون المتعارضان مقطوعين من كل جهة، و الّا كان الحكم الواقعي هو الوجوب و الحرمة. و حيث لا يمكن ارادة نفي الريب عنها حقيقة فلا بد و ان يكون المراد نفي الريب فيها بالاضافة الى الرواية غير المشهورة، بمعنى ان الرواية المشهورة اقرب الى مطابقة الواقع من الرواية غير المشهورة.

و الحاصل: ان المستفاد من التعليل هو كون العلّة لتقديم الرواية المشهورة على غيرها هو انها لا ريب فيها بالاضافة الى غيرها، لا انها لا ريب فيها حقيقة، لان الرواية المشهورة مع كونها مشهورة فيها كثير من الريب كما عرفت. و اذا كان المراد من نفي الريب هو نفي الريب الاضافي، فالمتحصّل منه هو ان المناط للاخذ بالمشهورة دون غير المشهورة هو كونها اقل ريبا، و كلما كان اقل ريبا كان اقرب الى الواقع.

فاتضح: ان المناط هو الاقربية الى الواقع، و عليه فلا بد من التعدّي الى كل ما كان اقرب الى الواقع.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و لما في التعليل» لتقديم الرواية المشهورة «بان المشهور مما لا ريب فيه» فانه لا بد «من استظهار ان العلّة هو عدم الرّيب فيه بالاضافة الى الخبر الآخر» لا نفي الريب حقيقة، فالمشهور لكونه اقل ريبا من غيره يترجّح على غيره «و لو كان فيه الف ريب» و اذا كان الترجيح له لكونه اقل ريبا

ص: 106

و لا يخفى ما في الاستدلال بها: أما الاول: فإن جعل خصوص شي ء فيه جهة الاراءة و الطريقية حجة أو مرجحا لا دلالة فيه على أن الملاك فيه بتمامه جهة إراءته، بل لا إشعار فيه كما لا يخفى، لاحتمال دخل خصوصيته في مرجحيته أو حجيته، لا سيما قد ذكر فيها ما لا يحتمل الترجيح به إلا تعبدا (1)،

______________________________

فلا بد من التعدّي لكل ما كان الريب فيه اقل، و من الواضح ان كل ما كان اقرب الى الواقع من غيره فلا بد من كون الريب فيه اقل من غيره.

الوجه الثالث: التعليل الوارد لترجيح ما خالف العامة و هو كون الرشد في خلافهم، فان المراد من الرشد في الخبر المخالف للعامة هو الاقربيّة للواقع، لوضوح كون الرشد على خلاف الخبر الموافق للعامة هو مخالفتهم للواقع في احكامهم، فالمراد من الرشد هو الموافقة للواقع، و المراد من خلافهم للرشد هو المخالفة منهم للواقع، فانما يترجّح الخبر المخالف لهم لان فيه قرب الموافقة للواقع، و انما يكون الخبر الموافق لهم مرجوحا لكونه موافقا لما هو بعيد عن الواقع. فهذا التعليل يدل على ان المناط للترجيح هو القرب الى الواقع، و عليه فلا بد من التعدّي لكل مزية توجب القرب الى الواقع لتحقق مناط الترجيح فيه.

(1)

مناقشة المصنف (قده) فيها

اورد المصنف على الوجه الاول بايرادين: الاول: ان وجه الاستدلال به- كما مرّ- هو ان الظاهر من الأصدقيّة و الاوثقية ان الترجيح بهما لا لاخذهما على نحو الموضوعية و بما هما صفة من الصفات النفسيّة، بل المناط في اخذهما جهة تعلّقهما بالواقع و إراءتهما عنه و مطابقتهما له، فيتعدّى منهما الى كلّ مزيّة توجب قوة احتمال المطابقة للواقع و الاراءة عنه و القرب اليه.

و يرد عليه: ان ترجيح احدى الحجتين في مقام المعارضة هو على طبق جعل الحجية، فكما ان جعل الحجية لخبر الثقة لا يقتضي التعدّي عنه لحجية مطلق ما يوجب الوثوق من الظنون، لاحتمال خصوصية لخبر الثقة دون سائر الظنون الموجبة للوثوق، فكذلك الترجيح لاوثقيّة المخبر على غيره الذي ليس مثله في الاوثقية

ص: 107

.....

______________________________

لا يتعدّى عنها لكل مزية توجب القرب الى الواقع غير الاوثقية، لاحتمال ان ليس تمام الملاك للترجيح بها هو محض الاراءة عن الواقع، بل يحتمل ان يكون لاضافتها الى المخبر دخل ايضا في الترجيح، و مع احتمال الدخل لاوثقية المخبر في الترجيح لا يعلم ان تمام المناط هو الاراءة عن الواقع حتى يتعدّى عنها الى كلّ مزية توجب القرب الى الواقع.

و الحاصل: ان خبر الثقة مع ان له إراءة عن الواقع، لكن جعله حجة لا يقتضي التعديّ عنه لكل ظن يوثق باراءته للواقع، لاحتمال دخل خصوصية الخبريّة فيه، كذلك الترجيح بأوثقيّة الراوي يحتمل ايضا ان يكون لخصوصية الاضافة الى الراوي دخل في مقام الترجيح، فلا يقتضي التعدّي الى كل مزيّة توجب القرب الى الواقع، لانه لم يعلم ان الاراءة عن الواقع هي تمام الملاك للترجيح.

و بعبارة اخرى: ان مجرد كون الاوثقية لها إراءة عن الواقع لا يقتضي ان تمام الملاك للترجيح بها هي هذه الجهة، لاحتمال كون اضافتها الى الراوي له دخل في ملاك الترجيح، فلا دلالة للاصدقيّة و الاوثقية على ان تمام الملاك لاخذهما هو جهة الاراءة عن الواقع، بل لا اشعار في اخذهما على ان تمام الملاك هو الاراءة عن الواقع، كما لا اشعار في حجية خبر الثقة على ان تمام الملاك فيه هو الظن الموجب للوثوق بالواقع.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «فان جعل خصوص شي ء فيه جهة الاراءة و الطريقية» الى الواقع «حجة» في اصل جعل الحجية لخبر الثقة «او مرجحا» في مقام ترجيح خبر ثقة على خبر ثقة «لا دلالة فيه» أي في هذا الجعل لما فيه الاراءة «على ان الملاك فيه بتمامه» هو «جهة إراءته» لا في مقام اصل الحجية و لا في مقام ترجيح احدى الحجتين «بل لا اشعار فيه» بان تمام الملاك هو الاراءة «لاحتمال دخل خصوصية» اخرى «في مرجحيته» غير الاراءة «او» دخل خصوصية اخرى في اصل «حجيته» غير الاراءة كما عرفت.

ص: 108

فافهم (1).

و أما الثاني: فلتوقّفه على عدم كون الرواية المشهورة في نفسها مما لا ريب فيها، مع أن الشهرة في الصدر الاول بين الرواة و أصحاب الائمة عليهم السّلام موجبة لكون الرواية مما يطمأن بصدورها، بحيث يصح أن يقال عرفا: إنها مما لا ريب فيها، كما لا يخفى.

و لا بأس بالتعدي منه إلى مثله مما يوجب الوثوق و الاطمئنان بالصدور، لا إلى كل مزية و لو لم يوجب إلا أقربية ذي المزية إلى الواقع،

______________________________

الايراد الثاني: انه لو كان تمام المناط في الترجيح هو الاراءة عن الواقع لما اخذ في روايات الترجيح مزايا لا ربط لها بالاراءة عن الواقع كالافقهيّة، فان كون الراوي افقه لا يوجب كون خبره اقرب الى الواقع من خبر غير الافقه المساوي له في الأصدقيّة و الاوثقية، فلا يكون الترجيح بها الّا تعبّدا محضا.

و الحاصل: ان الترجيح بالافقهيّة ليس لجهة الاراءة عن الواقع، فلو كان تمام الملاك للترجيح هو الاراءة عن الواقع لما كانت الأفقهيّة من مزايا الترجيح، و حيث كانت من المرجحات يعلم منه انه ليس تمام الملاك للترجيح هو الاراءة عن الواقع.

و الى هذا اشار بقوله: «لا سيما» و «قد ذكر فيها» أي في المرجحات «ما لا يحتمل الترجيح به الا تعبّدا» كالافقهيّة فان الترجيح بها تعبّد محض لا لاجل الاراءة عن الواقع.

(1) لعله يشير الى انه لما كان نقل اكثر الرواة بالمضمون فيكون للأفقهيّة جهة إراءة عن الواقع، لوضوح ان الافقه اقرب الى الاحاطة بالواقع من غير الأفقه.

ص: 109

من المعارض الفاقد لها (1).

______________________________

(1) قد عرفت ان الوجه في ان المناط هو القرب الى الواقع هو التعليل لتقديم الخبر المشهور على غير المشهور انه لا ريب فيه، بتقريب ان المراد من نفي الريب هو نفي الريب الاضافي لا الحقيقي كما مرّ بيانه.

و قد اورد عليه المصنف بانه بعد تعذّر ارادة نفي الريب الحقيقي لا يتعيّن نفي الريب الاضافي، بل المراد نفي الرّيب بحسب الاستغراق العرفي: أي ان المراد منه نفي الريب الحقيقي العرفي دون نفي الريب الحقيقي حقيقة.

و توضيح ذلك: انما لا يعقل ارادة نفي الرّيب الاستغراقي حيث يرجع الى الجهات الثلاث في الرواية: جهة السند، وجهة الدلالة، وجهة الصدور. اما اذا رجع نفي الريب الى خصوص جهة السند فلا مانع من كون الخبر المشهور لا ريب فيه عرفا من هذه الجهة، و على هذا فيكون الترجيح بالشهرة لأرجحيّة جهة السند في الخبر المشهور على غيره، لان شهرة الرواية في الصدر الاول القريب من الائمة عليهم السّلام توجب الاطمئنان بالرواية بحيث يصح ان يقال انها لا ريب فيها عرفا، و لاجل هذا الاطمئنان تترجح الرواية المشهورة على غير المشهورة.

و الحاصل: انه لا اشكال في ان الشهرة في الرواية في الصدر الاول توجب الاطمئنان بالرواية من حيث السند، فارتباط الشهرة بجهة السند و انها بواسطتها تكون الرواية لا ريب فيها عرفا لا اشكال فيه، و لا مانع من ترجيح احدى الروايتين على الاخرى المتساويتين فيما عدا السند لاجل الرجحان من جهة السند.

فاتضح مما ذكرنا: انه بعد تعذّر نفي الرّيب الحقيقي فاقرب شي ء اليه هو نفي الرّيب بنحو الاستغراق العرفي، لكنه من حيث جهة السند كما يناسبه ارتباط الشهرة به- لا بالجهتين الاخريين- فالمراد بنفي الرّيب في الرواية هو نفي الرّيب الحقيقي العرفي لا نفي الرّيب الحقيقي حقيقة، لا انه بعد تعذّر نفي الرّيب الحقيقي لا بد من ان يكون

ص: 110

.....

______________________________

المراد نفي الرّيب الاضافي حتى يتعيّن كون المناط للترجيح بالشهرة هو القرب الى الواقع كما مرّ بيانه.

نعم على هذا لا بد من الالتزام بالتعدّي الى كل ما يوجب وثوقا بجهة السند في احدى الروايتين بعد تساويهما في غيره، لما ظهر من ان المناط للترجيح بالشهرة هو جهة الوثوق بسند الرواية من حيث الصدور، فلا بد من التعدّي عنه لكل ما يوجب الاطمئنان من حيث الصدور.

و لا يخفى ان الوثوق من حيث الصدور لا يستلزم القرب الى الواقع، لبداهة ان مقطوع الصدور مع احتمال الخطأ في دلالته أو احتمال كون صدوره للتقية لا يستلزم القرب الى الواقع، بل ربما يكون مقطوع الصدور مع كونه موافقا للعامة ابعد عن الواقع من مظنون الصدور المخالف للعامة، فكيف يكون موثوق الصدور مستلزما له؟

فاتضح مما ذكرنا: انه لا دلالة للترجيح بالشهرة على ان المناط للترجيح هو القرب الى الواقع حتى يتعدّى منها الى كلّ مزية توجب القرب الى الواقع و ان لم توجب الوثوق بالصدور.

و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «و اما الثاني» أي الدليل الثاني و هو تعليل الشهرة بان المشهور مما لا ريب فيه، و انه بعد تعذّر المعنى الحقيقي و هو عدم الرّيب حقيقة من حيث الجهات الثلاث، لان الشهرة في الرواية لا توجب كون الرواية لا ريب فيها من الجهات الثلاث حقيقة كما مرّ بيانه، و حينئذ يتعيّن كون المراد من كون الخبر المشهور لا ريب فيه هو نفي الرّيب الاضافي، و مآله الى ان الشهرة انما كانت مرجّحة لانها توجب الاقربية الى الواقع، و لا بد بواسطة هذا التعليل من التعدّي الى كل ما يوجب الاقربية الى الواقع.

و اورد عليه بقوله: «و اما الثاني فلتوقّفه على عدم كون الرواية المشهورة في نفسها مما لا ريب فيها» أي ان هذا الدليل الثاني يتوقف على عدم صحة ارادة نفي الرّيب حقيقة، لان الرواية المشهورة لا تخلو عن الرّيب، فلا بد و ان لا يكون الريب

ص: 111

و أما الثالث: فلاحتمال أن يكون الرشد في نفس المخالفة، لحسنها، و لو سلم أنه لغلبة الحق في طرف الخبر المخالف، فلا شبهة في حصول

______________________________

المنفي فيها هو الريب الحقيقي. فيتعيّن ان يكون المنفي فيها هو الرّيب الاضافي، و بهذا يتمّ هذا الدليل الثاني .. أمّا اذا كان المراد من الرّيب المنفي هو الرّيب الحقيقي لكنه العرفي- لا الحقيقي من كل جهة، و الريب الحقيقي العرفي يصدق عليه انه ريب حقيقي، و حينئذ لا يتعيّن الريب الاضافي- فلا يتم الدليل، و لذا قال (قدس سره):

«مع ان الشهرة في الصدر الاول بين الرّواة و اصحاب الائمة عليهم السّلام موجبة لكون الرواية مما يطمأن بصدورها» و الرواية المطمأن بصدورها يصدق عليها عرفا انها لا ريب فيها، و هي التي «بحيث يصح ان يقال عرفا» في حقها «انها مما لا ريب فيها» و لازم هذا التعليل- حينئذ- هو التعدي الى كل ما يوجب الوثوق بالصدور، كشدة تحفظ الراوي و مزيد اهتمامه بعدم الكذب. و «لا» موجب للتعدي «الى كل مزية و» ان كانت لا توجب الوثوق و الاطمئنان بالصدور، بل كانت تلك المزية «لم توجب الا اقربية ذي المزية الى الواقع من» الخبر «المعارض» لها «الفاقد لها» أي الفاقد لتلك المزية من دون ان تكون تلك المزية موجبة للوثوق و الاطمئنان بالصدور.

مضافا الى انه لو تنزلنا عما ذكرنا و قلنا بان الشهرة في الرواية توجب الاطمئنان بكل جهة من جهات الرواية لا من حيث السند فقط، فلا يكون المراد منها ايضا نفي الريب الاضافي، بل المراد منها ايضا نفي الريب الحقيقي العرفي لا الحقيقي حقيقة، و عليه فلا بد من التعدي الى كل ما يوجب الوثوق و الاطمئنان بجميع جهات الرواية لا ما يوجب القرب الى الواقع و ان لم يوجب وثوقا و لا اطمئنانا بجهات الرواية.

و ينبغي ان لا يخفى ان عبارة المتن يمكن ان يراد منها ما ذكرناه أولا، و يمكن ان يكون المراد منها ما ذكرناه اخيرا، و لا يبعد ظهورها فيما ذكرناه أولا. و اللّه العالم.

ص: 112

الوثوق بأن الخبر الموافق المعارض بالمخالف لا يخلو من الخلل صدورا أو جهة، و لا بأس بالتعدي منه إلى مثله، كما مر آنفا (1).

______________________________

(1) حاصله: ان الوجه الثالث و هو التعليل لترجيح الخبر المخالف للعامة على الموافق لهم بان الرشد في خلافهم مرجعه الى كون تقديم الخبر المخالف اقرب الى الواقع، فالمراد من الرشد هو القرب الى الواقع، فيتعدى منه الى كل مزية توجب القرب الى الواقع.

و قد اورد عليه المصنف بوجهين:

الاول: ما اشار اليه بقوله: «فلاحتمال ان يكون الرشد في نفس المخالفة لحسنها». و توضيحه: ان الرشد الذي كان تعليلا لتقديم الخبر المخالف للعامة يحتمل فيه وجهان: الاول: ان يكون نفس مخالفتهم و الخلاف عليهم رشدا، و ذلك حيث قاوموا الحق و رفعوه عن اهله، فنفس الخلاف عليهم و مقابلتهم عملا رشد لانه بنفسه حسن، كما ورد مثله في اليهود: خالفوهم ما استطعتم. و يشهد لهذا الوجه ما ورد في بعض اخبار مخالفة العامة: (خالفوهم فانهم ليسوا من الحنيفية في شي ء)(1) و على هذا فيكون التعليل بالرشد اجنبيا عن افادة ان المناط فيه هو القرب الى الواقع، لوضوح كون الرشد هو نفس الخلاف عليهم، لا ان ما فيه المخالفة لهم هو الرشد.

الايراد الثاني: مبناه ان يكون المراد من الرشد هو الوجه الثاني، و هو- ايضا- ذو وجهين: الاول: ان يكون المراد من الرشد الذي كان علة للاخذ بالخبر المخالف هو غلبة موافقة الخبر المخالف للواقع، كما يشهد له ما ورد من انه فيه الحق، فانه ظاهر في ان المراد منه هو الواقع، لظهور كون الخبر المخالف فيه الحق هو ان فيه موافقة للواقع، و لازم كون الحق في الخبر المخالف هو الخلل الاجمالي في الخبر الموافق، اما من حيث صدوره او من حيث جهة صدوره، فلا يكون مشمولا لادلة الاعتبار بعد

ص: 113


1- 20. ( 1) اورد الحديث بالمضمون راجع الوسائل ج 18، 85/ 32، باب 9 من ابواب صفات القاضي.

و منه انقدح حال ما إذا كان التعليل لاجل انفتاح باب التقية فيه، ضرورة كمال الوثوق بصدوره كذلك، مع الوثوق بصدورهما، لو لا القطع به في الصدر الاول، لقلة الوسائط و معرفتها (1)، هذا مع ما في

______________________________

وقوع الخلل اجمالا اما في صدوره او جهة صدوره، فيخرج موضوعا عن باب الترجيح، لان الترجيح لا بد و ان يكون بين الحجتين، و مع تحقق الخلل اجمالا اما في الصدور او في جهة الصدور يخرج الخبر الموافق عن الحجية، لعدم شمول ادلة الاعتبار له، و على هذا فلا مانع من التعدي الى كل مزية توجب كون الخبر الخالي عنها غير مشمول لادلة الاعتبار.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و لو سلم انه لغلبة الحق» أي لو سلمنا ان المراد من الرشد هو غلبة الحق «في طرف الخبر المخالف» للعامة «ف» على هذا «لا شبهة في حصول الوثوق بان الخبر الموافق» للعامة «المعارض بالخبر المخالف» للعامة «لا يخلو من الخلل» اجمالا اما «صدورا او جهة» فلا يكون مشمولا لادلة الاعتبار، و يخرج عما هو مفروض المقام من ترجيح احدى الحجتين على الاخرى «و» منه يظهر انه بناء على ان يكون المراد من التعليل بالرشد هو غلبة الحق «لا بأس بالتعدي منه الى مثله» و هو كل مزية توجب الخلل في الخبر المعارض، بحيث لا يكون مشمولا لادلة الاعتبار «كما مر آنفا» في الاشكال على اخبار الترجيح.

(1) هذا هو الوجه الثاني من الوجهين للتعليل بالرشد- حيث لا يكون نفس الخلاف رشدا بل يكون الرشد في نفس الخبر المخالف للعامة- هو ان يكون المراد من التعليل بالرشد الموجب للاخذ بالخبر المخالف للعامة هو التقية في الخبر الموافق للعامة، كما يشهد له ما ورد في رواية عبيد بن زرارة عن الصادق عليه السّلام (قال عليه السّلام: ما سمعته مني يشبه قول الناس فيه التقية، و ما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه)(1)

ص: 114


1- 21. ( 1) الوسائل ج 18، 88/ 46، باب 9 من ابواب صفات القاضي.

.....

______________________________

فان التعليل للاخذ بالخبر المخالف للعامة بانه رشد يكون معناه كون الخبر الموافق لهم قد كان صدوره للتقية و لم يصدر لبيان الواقع، و من الواضح ان ما كان صدوره لا لبيان الواقع لا يكون مشمولا لادلة الاعتبار في مقطوع الصدور فضلا عن غيره، فيكون خارجا عن مقامنا و يكون من ترجيح الحجة على غير الحجة، لا ترجيح احدى الحجتين على الاخرى كما هو المفروض في المقام.

و على كل فالرشد سواء كان المراد منه هو غلبة الحق في الخبر المخالف او صدور الموافق للتقية لا يكون من باب ترجيح احدى الحجتين ليكون المراد منه القرب الى الواقع، بل يكون خارجا، و لا بأس بالتعدي عن هذه المزية الى مثلها مما يكون وجود المزية موجبا لعدم شمول ادلة الاعتبار للخبر المعارض.

و وجه انقداح الحال في كون المراد من الرشد هو انفتاح باب التقية في الخبر الموافق للعامة من كون الرشد بمعنى غلبة الحق في الخبر المخالف للعامة واضح، من انه كما يوجب الخلل اجمالا في الخبر الموافق فلا يكون مشمولا لادلة الاعتبار، كذلك انفتاح باب التقية في الخبر الموافق يوجب عدم شمول ادلة الاعتبار للخبر الموافق.

إلّا ان يقال ان الكلام حيث كان مورده ترجيح احدى الحجتين على الاخرى لا ترجيح الحجة على اللاحجة، فلا مناص من ان يكون المراد من الخلل الاجمالي هو احتمال الخلل لا القطع به، و كذلك المراد بالتعليل بالرشد في الخلاف فان المراد هو الاحتمال ايضا، دون القطع الموجب لكون المقام من ترجيح الحجة على اللاحجة.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و منه انقدح حال ما اذا كان التعليل» بالرشد «لاجل انفتاح باب التقية فيه» أي في الخبر الموافق «ضرورة» ان انفتاح باب التقية في الخبر الموافق يوجب «كمال الوثوق بصدوره كذلك» أي للتقية لا لبيان الواقع فلا تشمله ادلة الاعتبار «مع» فرض «الوثوق بصدورهما» أي بصدور كلا الخبرين المخالف و الموافق «لو لا القطع به» أي لو لم ندعي القطع بصدورهما معا

ص: 115

عدم بيان الامام عليه السّلام للكلية كي لا يحتاج السائل إلى إعادة السؤال مرارا (1)، و ما في أمره عليه السّلام بالارجاء بعد فرض التساوي فيما ذكر من

______________________________

كما هو حاصل كثيرا «في الصدر الاول لقلة الوسائط و معرفتها» لوضوح ان تعدد الوسائط هو الموجب لتوفر احتمال الظن بالصدور، اما خبر العادل مع قلة الوسائط فانه موجب غالبا للقطع بالصدور لمعرفة حال الرواة تفصيلا لا بالشهادة و التزكية.

(1) هذا الاشكال- كالذي ياتي بعده و كالاشكال الثالث- اشكال عام على التعدي الى كل مزية توجب القرب الى الواقع.

و توضيحه: ان لازم ما ذكر من الوجوه الثلاثة للتعدي هو كون المناط للترجيح هو القرب الى الواقع، و لا خصوصية للمزايا المنصوص عليها في اخبار الترجيح.

و لو كان الامر كما ذكر لما كان هناك داع للامام عليه السّلام ان ينتقل من خصوصية الى خصوصية اخرى، بل كان ينبغي ان يقول الامام عليه السّلام عند ما يسأله السائل عن الحال في المتعارضين: بان الحكم في المتعارضين هو تقديم الخبر الواجد لمزية توجب القرب الى الواقع، و لا داعي لذكر هذه المزايا واحدة بعد واحدة حتى لا يحتاج السائل الى تكرير السؤال مرارا بفرض كونهما متساويين بالاعدلية و غيرها من صفات الراوي، فيجيب الامام بالترجيح بالشهرة و هلم جرا، بل كان ينبغي من الاول ان يقول الامام: المدار في الترجيح على المزية الموجبة للقرب الى الواقع بنحو الكلية كضابط للترجيح فلا يحتاج السائل للتكرير، فعدول الامام عليه السّلام عن الكلية و ذكره للمزايا واحدة بعد واحدة لفرض السائل التساوي بعد كل واحدة منها يدل على الخصوصية للمزايا المنصوصة.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «هذا مع» أي يضاف الى ما ذكرناه من الاشكالات الخاصة على كل وجه من وجوه التعدي الثلاثة اشكال عام عليها جميعا و هو «ما في عدم بيان الامام عليه السّلام للكلية» فانه لو كان المناط هو القرب الى الواقع كما تقتضيه الوجوه الثلاثة لذكر الامام عليه السّلام ان المدار في الترجيح هو كل مزية توجب القرب

ص: 116

المزايا المنصوصة، من الظهور في أن المدار في الترجيح على المزايا المخصوصة، كما لا يخفى (1).

ثم إنه بناء على التعدي حيث كان في المزايا المنصوصة ما لا يوجب الظن بذي المزية و لا أقربيته، كبعض صفات الراوي مثل الاورعية أو

______________________________

الى الواقع «كي لا يحتاج السائل الى اعادة السؤال مرارا» فانه لو لم يذكر الامام عليه السّلام المزايا المذكورة بخصوصها و ذكر الترجيح بنحو الكلية لما كرر السائل السؤال مرارا، فعدول الامام عليه السّلام عن الكلية الى ذكر المزايا واحدة بعد واحدة دليل على ان للمزايا المذكورة خصوصية في مقام الترجيح.

(1) هذا هو الاشكال الثاني العام على الوجوه الثلاثة للتعدي.

و حاصله: ان الامام عليه السّلام بعد ذكر المزايا المذكورة واحدة بعد واحدة و فرض السائل تساوي المتعارضين في جميعها امره الامام عليه السّلام بالارجاء حتى يلقاه، و لو كان المناط للترجيح هو كل مزية توجب القرب الى الواقع غير المزايا المنصوصة لأمره الامام- بعد فرض التساوي في تلك المزايا- بالترجيح بما يوجب القرب الى الواقع من غير تلك المزايا، فاذا فرض السائل التساوي فيها ايضا لا ينبغي ان يامره عليه السّلام بالارجاء، بل يأمره بالترجيح بما يوجب القرب الى الواقع، فأمره عليه السّلام بالارجاء بمحض فرض التساوي في المزايا المنصوصة دليل على ان للمزايا المنصوصة خصوصية في مقام الترجيح، و ليس المناط في الترجيح هو كل مزية توجب القرب الى الواقع.

و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «و ما في امره عليه السّلام بالارجاء بعد فرض التساوي فيما ذكر من المزايا المنصوصة من الظهور» أي الاشكال الثاني على الوجوه الثلاثة للتعدي، فان في امر الامام عليه السّلام بالارجاء- بمجرد فرض التساوي في المزايا المنصوصة من دون ذكره للترجيح بغيرها مما يوجب القرب- ظهورا واضحا «في ان المدار في الترجيح على المزايا المخصوصة» التي نص عليها، فلا وجه للتعدي عنها «كما لا يخفى».

ص: 117

الافقهية، إذا كان موجبهما مما لا يوجب الظن أو الاقربية، كالتورع من الشبهات، و الجهد في العبادات، و كثرة التتبع في المسائل الفقهية أو المهارة في القواعد الاصولية، فلا وجه للاقتصار على التعدي إلى خصوص ما يوجب الظن أو الاقربية، بل إلى كل مزية، و لو لم تكن بموجبة لاحدهما، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1) هذا اشكال ثالث على التعدي.

و توضيحه: ان المزايا المذكورة في اخبار الترجيح على انحاء:

منها: ما يوجب القوة من حيث السند و بعد احتمال كذب الراوي كالاصدقية.

و منها: ما يوجب القوة بالنسبة الى القرب الى الواقع كموافقة الكتاب.

و منها: ما يوجب القوة في جهة الصدور كمخالفة العامة.

و منها: ما لا يرجع باطلاقه الى شي ء مما ذكرنا كالافقهية و الاورعية، فان الافقه كما يصدق على من كان افقه في مقام نقل المضمون، كذلك يصدق الافقه على من كان افقه لكثرة تتبعه في المسائل الفقهية و وفور استحضاره لها، و كذلك يصدق الافقه على من كان أمهر من غيره في المسائل الاصولية و تطبيقها على مواردها. و من الواضح ان الافقه لمزيد استحضاره للمسائل او لانه امهر في المسائل الاصولية لا يوجب في مقام نقله قوة لخبره، لا من حيث السند و لا من حيث القرب الى الواقع و لا من حيث جهة الصدور. و مثله الحال في الاورعية فان اطلاقها يشمل ما لا دخل له بالجهات الثلاث، لا من حيث السند و لا من حيث جهة القرب و لا من حيث الجهة الصدور، فان الاورع كما يصدق على الاورع من حيث النقل، كذلك يصدق على من كان اورع في مقام التجنب عن الشبهات، و على من كان اورع لمزيد مواظبته على العبادات و كان شديد الجهد فيها. و من الواضح ان الاورع لتجنبه عن الشبهات او لمزيد جهده في العبادات لا يوجب قوة لخبره على خبر غيره، لا من حيث السند و لا من حيث القرب الى الواقع و لا من حيث جهة الصدور. و بناء على التعدّي بما

ص: 118

.....

______________________________

هو مستفاد من المزايا المنصوصة كما هو صريح الوجوه الثلاثة المتقدمة الى كل ما يوجب القرب الى الواقع، فلا بد من التعدي من الافقهية و الاورعية الى كل صفة توجب مزيد فضل للراوي على الراوي الآخر، و لا وجه للاقتصار على خصوص المزايا التي توجب القرب الى الواقع، إلّا انه قد تقدم في شرح فافهم المتقدمة بعد الايراد الثاني على الوجه الاول: من ان النقل المتعارف هو النقل بالمضمون، و عليه فالافقه يكون افهم من غيره لمراد الامام عليه السّلام، و كذلك الاورع فان المتثبت يكون ابعد عن احتمال الخطأ، و ليس المراد من الاورعية حيثية التجنب عن الشبهات، فراجع ...

و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «ثم انه بناء على التعدي» بما هو مستفاد من المزايا المنصوصة فانه «حيث كان في المزايا المنصوصة ما لا يوجب الظن بذي المزية» لا من حيث السند و لا من حيث جهة الصدور «و لا» من «اقربيته» الى الواقع «كبعض صفات الراوي مثل الاورعية أو الافقهية» فان اطلاقهما يشمل ما لا دخل له بالجهات المذكورة لا من حيث جهة السند و لا من حيث جهة الصدور و لا من حيث جهة القرب الى الواقع، و ذلك فيما «اذا كان موجبهما مما لا يوجب الظن» بجهة السند أو بجهة الصدور «او الاقربية» الى الواقع «كالتورع من الشبهات و الجهد في العبادات» فان من كان شديد التورع في التجنب عن الشبهات كان شديد الجهد في العبادات، فانه يصدق عليه انه اورع من غيره، و ليس لهذه الاورعية دخل فيما ذكرنا من الجهات «و» مثله الحال في الافقهية فان اطلاقها يشمل «كثرة التتبع في المسائل الفقهية او المهارة في القواعد الاصولية» و يصدق عليه انه افقه، مع ان افقهيته من حيث كثرة التتبع او المهارة في المسائل الاصولية لا دخل له بالجهات المذكورة. و حيث كان البناء على التعدي مستفادا من المزايا المنصوصة «فلا وجه للاقتصار على التعدي الى خصوص ما يوجب الظن او الاقربية بل» لا بد من

ص: 119

و توهم أن ما يوجب الظن بصدق أحد الخبرين لا يكون بمرجح، بل موجب لسقوط الآخر عن الحجية للظن بكذبه حينئذ (1)، فاسد. فإن الظن بالكذب لا يضر بحجية ما اعتبر من باب الظن نوعا، و إنما يضر

______________________________

التعدي «الى كل مزية» توجب الفضل للراوي «و لو لم تكن بموجبة لاحدهما كما لا يخفى» أي لا للظن و لا للأقربية.

و مما ذكرنا ظهر ان قوله في المتن فلا وجه للاقتصار مما يتعلق بقوله في صدر عبارته حيث كان في المزايا المنصوصة.

(1) توضيح ربط هذا التوهم بما سبقه من الكلام هو ما ذكره في آخر عبارته السابقة:

من انه لا وجه للاقتصار على التعدي الى ما يوجب الظن او الاقربية، فان كون الظن في قبال الاقربية الى الواقع انما هو حيث يكون المراد من الظن هو الظن الشخصي، و المراد من الاقربية هي الاقربية النوعية، كما تقدمت الاشارة الى هذا عند ذكر الاقوال فيما تقتضيه القاعدة الثانية في الخبرين المتعارضين.

و حاصل هذا التوهم: انه لا وجه لكون الظن الشخصي من المرجحات، لان لازم الظن الشخصي بصدق احد الخبرين هو الظن بكذب الخبر الآخر، و الظن بالكذب مما يوجب عدم شمول ادلة الحجية للخبر المظنون بكذبه، فيخرج عما هو المفروض في المقام من كون المقام من باب ترجيح احدى الحجتين على الاخرى لا ترجيح الحجة على غير الحجة، و الظن بكذب احد الخبرين يوجب خروجه عن ادلة الحجية، فلا يكون ذلك من باب ترجيح حجة على حجة، بل هو ترجيح الحجة على غير الحجة.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و توهم ان ما يوجب الظن بصدق احد الخبرين لا يكون بمرجح» لاحدى الحجتين على الاخرى «بل» هو «موجب لسقوط الآخر عن الحجية» لان لازم الظن بصدق احد الخبرين الظن بكذب الآخر، فيسقط هذا الآخر عن الحجية «للظن بكذبه حينئذ».

ص: 120

فيما أخذ في اعتباره عدم الظن بخلافه، و لم يؤخذ في اعتبار الاخبار صدورا و لا ظهورا و لا جهة ذلك (1)، هذا مضافا إلى اختصاص حصول

______________________________

(1) لا يخفى ان قوله: «فاسد» هو خبر «توهم». و وجه فساد هذا التوهم: ان حجية الخبر من حيث جهاته الثلاث- سندا و دلالة وجهة- غير مشروطة بعدم الظن بالخلاف، لما هو ظاهر من ان حجية الخبر انما هي من باب حجية الظن النوعي، و ان لم يكن مفيدا للظن الشخصي على وفاقه، و غير مشروطة ايضا بعدم الظن الشخصي بخلافه.

و الحاصل: ان في حجية الخبر احتمالات ثلاثة: الاول: ان حجيته من الظنون النوعية غير المشروطة بعدم الظن بالخلاف.

الثاني: ان تكون من باب الظن النوعي لكنها مشروطة بعدم الظن على خلافه.

و الفرق بين الاول و الثاني هو انه على الاول لا يشترط في حجية الخبر الظن الشخصي على وفاقه و لا يمنع عن حجيته الظن الشخصي على خلافه، و على الثاني فانه و ان كان لا يشترط في حجية الخبر الظن الشخصي على وفاقه، و لكنه يمنع عن حجية الظن الشخصي على خلافه.

الثالث: كون حجية الخبر مشروطة بالظن الشخصي على وفاقه.

و الظاهر من ادلة الاعتبار سواء كان بناء العقلاء او الاخبار هو الاول، و ان حجيته من باب الظن النوعي غير مشروطة بعدم الظن بالخلاف، لقيام بناء العقلاء على الاخذ بخبر الثقة و ان لم يفد الظن الشخصي، و الاخذ به و ان قام الظن الشخصي على خلافه. و مثله المستفاد من اخبار حجية خبر الثقة و بناء العقلاء- ايضا- على الاخذ بالظهور الدلالي كذلك، و بناؤهم ايضا على ان الاصل كونه صادرا لبيان الواقع و ان لم يفد الظن الشخصي بذلك و حتى لو قام الظن الشخصي على صدوره لا لبيان الواقع.

فاتضح مما ذكرنا عدم كون الظن بكذب احدهما موجبا لخروج الخبر عن ادلة الحجية. و على هذا فالترجيح بما يوجب صدق احد الخبرين هو من ترجيح الحجة

ص: 121

الظن بالكذب بما إذا علم بكذب أحدهما صدورا، و إلا فلا يوجب الظن بصدور أحدهما لا مكان صدورهما مع عدم إرادة الظهور في أحدهما أو فيهما، أو إرادته تقية، كما لا يخفى (1).

______________________________

على الحجة، لا ترجيح الحجة على اللاحجة. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «فاسد» أي ان هذا التوهم فاسد «فان الظن بالكذب لا يضر بحجية ما اعتبر» حجية «من باب الظن النوعي» غير المشترط فيه الظن بالوفاق و لا عدم الظن بخلافه «و انما يضر» بحجيته «فيما» لو «اخذ في اعتباره عدم الظن بخلافه و لم يؤخذ في اعتبار الاخبار» من حيث جهاتها الثلاث لا «صدورا و لا ظهورا و لا جهة ذلك» أي عدم الظن بالخلاف كما عرفت انه لم يؤخذ الظن بالوفاق في اعتبار الاخبار ايضا.

(1) هذا اشكال ثان على التوهم المذكور، و حاصله: ان الظن بصدق احد الخبرين انما يوجب الظن بكذب الآخر في مورد واحد من التعارض، و هو ما اذا علم بكذب احدهما، فانه في هذا المقام حيث علم اجمالا بكذب احد الخبرين و عدم صدوره فلا محالة يكون الظن بصدق احد الخبرين موجبا للظن بكذب الآخر و عدم صدوره، إلّا انه ليس دائما يعلم بكذب احد المتعارضين، بل كثيرا ما يتعارض الخبران و لا يعلم بكذب احدهما. و حينئذ فالاحتمالات كثيرة: لانه يحتمل صدق احدهما و كذب الآخر، و يحتمل كذبهما معا و عدم صدورهما، و يحتمل صدورهما معا و لم يرد الظهور في احدهما اصلا او لم يرد الظهور فيهما معا، و يحتمل صدورهما معا و قد اريد الظهور في احدهما للتقية لا لبيان الواقع او في كليهما للتقية. و مع هذه الاحتمالات لا يكون الظن بصدق احد الخبرين و صدوره موجبا للظن بكذب الآخر و عدم صدوره، فلا وجه للتوهم المذكور من كون الظن بصدق احدهما موجبا للظن بكذب الآخر و يكون المقام من باب ترجيح الحجة على اللاحجة، لا من باب ترجيح احدى الحجتين على الاخرى.

ص: 122

نعم لو كان وجه التعدي اندراج ذي المزية في أقوى الدليلين لوجب الاقتصار على ما يوجب القوة في دليليته و في جهة إثباته و طريقيته، من دون التعدي إلى ما لا يوجب ذلك، و إن كان موجبا لقوة مضمون ذيه ثبوتا، كالشهرة الفتوائية أو الاولوية الظنية و نحوهما، فإن المنساق من قاعدة أقوى الدليلين أو المتيقن منها، إنما هو الاقوى دلالة، كما لا يخفى (1)،

______________________________

و قد اشار الى ان الظن بصدق احد الخبرين موجب للظن بكذب الآخر في مورد واحد من التعارض- و هو ما اذا علم اجمالا بكذب احدهما- بقوله: «هذا مضافا الى اختصاص حصول الظن بالكذب بما اذا علم بكذب احدهما صدورا» على نحو الاجمال فانه في هذا المورد يكون الظن بصدق احدهما موجبا للظن بكذب الآخر صدورا. و اشار الى انه في غير هذا المورد لا يكون الظن بصدق احدهما موجبا للظن بكذب الآخر- مع الاشارة الى بعض الاحتمالات المذكورة- بقوله: «و إلّا» أي و ان لم يعلم بكذب احدهما اجمالا «فلا يوجب الظن بصدور احدهما» الظن بكذب الآخر «لا مكان صدورهما» معا «مع عدم ارادة الظهور في احدهما او» مع عدم ارادة الظهور «فيهما او ارادته تقية» أي و يحتمل ارادة الظهور تارة في احدهما تقية، و اخرى فيهما معا تقية، كما اذا كان للعامة قولان و كانا معا مخالفين للواقع «كما لا يخفى».

(1) توضيحه: ان هذا الاستدراك مرتبط بالاشكال الاخير على التعدي لكل ما يوجب القرب الى الواقع، و هو انه بناء على ان التعدي الى ما يقرب الى الواقع مستفاد من المرجحات المذكورة في اخبار الترجيح، فانه مما يرد عليه- كما مر- انه لا معنى للاقتصار في التعدي على خصوص ما يوجب القرب الى الواقع، بل لا بد من التعدي الى كل مزية توجب مزيد فضل لاحدهما على الآخر. فاستدرك من كلامه هذا بقوله: «نعم» و حاصله: ان التعدي الى كل مزية توجب مزيد الفضل انما هو حيث يكون الوجه للتعدي هو المرجحات المنصوصة.

ص: 123

.....

______________________________

و اما اذا كان الوجه للتعدي هو قيام الاجماع على ترجيح اقوى الدليلين، فلا يصح التعدي الى كل مزية توجب مزيد فضل لاحدهما على الآخر، بل يقتصر على التعدي لكل مزية توجب قوة احد الدليلين في مقام دليليته: أي لا بد من الاقتصار على ما يوجب قوة احد الخبرين في احد جهاته الثلاث- من سنده او ظهوره او صدوره لا للتقية- و لا يتعدى الى غير ذلك من المزايا، كالمزية التي توجب قوة مضمونة من دون ان تكون موجبة لقوة جهة من جهاته الثلاث، كما لو وافق احد الخبرين المتعارضين الشهرة الفتوائية من دون استنادها الى احد الخبرين، او كانت الاولوية الظنية موافقة لاحدهما، فلا يجوز التعدي اليهما، لان الشهرة الفتوائية و الاولوية الظنية انما يقويان مضمون الخبر، من دون تقوية لهما لجهة من جهاته.

و الحاصل: ان الظاهر من هذه القضية التي ادعي قيام الاجماع عليها- و هو ترجيح اقوى الدليلين- هي القوة الراجعة للدليل في مقام دليليته، و هي منحصرة في جهاته الثلاث من سنده او ظهوره او جهة صدوره. اما ما يرجع الى قوة مضمونة و هو كون مضمونة اقرب الى الواقع من غيره فلا ربط له بمقام دليليته، و ان لم تكن تلك القضية ظاهرة في الاختصاص بما يرجع الى دليلية الدليل. فحيث انها لسان معقد الاجماع و هو دليل لبي لا بد من الاقتصار فيه على القدر المتيقن، و القدر المتيقن هو الاقتصار على ما يرجع الى مقام الدليلية من دون التعدي الى غيره مما لا ربط له بدليلية الدليل، لانها ان لم تكن ظاهرة في الاختصاص فعدم ظهورها في العموم لكل ما يوجب قوة و ان كانت خارجة عن مقام الدليلية مما لا ريب فيه، فلا بد من الاقتصار على القدر المتيقن.

و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «نعم لو كان وجه التعدي» الى غير المزايا المنصوصة ليس مستندا الى ما يستفاد من نفس تلك المزايا، بل كان وجه التعدي هو «اندراج ذي المزية في اقوى الدليلين» لقيام الاجماع على الاخذ باقوى الدليلين، فلو كان هذا هو الوجه للتعدي «لوجب الاقتصار على ما يوجب القوة في دليليته

ص: 124

فافهم (1).

فصل قد عرفت سابقا أنه لا تعارض في موارد الجمع و التوفيق العرفي، و لا يعمها ما يقتضيه الاصل في المتعارضين، من سقوط أحدهما رأسا

______________________________

و في» ما يرجع الى «جهة اثباته و طريقيته» و هي جهاته الثلاث: السند و الظهور و جهة الصدور «من دون التعدّي الى ما لا يوجب ذلك» أي من دون التعدّي الى ما لا يوجب قوة للدليل في مقام دليليّته و طريقيته و هي غير الجهات الثلاث «و ان» كان هناك ما «كان موجبا لقوة مضمون ذيه ثبوتا» لا اثباتا، لان جهة الاثبات في الدليل هي جهاته الثلاث «كالشهرة الفتوائية او الاولوية الظنية و نحوهما» فانهما انما يوجبان قوته ثبوتا و هو قوة موافقة مضمونه الواقع، من دون قوته في مقام دليليته و اثباته. و اشار الى الوجه في وجوب الاقتصار على ما يرجع الى مقام دليليته بالخصوص بقوله: «فان المنساق» أي الظاهر «من قاعدة اقوى الدليلين او المتيقن منهما انما هو الاقوى» في مقام «دلالة» الدليل بما هو دليل الراجعة الى اثباته «كما لا يخفى».

(1) لعله اشارة الى انه لا وجه للجمود على عنوان الدليليّة، فان الدليل حيث انه فان في مدلوله فقوّة مدلوله تسري اليه، فان الخبر كما يوصف بكونه مخالفا للعامة مع ان المخالف للعامة مدلوله و مضمونه، كذلك يوصف الخبر بانه اقوى فيما اذا كان مضمونه اقوى.

او انه اشارة الى وهن الاجماع على القضية المذكورة، فانه حيث كان محتمل المدرك فلا حجيّة فيه و ان قلنا بحجية الاجماع المنقول. و اللّه العالم.

ص: 125

و سقوط كل منهما في خصوص مضمونه، كما إذا لم يكونا في البين (1)، فهل التخيير أو الترجيح يختص أيضا بغير مواردها أو يعمها (2)؟ قولان:

______________________________

(1)

الفصل الخامس: اختصاص الاخبار العلاجية بغير موارد الجمع العرفي

اشارة

قد مرّ في اول مبحث التعارض ان القاعدة الاولى في المتعارضين هي سقوط احدهما لا بعينه و بقاء حجية احدهما لا بعينه على مختارة (قدس سره)، و حيث انه غير معلوم فلازم ذلك هو سقوط كل منهما في المدلول المطابقي لهما، لكن انما هي في المتعارضين غير المتلائمين في الدلالة عرفا، و لازم هذا خروج موارد الجمع و التوفيق العرفي- كمورد العام و الخاص و المطلق و المقيد و الحاكم و المحكوم و غير ذلك مما مرّ بيانه- عن موضوع هذه القاعدة، لما عرفت من اختصاص موضوعها بغير المتلائمين عرفا من حيث الدلالة، و لما كانت موارد الجمع و التوفيق العرفي من المتلائمين في مقام الدلالة فلا محالة من اختصاص القاعدة الاولى بغير هذه الموارد. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «قد عرفت سابقا انه لا تعارض في موارد الجمع و التوفيق العرفي و لا يعمّها» أي لا يعم موارد الجمع و التوفيق العرفي «ما يقتضيه الاصل في المتعارضين من سقوط احدهما» لا بعينه عن الحجية «رأسا و سقوط كل منهما في خصوص مضمونة» المطابقي «كما اذا لم يكونا في البين» أي انهما في المضمون المطابقي هما بحكم العدم.

(2) بعد ما عرفت من اختصاص القاعدة الاولى بغير موارد الجمع و التوفيق العرفي.

فهل ان القاعدة الثانية الواردة في خصوص الخبرين المتعارضين من التخيير او الترجيح هي ايضا كذلك مختصة بغير موارد الجمع و التوفيق العرفي، او انها عامة حتى لموارد الجمع و التوفيق العرفي؟

و على الاول يختصّ التخيير و الترجيح في الخبرين المتعارضين اللذين ليس بينهما جمع دلالي، فلا مورد للتخيير أو الترجيح بين العام و الخاص و المطلق و المقيد و غيرهما من موارد الجمع الدلالي.

ص: 126

أولهما المشهور (1)، و قصارى ما يقال في وجهه: إن الظاهر من الاخبار العلاجية- سؤالا و جوابا- هو التخيير أو الترجيح في موارد التحير، مما لا يكاد يستفاد المراد هناك عرفا، لا فيما يستفاد و لو بالتوفيق، فإنه من أنحاء طرق الاستفادة عنه أبناء المحاورة (2).

______________________________

و على الثاني يكون التخيير او الترجيح عاما شاملا حتى للخبرين اللذين يكون احدهما عاما و الآخر خاصا او احدهما مطلقا و الآخر مقيدا.

(1) حاصله: ان المنسوب الى المشهور الاول، و هو اختصاص القاعدة الثانية كالقاعدة الاولى بغير موارد الجمع العرفي.

و ظاهر الشيخ (قدس سره) في العدّة و غيرها هو الثاني، و هو عموم اخبار التخيير او الترجيح حتى لموارد الجمع العرفي، و وافقه على ذلك بعض المحدثين.

(2) لا يخفى عليك ان ظاهر المتن في اول كلامه موافقة الشيخ و عموم اخبار التخيير و الترجيح حتى لموارد الجمع العرفي، و سيأتي منه (قدس سره) في آخر كلامه موافقة المشهور و اختصاص اخبار التخيير أو الترجيح بغير موارد الجمع العرفي.

و حيث كان في اول كلامه (قدس سره) موافقا للشيخ قال: «و قصارى ما يقال في وجهه» أي و قصارى ما يقال في وجه اختصاص اخبار التخيير أو الترجيح بغير موارد الجمع العرفي كما هو مذهب المشهور هو «ان الظاهر ... الى آخره».

و بيانه: ان غاية ما يمكن ان يقال في وجه اختصاص الاخبار العلاجية الدالة على التخيير او الترجيح بغير الجمع العرفي: هو ان المنصرف منها سؤالا و جوابا غير موارد الجمع العرفي.

اما سؤالا: فلان الظاهر من ان الداعي لسؤال السائل عن حكم الخبرين المتعارضين هو تحيّره فيما يستفاد منهما، و حيث انه لا تحيّر للسائل فيما يستفاد في موارد الجمع العرفي، فلازم ذلك ان يكون الظاهر منه هو السؤال عن المتعارضين غير المتلائمين في الدلالة، لوضوح انه لا تحيّر له في المتلائمين دلالة، و انما يتحيّر في

ص: 127

و يشكل بأن مساعدة العرف على الجمع و التوفيق و ارتكازه في أذهانهم على وجه وثيق، لا يوجب اختصاص السؤالات بغير موارد الجمع، لصحة السؤال بملاحظة التحير في الحال لاجل ما يتراءى من المعارضة و إن كان يزول عرفا بحسب المآل، أو للتحير (1) في الحكم واقعا

______________________________

غير المتلائمين في الدلالة. و لما كانت موارد الجمع العرفي من المتلائمين في الدلالة فلا تحيّر له فيها فلا داعي له للسؤال عنها، فلا محالة يختصّ سؤاله بغير موارد الجمع العرفي.

و اما جوابا: فلان الظاهر من الجواب هو جواب الامام عليه السّلام عمّا يسأل عنه السائل، فلذا يختصّ ظاهر الجواب ايضا بغير موارد الجمع العرفي.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و قصارى ما يقال في وجهه» أي في وجه ما ذهب اليه المشهور هو «ان الظاهر من الاخبار العلاجية سؤالا و جوابا هو» غير المتلائمين في الدلالة لعدم التحيّر في المتلائمين دلالة، و عليه فيختصّ «التخيير او الترجيح في موارد التحيّر» لان موارد التحيّر هي التي «مما لا يكاد يستفاد المراد» منها «هناك عرفا» و لذلك يتحيّر فيسأل «لا فيما يستفاد» المراد منه «و لو بالتوفيق» العرفي «فانه» حيث كان التوفيق «من انحاء طرق الاستفادة عند ابناء المحاورة» فلا تحير للسائل فيه حتى يسأل عنه. و لما كان الظاهر من السؤال ذلك، و كون الجواب على طبق السؤال و انه لرفع التحيّر، فلا بد من ان يكون الظاهر من الاخبار العلاجية سؤالا و جوابا هو اختصاص التخيير او الترجيح بغير موارد الجمع العرفي.

(1)

إشكال المصنف (قده) على مسلك المشهور بوجوه ثلاثة

اشكل المصنف بوجوه ثلاثة على المشهور.

و حاصل الاشكال الاول على الوجه المذكور لمذهب المشهور، بمنع كون الظاهر من الاخبار العلاجية سؤالا و جوابا هو الاختصاص بغير موارد الجمع العرفي، هو ان موارد الجمع العرفي مما تنافى فيه الدليلان نتيجة، لوضوح ان العام و الخاص- مثلا- من المتنافيين، لدلالة العام على ثبوت حكمه لجميع الافراد حتى مورد

ص: 128

.....

______________________________

الخاص، و دلالة الخاص على خروجه عن حكم العام في مورده، و لازم التنافي بين الدليلين هو حصول التحيّر ابتداء لمن اطلع عليهما. غايته انه في موارد الجمع يزول التحيّر بعد التأمل و الالتفات الى ان العرف بحسب ارتكاز حمل العام على الخاص في اذهانهم لا تحيّر لهم، و في غير موارد الجمع يكون التحيّر باقيا. فالتحيّر الابتدائي حاصل في جميع الموارد حتى مورد الجمع العرفي، و حيث يكون التحيّر الابتدائي موجودا حتى في موارد الجمع العرفي فلا مانع عن صحة سؤال السائل لرفع هذا التحيّر الابتدائي، لعدم التفاته الى ما هو المرتكز في اذهان العرف.

و الحاصل: ان ظهور سؤال السائل بغير موارد الجمع العرفي انما هو حيث لا يكون هناك تحيّر اصلا في موارد الجمع العرفي. اما اذا كان هناك تحير و لو ابتداء يصحّ السؤال عنه و لو في موارد الجمع، فلا ظهور للسؤال في الاختصاص بغير موارد الجمع، لما عرفت من صحة السؤال من السائل لتحيّره ابتداء لاجل التنافي الاولى.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و يشكل» ما ذكروه من اختصاص السؤال بغير موارد الجمع لاختصاص التحيّر بها «بان مساعدة العرف على الجمع و التوفيق» الذي به يزول التحيّر و التنافي «و» ذلك لاجل «ارتكازه في اذهانهم على وجه وثيق لا يوجب اختصاص السؤالات» من السائلين «بغير موارد الجمع لصحة السؤال بملاحظة التحيّر في الحال» بعد الالتفات و التأمل. و حيث يصح السؤال من السائل و لو بملاحظة التحيّر الابتدائي فلا يكون سؤال السائل ظاهرا في الاختصاص.

و لا يخلو ما ذكره المصنف عن المناقشة: اولا: ان دعوى كون الظاهر ان السؤال بملاحظة التحيّر غير البدوي لا يرفعها امكان كون السؤال عمّا يعمّ التحيّر البدوي، لان المدار على الظهور، و الامكان لا يزاحم الظهور، و بعد تسليم كون الظاهر من السؤال التحيّر غير البدوي لا يعقل ان يرفعها امكان كون السؤال عمّا يعم التحيّر البدوي.

ص: 129

و إن لم يتحير فيه ظاهرا، و هو كاف في صحته قطعا (1)، مع إمكان أن يكون لاحتمال الردع شرعا عن هذه الطريقة المتعارفة بين أبناء

______________________________

و ثانيا: من ان عنوان السؤال انما هو عن المتعارضين، و قد مر منه ان المتعارضين هما المتنافيان في الدليلية و الحجية الفعلية، و موارد الجمع العرفي حيث لا تنافي بينهما في الدليلية و الحجية الفعلية فهي خارجة موضوعا عن عنوان المتعارضين.

و ثالثا: ان ظاهر السؤال من السائل هو لانه لا يعرف الحكم الفعلي و ما هو الوظيفة عند التعارض، و الوظيفة الفعلية في موارد الجمع معلومة للسائل.

و اللّه العالم.

(1) هذا هو الاشكال الثاني و هو المصحح الثاني لكون السؤال عما يعم موارد الجمع العرفي، فلا تكون الاخبار العلاجية ظاهرة في الاختصاص بغير موارد الجمع العرفي.

و حاصله: انه لو سلمنا انه اذا كان الداعي للسؤال هو التحير في الوظيفة الفعلية، و لازمه ان تختص الاخبار العلاجية بغير موارد الجمع العرفي، إلّا انه مع كون الداعي للسؤال هو التحير في الحكم الواقعي في المتعارضين فانه لا اشكال قطعا في كونه مما يعم موارد الجمع العرفي، لان الحكم الذي لا تحير فيه في موارد الجمع العرفي هو الحكم الظاهري دون الحكم الواقعي، فان حمل العام على الخاص هو حكم ظاهري. و كما يجوز ان يكون الداعي للسؤال هو التحير في الحكم الظاهري، يجوز ايضا ان يكون الداعي للسؤال هو التحير في الحكم الواقعي، و مع صحة السؤال عما يعم موارد الجمع العرفي حيث يمكن ان يكون الداعي للسؤال هو التحير في الحكم الواقعي، فلا تكون الاخبار العلاجية سؤالا و جوابا مما تختص بغير موارد الجمع العرفي.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «أو للتحير في الحكم واقعا» أي يمكن ان يكون الداعي للسؤال هو التحير في الحكم واقعا «و ان لم يتحير فيه ظاهرا و هو كاف في صحته قطعا» أي ان التحير الواقعي كاف في صحة السؤال عما يعم موارد الجمع

ص: 130

المحاورة، و جل العناوين المأخوذة في الاسئلة لو لا كلها يعمها، كما لا يخفى (1).

______________________________

قطعا. و حيث يمكن ان يكون هو الداعي للسؤال فلا ظهور للاخبار العلاجية في الاختصاص بغير موارد الجمع العرفي. و هذا لا يخلو ايضا عن المناقشة:

أولا: بما عرفت من ان الظاهر هو ان الداعي للسؤال هو التحير في الحكم الظاهري و الوظيفة الفعلية.

و ثانيا: انه لو كان الداعي للسؤال هو التحير في الحكم واقعا لما اكتفى السائل في الجواب بالاخذ بالشهرة او غيرها من المزايا المذكورة في اخبار الترجيح او بالتخيير بينهما، لان ذلك ايضا لا يرفع التحير في الحكم الواقعي.

و ثالثا: ان التحير في الحكم الواقعي موجود حتى مع عدم التعارض، فان الخبر غير المعارض بمثله لا يزال في مورده تحير في الحكم الواقعي، فلا خصوصية للتعارض، مع ان الظاهر ان الداعي للسؤال خصوصية للتعارض، و ليس هي الا التحير في الحكم الظاهري و الوظيفة الفعلية.

(1) هذا هو المصحح الثالث لكون السؤال عما يعم موارد الجمع العرفي، و هو انه مما يحتمل ان يكون الداعي لتعميم سؤال السائل لما يعم موارد الجمع العرفي هو احتماله ردع الشارع عن الطريقة المتعارفة عند ابناء المحاورة في مقام العام و الخاص- مثلا- او المطلق و المقيد، من حمل العام على الخاص و المطلق على المقيد. و مع هذا الاحتمال فلا ظهور للاخبار العلاجية بغير موارد الجمع العرفي، لصحة السؤال قطعا عن الطريقة المتعارفة عند ابناء المحاورة من الشارع، و انه هل هو ممض لها او يردع عنها؟

و يؤيد ما ذكرنا من الاحتمال ان جل العناوين الماخوذة في أسئلة السائلين هي مما تعم الجمع العرفي، لان عنوانها السؤال عن المتعارضين و هما المتنافيان دلالة و لا ريب ان موارد الجمع العرفي من المتنافيين دلالة، و ايضا فان بعضها عنوانها انه يرد امر

ص: 131

و دعوى أن المتيقن منها غيرها مجازفة، غايته أنه كان كذلك خارجا لا بحسب مقام التخاطب (1)، و بذلك ينقدح وجه القول

______________________________

و نهي في شي ء واحد، و لا ريب ان موارد الجمع العرفي كالعام و الخاص يتنافي الامر في العام- مثلا- مع الخاص الذي ينهى عن بعض افراد العام.

و قد اشار الى ما ذكرنا من الاشكال بقوله: «مع امكان ان يكون» الداعي للسؤال عما يعم الجمع العرفي هو «ل» اجل «احتمال الردع شرعا عن هذه الطريقة المتعارفة بين ابناء المحاورة» في مورد الجمع العرفي. و لا ريب انه مع هذا الاحتمال يصح سؤال السائل عما يعم موارد الجمع العرفي، و لا يختص سؤال بغيرها. و اشار الى التأييد بقوله: «و جل العناوين المأخوذة ... الى آخر الجملة».

و هذا ايضا لا يخلو عن المناقشة: اولا بما عرفت من ان الظاهر ان الداعي للسؤال هو غير هذا الاحتمال، بل هو التحير في الوظيفة الفعلية.

و ثانيا: ان ظاهر الأسئلة كلها هو مورد المتعارضين غير المعلومي الصدور، فمثل الآيتين او الخبرين المتواترين خارجان عن مورد الاسئلة، و لازم كون الداعي هو احتمال الردع هو عموم الجواب حتى للآيتين و الخبرين المتواترين اللذين بينهما عموم و خصوص او كان احدهما مطلقا و الآخر مقيدا، و لا يقول به القائل بشمول الاخبار العلاجية لموارد الجمع العرفي، فلا وجه لهذا الاحتمال.

(1) حاصله: ان ما تقدم كان كله في قبال دعوى ظهور اختصاص الاخبار العلاجية بغير مورد الجمع العرفي.

اما اذا كان الوجه في ما ذهب اليه المشهور من الاختصاص هو دعوى اجمال الاخبار العلاجية من حيث عمومها لمورد الجمع العرفي، و لا بد مع الاجمال من الاقتصار على القدر المتيقن، و القدر المتيقن من الاخبار العلاجية هو الترجيح او التخيير في غير موارد الجمع العرفي.

ص: 132

الثاني (1)، اللهم إلا أن يقال: إن التوفيق في مثل الخاص و العام و المقيد و المطلق، كان عليه السيرة القطعية من لدن زمان الأئمة عليهم السّلام، و هي

______________________________

فالجواب عنه: ان هذه الدعوى مجازفة، لما عرفت من ان جل العناوين المأخوذة في الأسئلة مما تعم موارد الجمع العرفي، و مع كونها غير مجملة ظهورا فلا وجه لدعوى الاجمال حتى يكون غير موارد الجمع قدرا متيقنا، و انما يكون الاختصاص هو القدر المتيقن حيث لا يكون للكلام ظهور في العموم، و حينئذ يكون القدر المتيقن في مقام التخاطب هو غير موارد الجمع العرفي. نعم لا اشكال في كون غير موارد الجمع العرفي هو مورد الاخبار العلاجية قطعا، إلّا ان هذا قدر متيقن بحسب الخارج لا في مقام التخاطب.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و دعوى ان» القدر «المتيقن منها» أي من الاخبار العلاجية «غيرها» أي غير موارد الجمع العرفي «مجازفة» لما عرفت من ظهورها فيما يعم موارد الجمع العرفي، و مع ظهورها في ذلك لا يكون الاختصاص قدرا متيقنا في مقام التخاطب «غايته انه كان كذلك» أي غايته كون غير موارد الجمع قدرا متيقنا «خارجا لا بحسب مقام التخاطب». و هذا لا يخلو عن المناقشة لما عرفت: من ظهور الاخبار العلاجية في الاختصاص، و مع التنزل فلا ظهور لها فيما يعم موارد الجمع، و عليه فغير موارد الجمع هي القدر المتيقن في مقام التخاطب.

و لا يخفى انه انما ذكرنا هذه المناقشات مع ان مبنى هذا الكتاب على الاقتصار على شرح ما يقوله (قدس سره) لا على النقض و الابرام، لعدوله (قدس سره) عما ذكره بقوله: «اللهم ... الى آخره».

(1) حاصله: انه بعد ما عرفت ما يرد على مذهب المشهور: من دعوى اختصاص الاخبار العلاجية بغير موارد الجمع العرفي .. ينقدح منه وجه القول الثاني و هو شمول الاخبار العلاجية لمورد الجمع العرفي حيث لا مانع منه مع ظهور الاخبار العلاجية في ما يعمه.

ص: 133

كاشفة إجمالا عما يوجب تخصيص أخبار العلاج بغير موارد التوفيق العرفي (1)، لو لا دعوى اختصاصها به، و أنها سؤالا و جوابا بصدد الاستعلاج و العلاج في موارد التحير و الاحتياج، أو دعوى الاجمال و تساوي احتمال العموم مع احتمال الاختصاص، و لا ينافيها مجرد صحة السؤال لما لا ينافي العموم ما لم يكن هناك ظهور أنه لذلك (2)، فلم يثبت

______________________________

(1) هذا الوجه الاول لعدوله عما ذكره من مساندة القول الثاني، و هو شمول الاخبار العلاجية لمورد الجمع.

و حاصل هذا الوجه هو: انه و ان قلنا بان ظاهر الاخبار العلاجية هو العموم، إلّا ان السيرة القطعية المستمرة من زمان الائمة عليهم السّلام الى زماننا على عدم الترجيح او التخيير في موارد الجمع العرفي كاشفة عن تخصيص عموم ادلة العلاج بغير موارد الجمع، لوضوح ان السيرة القطعية قائمة على ترجيح الخاص بالعام و ان كان راوي العام اعدل و ان كانت الرواية العامة مشهورة و الخاصة غير مشهورة، و مثله الحال في المطلق و المقيد. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «اللهم إلّا ان يقال ... الى آخره».

(2) هذا هو الوجه الثاني لدعوى الاختصاص بغير موارد الجمع.

و حاصله: ما مر منعه منه و اشرنا الى المناقشة فيه، و هو ان ظاهر الاخبار العلاجية سؤالا و جوابا هو الاختصاص بغير مورد الجمع، لظهورها في كون الداعي الى السؤال هو طلب العلاج في موارد التحير في الحكم الفعلي، و لا ينافيها امكان ان يكون الداعي هو غير ذلك، لان الامكان لا ينافي دعوى الظهور، و لا اقل من دعوى الاجمال كما مر بيانه.

و اشار الى ظهورها في الاختصاص بقوله: «لو لا دعوى اختصاصها به» أي بغير موارد الجمع «و انها سؤالا و جوابا ... الى آخر الجملة». و اشار الى انه مع التنزل عن ظهورها في الاختصاص فلا مانع من دعوى الاجمال بقوله: «او دعوى

ص: 134

بأخبار العلاج ردع عما هو عليه بناء العقلاء و سيرة العلماء، من التوفيق و حمل الظاهر على الاظهر، و التصرف فيما يكون صدورهما قرينة عليه (1)،

______________________________

الاجمال و تساوي احتمال العموم» فيها لمورد الجمع «مع احتمال الاختصاص» فيها بغير موارد الجمع.

و اشار الى ان امكان ان يكون الداعي للسؤال ما يعم موارد الجمع لا ينافي دعوى الاجمال في دلالة نفس السؤال و الجواب على العموم- لان مدعي الاجمال ينكر ان يكون للسؤال ظهور في العموم، و محض الامكان لا يستلزم الظهور- بقوله:

«لا ينافيها» أي لا ينافي دعوى اجمال الظهور «مجرد صحة السؤال» بنحو الامكان «لما لا ينافي العموم» المراد من قوله لما لا ينافي العموم هو امكان السؤال فيها عاما، لان المنافي لدعوى الإجمال هو دعوى ظهورها في العموم، لا امكان كونها للعموم ف «ما لم يكن هناك ظهور» فيها «انه لذلك» أي للعموم لا يرفع دعوى الاجمال فيها. و الحاصل: ان الذي يمنع دعوى الاجمال هو ظهورها في كون السؤال فيها للعموم لا مجرد امكان ذلك.

(1) حاصله منع ما مر من الاحتمال الثالث، و هو احتمال كون الداعي فيها هو السؤال عن الطريقة المتعارفة في مورد الجمع العرفي، فيكون الجواب ردعا لهذه الطريقة المتعارفة، و انه لا بد من اعمال الترجيح فيها أو التخيير.

و حاصل المنع: ان الردع للطريقة المتعارفة العقلائية و لسيرة العلماء في حمل الظاهر على الاظهر لا تكون إلّا بما له ظهور في الردع، و احتمال كونها للردع لا يتحقق به الردع. و حيث عرفت انها مجملة لا ظهور فيها فلا تكون قابلة لاثبات الردع. و الى ذلك اشار بقوله: «فلم يثبت باخبار العلاج ردع» لعدم ظهورها في الردع «عما هو عليه بناء العقلاء و سيرة العلماء من التوفيق» في موارد الجمع «و حمل الظاهر على الاظهر» فيها «و» لا يثبت بمجرد الاحتمال ردع لما استقرت عليه سيرتهم من «التصرف فيما يكون صدورهما قرينة عليه» أي قرينة على

ص: 135

فتأمل (1).

فصل قد عرفت حكم تعارض الظاهر و الاظهر و حمل الاول على الآخر، فلا إشكال فيما إذا ظهر أن أيهما ظاهر و أيهما أظهر، و قد ذكر فيما اشتبه الحال لتمييز ذلك ما لا عبرة به أصلا، فلا بأس بالاشارة إلى جملة منها و بيان ضعفها (2):

______________________________

التصرف: أي ان صدور الظاهر و الاظهر قرينة عندهم على التصرف في الظاهر و حمله على الاظهر.

(1) لعله اشارة الى ما قيل من كفاية احتمال الردع في عدم حجية السيرة و بناء العقلاء، لانها تحتاج الى ثبوت الامضاء، و لا يكفي فيها احتمال الامضاء، و وضوح ملازمة احتمال الردع لاحتمال عدم الامضاء. إلّا انه قد تقدم في مبحث حجية الخبر و في مبحث الاستصحاب كفاية عدم ثبوت الردع في حجية مثل هذه السيرة العقلائية، و لا تحتاج الى اثبات الامضاء، لان هذه السيرة التي كان العمل على طبقها قائما في جميع الازمنة لا بد في مقام ردعها من ادلة قوية الظهور في مقام الردع، و حيث لم توجد تلك الادلة فاحتمال عدم الردع لمثل هذه السيرة المتوفر العمل على طبقها يكفي في عدم ردعها.

و الحاصل: ان مثل هذه السيرة لا تحتاج الى اثبات الامضاء، بل يكفي في ثبوتها عدم ثبوت الردع عنها.

(2)

الفصل السادس: تمييز الظاهر عن الأظهر

اشارة

حاصله: انه قد عرفت ان في تعارض الظاهر و الاظهر لا مجال لاخبار العلاج، بل لا بد من حمل الظاهر على الاظهر، و لا اشكال في ذلك حيث يتميز الظاهر منهما عن الاظهر.

و اما فيما لم يتميز احدهما عن الآخر و لم يعرف الاظهر منهما من الظاهر فلا مجال للحمل لعدم معرفة ما يحمل مما يحمل عليه. و قد ذكروا وجوها لتمييز

ص: 136

منها: ما قيل في ترجيح ظهور العموم على الاطلاق، و تقديم التقييد على التخصيص فيما دار الامر بينهما، من كون ظهور العام في العموم تنجيزيا، بخلاف ظهور المطلق في الاطلاق، فإنه معلق على عدم البيان، و العام يصلح بيانا، فتقديم العام حينئذ لعدم تمامية مقتضى الاطلاق معه، بخلاف العكس، فإنه موجب لتخصيصه بلا وجه إلا على نحو دائر (1).

______________________________

الظاهر من الاظهر، و حيث انها ضعيفة لا وجه للمصير اليها، لذلك نبه على جملة منها و بيان ضعفها.

(1)

ترجيح العموم على الاطلاق و التقييد على التخصيص

توضيحه: ان من الموارد التي لم يتميز الظاهر عن الاظهر فيها ما اذا ورد عام و مطلق متنافيان، كما لو ورد اكرم كل عالم و ورد لا تكرم الفساق، فان شمول كل عالم للعالم العادل و العالم الفاسق بالعموم، و شمول لا تكرم الفساق للعالم الفاسق بالاطلاق- بناء على عدم افادة الجمع المحلى بالالف و اللام للعموم و حينئذ فيكون شمول الفساق للعالم الفاسق بالاطلاق- و هما متعارضان في العالم الفاسق، فان كل عالم يقتضي اكرامه و هو العام، و المطلق يقتضي عدم اكرامه و هو لا تكرم الفساق ... فهل في مثل هذا يكون العام في شموله للعالم الفاسق اظهر من الفساق في شموله له؟ لكون ظهور الاول بالعموم و ظهور الثاني بالاطلاق، فيلزم تقديم العام لكونه اظهر و تقييد الاطلاق و حمله عليه لكونه ظاهرا ... اولا يتقدم ظهور العام على اطلاق المطلق لعدم كون العام اظهر من المطلق؟ بل يتقدم الاطلاق على العموم، و يكون المطلق مخصصا للعام فيما دار الامر بين تقييد المطلق و بين تخصيص العام، و ذلك في ما كان عام و خاص و كانت دلالة الخاص على وجه يكون مخصصا للعام بالاطلاق، و فيما لا يدور الامر بينهما كما لو كان بينهما عموم و خصوص من وجه، و كان دلالة احدهما الموجبة لتخصيص العام بالاطلاق كما في المثال المذكور، فان الامر يدور بين تخصيص العام و بين تقييد المطلق و بين تساقطهما بحسب القاعدة الاولية او القاعدة الثانوية ايضا.

ص: 137

.....

______________________________

و الحاصل: انه فرق بين اكرم كل عالم و لا تكرم العالم الفاسق، و بين اكرم كل عالم و لا تكرم الفساق. فالاول لا ريب في تقديم الخاص و التخصيص به، و الثاني هو محل الكلام في المقام.

و على أي حال فقد وقع الكلام في انه هل هو من موارد الترجيح او التخيير بناء على شمول ادلة العلاج لمثل العموم من وجه؟ او انه لا بد من الرجوع الى الاصول بناء على عدم شمولها للعامين من وجه.

و قد ذكر الشيخ الاجل (قدس سره) في رسائله 22] وجهين لكون العام اظهر في العموم من اطلاق المطلق- فيتعيّن في مثل المثال المذكور لزوم تقديم العام و وجوب اكرام العالم الفاسق، و تقييد لا تكرم الفساق بغير العالم الفاسق- الاول من الوجهين: ان ظهور العام في عمومه تنجيزي لكونه بالوضع فلا يكون معلّقا على شي ء، بخلاف ظهور المطلق في الاطلاق فانه ليس بالوضع، بل هو معلّق على تمامية مقدمات الحكمة فيه، و من جملة مقدمات الحكمة عدم البيان، و العام يصلح ان يكون بيانا للمطلق، بخلاف المطلق فانه لا يصلح ان يكون مخصصا للعام، لان تخصيصه للعام اما بلا مخصص او على وجه دائر.

و توضيح ذلك: اما صلاحيّة كون العام بيانا للمطلق، فلانه حيث كان من مقدمات الحكمة عدم البيان و كان العام ظهوره في العموم بحسب الوضع، فصلاحيته لان يكون بيانا لا تتوقف الّا على تحققه باستعمال اللفظ في معناه، و المفروض تحقق استعمال اللفظ في معناه.

و اما عدم صلاحية تخصيص المطلق للعام، فلان تخصيص المطلق للعام يتوقف على تمامية حجية اطلاق المطلق، و لما كانت حجيته تتوقف على عدم البيان، فاذا حجيته تتوقف على عدم عموم العام، لما عرفت من ان ظهور العام في عمومه يصلح

ص: 138

.....

______________________________

للبيانيّة، فكون المطلق مخصصا للعام يتوقف على حجيته، و حجّيّته تتوقف على عدم ظهور العام في عمومه، و عدم ظهور العام في عمومه يتوقف على تخصيصه بالمطلق، و لازم ذلك توقف تخصيص المطلق للعام على نفسه، لان تخصيصه للعام متوقف على حجيّته المتوقفة على عدم ظهور العام في عموم المتوقف ذلك على تخصيصه للعام، فتخصيصه للعام يتوقف على نفسه و هو الدور.

فظهر ان لازم تخصيص المطلق للعام هو الدور و هو محال، او نقول بجواز رفع اليد عن عموم العام من دون وجود حجة على تخصيصه، و هو ظاهر الفساد لانه من المعلول بلا علة. و اما تقييد العام للمطلق فهو لا يتوقف الّا على ظهوره في العموم، و قد حصل ذلك بمجرد استعمال اللفظ في معناه، من دون توقفه على عدم اطلاق المطلق حتى يكون التوقف من الطرفين.

و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «من كون ظهور العام في العموم تنجزيا» غير معلق على شي ء الّا على استعمال اللفظ في معناه لكونه بالوضع، و المفروض تحقق استعمال اللفظ الموضوع للعموم في معناه «بخلاف ظهور المطلق في الاطلاق فانه» ليس بتنجيزي لانه ليس بالوضع، بل هو «معلّق على عدم البيان» لانه بمقدمات الحكمة التي من جملتها عدم البيان «و» قد ظهر مما ذكرنا: ان «العام يصلح» ان يكون «بيانا» و به يرتفع الاطلاق المتوقف على عدم البيان «ف» لذلك يلزم «تقديم العام حينئذ لعدم تمامية مقتضى الاطلاق معه» أي مع وجود العام لانه يصلح ان يكون بيانا، و عليه فلا بد من تقديم العام و تقييد المطلق به «بخلاف العكس» و هو تخصيص العام بالاطلاق «فانه موجب» اما «لتخصيصه» أي لتخصيص العام «بلا وجه» أي من دون قيام حجة على تخصيصه، او تخصيصه بالمطلق و هو لا يكون «الا على نحو دائر» كما عرفت من توقف تخصيص المطلق للعام على عدم حجية العام المتوقف على تخصيصه بالمطلق، او التخصيص بلا موجب له المساوق للمعلول بلا علّة.

ص: 139

و من أن التقييد أغلب من التخصيص (1).

و فيه: إن عدم البيان الذي هو جزء المقتضي في مقدمات الحكمة، إنما هو عدم البيان في مقام التخاطب الا إلى الابد (2)، و أغلبية التقييد مع

______________________________

(1) هذا هو الوجه الثاني للزوم تقديم العام على المطلق. و بيانه: انه لما كان تقييد المطلق غالبا على تخصيص العام، ففيما دار الامر بينهما يلزم الالحاق بالاغلب، و نتيجة ذلك هو لزوم تقديم العام في ظهوره العمومي و تقييد الاطلاق به، لان تقييد الاطلاق هو الاغلب، من دون تقديم اطلاق المطلق و تخصيص العام به، لانه يلزم منه الالحاق بغير الاغلب، فلا بد في المثال المتقدّم من وجوب اكرام العالم الفاسق، و تقييد لا تكرم الفساق بعموم اكرم كل عالم. و لا وجه لتخصيص اكرم كل عالم بلا تكرم الفساق، و رفع اليد عن وجوب اكرام العالم الفاسق.

(2) يريد بهذا الاشكال على الوجه الاول. و توضيحه: ان الاطلاق و ان كان معلّقا على عدم البيان، الّا ان عدم البيان الذي هو احد مقدمات الحكمة هو عدم البيان في مقام التخاطب، لا عدم البيان الى الابد، و اذا كان هو عدم البيان في مقام التخاطب، فحيث ان العام كان منفصلا عن حال التخاطب بالمطلق فالمطلق يتمّ ظهوره، لفرض تحقق ما هو معلّق عليه و هو عدم البيان في مقام التخاطب، فلا يصلح ان يكون العام المنفصل عنه بيانا له. و عليه فلا يكون تخصيص المطلق للعام اما بلا مخصّص او بوجه دائر، لتمامية حجية ظهور المطلق و قابليّته لان يكون مخصّصا بمجرد تحقق عدم البيان في مقام التخاطب، و يكون الامر دائرا بين حجتين تنجيزيتين: ظهور العام في العموم لاجل الوضع، و ظهور المطلق في اطلاقه لفرض تحقق ما هو معلّق عليه، و بعد تحققه يكون اطلاق المطلق تنجيزيا ايضا.

و الحاصل: ان ظهور المطلق في اطلاقه غير متوقف على تخصيص العام به حتى يلزم الدور كما مرّ بيانه، و حيث ان تقديم الخاص على العام هو المتعارف فينبغي ان

ص: 140

كثرة التخصيص بمثابة قد قيل: ما من عام إلا و قد خص، غير مفيد، و لا بد في كل قضية من ملاحظة خصوصياتها الموجبة لا ظهرية أحدهما من الآخر، فتدبر (1).

و منها: ما قيل فيما إذا دار بين التخصيص و النسخ- كما إذا ورد عام بعد حضور وقت العمل بالخاص، حيث يدور بين أن يكون الخاص مخصصا أو يكون العام ناسخا، أو ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، حيث يدور بين أن يكون الخاص مخصصا للعام، أو ناسخا له و رافعا لاستمراره و دوامه (2)- في وجه تقديم التخصيص على النسخ،

______________________________

يتقدّم اطلاق المطلق و يخصّص به العام. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و فيه ان عدم البيان الذي هو جزء المقتضي ... الى آخر الجملة».

(1) هذا الاشكال على الوجه الثاني. و حاصله: منع اغلبية التقييد على التخصيص، بل التخصيص ايضا كثير حتى انه قد قيل ما من عام الّا و قد خصّ، فليس هناك اغلبية للتقييد على التخصيص بحيث اذا دار الامر بينهما يتقدّم التقييد لأغلبيته. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و أغلبية التقييد مع كثرة التخصيص ... الى آخر الجملة».

(2)

دوران الأمر بين التخصيص و النسخ

لا يخفى انه قد ذكر المصنف لدوران الامر بين التخصيص و النسخ مقامين:

الاول: ان يرد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص، بان يتقدّم الخاص، بان يتقدّم الخاص و يمضي وقت العمل به ثم يرد العام، مثلا ان يرد أولا لا تكرم زيدا العالم ثم بعد حضور وقت العمل به يرد اكرم العلماء، و في هذا يدور الامر بين كون الخاص مخصصا للعام و به يرفع اليد عن ظهور العام في عمومه الافرادي حتى لزيد، و بين كون العام ناسخا للخاص و يرفع اليد عن ظهور الخاص في الدوام و الاستمرار.

و لا يخفى انه في هذا الفرض لا مانع من تخصيص العام، لان الخاص وارد قبل حضور وقت العمل بالعام، و لا مانع من النسخ لكون العام واردا بعد حضور وقت العمل بالخاص.

ص: 141

.....

______________________________

الثاني: ان يرد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، و لا ريب في امكان كون الخاص ناسخا للعام، لوروده بعد حضور العمل بالعام. و لكن في كونه مخصصا للعام اشكال، لفرض وروده بعد حضور وقت العمل بالعام، فيلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

و الحاصل: ان النسخ لا بد و ان يكون بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ، لانه لو كان النسخ قبل حضور وقت العمل و لاستلزامه كون الشي ء الواحد واجدا للمصلحة و فاقدا لها في وقت واحد، و لاستلزمه ايضا جعل الداعي و رفعه في زمان واحد يترقب فيه الدعوة. اما لو كان واردا بعد حضور وقت العمل فلا يلزم شي ء من اللازمين المذكورين، لامكان كونه واجدا للمصلحة الى امد معين، و لحصول الدعوة في زمان يترقب فيه الدعوة .. اما التخصيص فبالعكس للزوم كونه قبل حضور وقت العمل لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

فاتضح مما ذكرنا: انه في الفرض المذكور من كون الخاص واردا بعد حضور وقت العمل بالعام ينبغي ان يتمحّض في كونه ناسخا للعام، لان كونه مخصصا للعام يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، و لا بد في دفع هذا الاشكال بصحة التخصيص بعد حضور وقت العمل كما سيأتي التعرض له من الماتن ...

و حاصله: انه هناك اما مصلحة في ابقاء العام على عمومه و ارجاء اظهار التخصيص له الى وقت يكون بعد حضور وقت العمل بالعام، و اما المفسدة في اظهار التخصيص قبل حضور وقت العمل. و على هذا فالعام يشتمل على حكمين: واقعي بالنسبة الى ما عدا الخاص، و ظاهري بالنسبة الى الخاص، و اذا كان الحكم بالنسبة الى الخاص ظاهريا دعت اليه المصلحة أو المفسدة فلا يكون تأخير البيان في مثل هذا قبيحا و لا يكون من تأخير البيان عن وقت الحاجة، لان الحكم الواقعي بالنسبة الى الخاص لم تتم شرائط تأثير المصلحة فيه لان يكون فعليا. و الحاصل: ان القبيح هو تأخير البيان عن وقت الحاجة في الحكم الفعلي، لا في الحكم الواقعي. و قد ظهر مما

ص: 142

.....

______________________________

ذكرنا انه لا يلزم من ورود الخاص بعد العمل بالعام تأخير البيان عن وقت الحاجة، لعدم كون الحكم الواقعي فعليا حتى يستلزم قبح تأخير البيان فيه عن وقت الحاجة.

فظهر مما ذكرنا: انه في الفرض المذكور كما لا مانع من كون الخاص ناسخا للعام، لاحتمال كون الحكم الواقعي في العام بعمومه كان فعليا و لكن كان الى امد خاص .. كذلك لا مانع من كون الخاص مخصصا للعام و ان الحكم الواقعي في العام كان ما عدا الخاص و قد كان مانع عن فعليته، فكان عمومه بعد حضور وقت العمل حكما ظاهريا لا واقعيا دعت اليه مصلحة الحكم الظاهري.

فتبين: انه في هذا المقام الثاني ايضا لا مانع من دوران الامر بين كون الخاص ناسخا للعام او مخصصا له، فيدور الامر بين ظهورين في العام ظهوره في العموم لجميع افراده، و ظهوره في الدوام و الاستمرار. فان لازم كون الخاص ناسخا للعام رفع اليد عن ظهور العام في الدوام و الاستمرار، و بقاء ظهوره في عموم حكمه الواقعي لجميع افراده على حاله، و لازم كونه مخصصا للعام رفع اليد عن ظهوره في عمومه الافرادي، و انه واقعا مقصور على ما عدا الخاص، و بقاء ظهوره في بقاء حكمه الواقعي على الدوام و الاستمرار على حاله.

و قد اشار الى المقام الاول بقوله: «كما اذا ورد عام بعد حضور وقت العمل بالخاص ... الى آخر الجملة» بان يكون الخاص واردا أولا، ثم بعد حضور وقت العمل به يرد العام. و قد عرفت انه في هذا الفرض يمكن ان يكون الخاص مخصصا للعام، و يمكن ان يكون العام ناسخا للخاص.

و اشار الى المقام الثاني بقوله: «او ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام ... الى آخر الجملة» و قد عرفت في هذا الفرض ايضا انه لا مانع من كون الخاص مخصصا للعام و ان الحكم الواقعي في العام هو ما عدا الخاص، و من كون الخاص ناسخا للعام و كون العام بعمومه حكما واقعيا الى زمان ورود الخاص.

ص: 143

من غلبة التخصيص و ندرة النسخ (1).

و لا يخفى أن دلالة الخاص أو العام على الاستمرار و الدوام إنما هو بالاطلاق لا بالوضع، فعلى الوجه العقلي في تقديم التقييد على التخصيص كان اللازم في هذا الدوران تقديم النسخ على التخصيص أيضا (2)، و إن غلبة التخصيص إنما توجب أقوائية ظهور الكلام في

______________________________

(1) لا يخفى- أولا- ان قوله: في وجه من متعلقات قوله: و منها ما قيل. و التقدير انه من الموارد التي ذكروها لتمييز الظاهر عن الاظهر هو ما قيل فيما اذا دار الامر بين التخصيص و النسخ في وجه تقديم التخصيص على النسخ، فانه بناء على تقديم التخصيص على النسخ يتعين كون العام هو الظاهر و الخاص هو الاظهر، بخلاف الحمل على النسخ، فانه في المقام الاول يكون العام هو الناسخ لحكم الخاص فلا حمل فيه لظاهر على الاظهر، و في المقام الثاني ايضا لا حمل للظاهر على الاظهر بناء على النسخ، فان المراد من الحمل هو الحمل في مرحلة الحكم الواقعي، و على النسخ يكون الحكم الواقعي في العام هو العموم و لكنه قد ارتفع بالخاص، لكشفه عن انتهاء أمده واقعا، فلا حمل فيه لظاهر على الاظهر في مرحلة الواقع.

اما وجه تقديم التخصيص على النسخ فهو اغلبية التخصيص و ندرة النسخ، و لا بد من الحمل على الاعم الاغلب و ترك الشاذ النادر. و الى هذا اشار بقوله:

«من غلبة التخصيص و ندرة النسخ».

(2) اورد المصنف على تقديم التخصيص على النسخ للاغلبية بوجهين: الاول:

و حاصله: ان الحمل على الاغلبية انما يصح حيث لا يمنع عنه مانع عقلي و بناء على ما ذهب اليه الشيخ الاجل من كون الاطلاق معلقا على عدم البيان الى الابد، لا بد من تقديم النسخ على التخصيص في المقامين المذكورين ..

و بيان ذلك: انه في المقام الاول و هو ما اذا تقدم الخاص و تأخر العام عن وقت العمل بالخاص، فان لازم كون العام ناسخا للخاص هو رفع اليد عن ظهور الخاص

ص: 144

.....

______________________________

في الدوام و الاستمرار و الاخذ بظهور العام في العموم، و من الواضح ان ظهور الخاص في الدوام و الاستمرار انما هو بالاطلاق، و ظهور العام في العموم بالوضع لا بالاطلاق، فظهور العام في العموم تنجيزي غير معلق على شي ء، و ظهور الخاص في الدوام و الاستمرار بالاطلاق و هو معلق على عدم البيان الى الابد، و ظهور العام في العموم يصلح لان يكون بيانا له، بخلاف التخصيص فان لازمه دوام الخاص و استمراره الذي هو ظهور اطلاقي، و رفع اليد عن ظهور العام في العموم لجميع الافراد و قصره على ما عدا الخاص، و لازم ذلك تقديم الظهور الاطلاقي في الخاص على الظهور التنجيزي في العام، و هو مستلزم للمحذور العقلي المتقدم: من التخصيص بلا مخصص او بوجه دائر. فلا بد- بناء على كون الظهور الاطلاقي معلقا على عدم البيان الى الابد- من الالتزام بكون العام ناسخا للخاص، لا كون الخاص مخصصا للعام في هذا المقام.

و في المقام الثاني ايضا لا بد من تقديم النسخ على التخصيص، لانه فيما اذا تقدم العام و تأخر الخاص يدور الامر بين ظهور العام في عمومه الافرادي، و بين ظهوره في الدوام و الاستمرار، فان لازم كون الخاص مخصصا له من الاول رفع اليد عن ظهور عمومه الافرادي واقعا، و لازم كون الخاص ناسخا له هو بقاء ظهور عمومه الافرادي واقعا و رفع اليد عن ظهوره في الدوام و الاستمرار. و حيث ان ظهوره في الدوام و الاستمرار بالاطلاق و كون الخاص ناسخا له يصلح ان يكون بيانا له، فلا بد من الالتزام بكون الخاص في هذا المقام ناسخا للعام، و لا وجه لكونه مخصصا له، لان لازم كونه مخصصا للعام تقديم ظهور العام في الدوام و الاستمرار، و رفع اليد عن ظهور العام في كون حكمه الواقعي هو العموم لجميع الافراد و هو ظهور وضعي تنجيزي، لانه لا بد- بناء على التخصيص- من كون حكم العام الواقعي هو ما عدا الخاص، و لازمه رفع اليد عن ظهور تنجيزي للعام، و ابقاء ظهوره في الدوام و الاستمرار. و حيث كان ظهور العام في الدوام و الاستمرار اطلاقيا فلا بد من رفع

ص: 145

الاستمرار و الدوام من ظهور العام في العموم إذا كانت مرتكزة في أذهان أهل المحاورة بمثابة تعد من القرائن المكتنفة بالكلام، و إلا فهي و إن كانت مفيدة للظن بالتخصيص (1)، إلا أنها غير موجبة لها،

______________________________

اليد عنه، و الالتزام بكون الخاص ناسخا، لانه إذا كان الخاص ناسخا فظهور العام في عمومه الافرادي يكون باقيا، و انما يرفع اليد عن ظهور دوام حكمه العمومي و استمراره، و هو ظهور اطلاقي معلق على عدم البيان الى الابد، و كون الخاص ناسخا يصلح ان يكون بيانا له.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و لا يخفى ان دلالة الخاص» كما في المقام الاول «او» دلالة «العام» كما في المقام الثاني «على الاستمرار و الدوام انما هو بالاطلاق» و هو ظهور تعليقي معلق على عدم البيان الى الابد «لا بالوضع» ليكون تنجيزيا و لا معلقا على عدم البيان في مقام التخاطب ليكون كالوضع «فعلى الوجه العقلي» الذي مر من الشيخ «في» مقام «تقديم التقييد على التخصيص» من لزوم تقديم التقييد على التخصيص، لان التخصيص انما هو للاطلاق و هو معلق على عدم البيان الى الابد، و بعد وجود ما يصلح ان يكون بيانا فلازمه اما التخصيص بلا مخصص او بوجه دائر يأتي هنا ايضا و «كان اللازم» عليه «في هذا» المقام و هو مقام «الدوران» بين التخصيص و النسخ «تقديم النسخ على التخصيص ايضا» لان تقديم التخصيص على النسخ كما عرفت في المقامين لازمه تقديم الظهور الاطلاقي التعليقي على الظهور الوضعي التنجيزي، و هو محذور عقلي لا وجه معه للاعتماد على الاغلبية مع استلزامهما لمحذور عقلي.

(1) هذا هو الوجه الثاني للاشكال على كون اغلبية التخصيص و ندرة النسخ توجب الحمل على التخصيص فيما دار الامر بينهما الحاقا له بالاعم الاغلب.

و حاصله: انه ليس مطلق الغلبة موجبة للحمل على ما هو الغالب، و انما هي خصوص الغلبة البالغة لحد تكون كالقرينة الحافة بالكلام، و انما تكون الغلبة كذلك

ص: 146

كما لا يخفى (1).

______________________________

حيث تكون مرتكزة في اذهان اهل المحاورة بحيث تعد عندهم كالقرينة اللفظية الحافة بالكلام، فانها حينئذ تكون موجبة للظهور في كون الكلام قد سيق للتخصيص لا للنسخ، و تكون موجبة لكون ظهور الكلام في التخصيص اقوى من النسخ، و على هذا يكون التخصيص هو الاظهر و النسخ هو الظاهر، و يجب رفع اليد عن الظاهر حيث يعارضه الاظهر. و لم يثبت كون غلبة التخصيص بالغة لهذا الحد بحيث تعد من القرائن الحافة بالكلام عند ابناء المحاورة.

و الحاصل: ان الكلام فيما يوجب كون الكلام اظهر في معنى من معنى آخر، و الاظهرية الكلامية لا بد و ان يكون موجبها: اما الوضع، او القرينة اللفظية، او قرينة غير لفظية لكنها تكون بحكم القرينة اللفظية لارتكازها في اذهان اهل المحاورة بحيث يكون حالها عندهم حال القرينة اللفظية المكتنفة بالكلام. و لم يثبت كون الغلبة- التي هي قرينة غير لفظية- بالغة حد القرينة اللفظية. اما اذا لم تبلغ هذا الحد فغايته كونها موجبة للظن بكون التخصيص في المقام هو المراد دون النسخ، و الظن الموافق لاحد الظهورين لا يوجب ظهورا في مقام الدلالة، فلا وجه للاعتماد عليه.

و الحاصل: ان الامر في المقام دائر بين ظهور الكلام في الدوام و الاستمرار، و ظهور العام في عمومه الافرادي. و الاغلبية المدعاة لا بد من كونها موجبة لكون ظهور الكلام في الدوام و الاستمرار اقوى من ظهور العام في عمومه الافرادي، ليتعين رفع اليد عن الظهور في العموم الافرادي، و لازمه تقديم التخصيص على النسخ. و حيث عرفت انه لم يثبت للاغلبية ذلك فلا تكون موجبة لتقديم التخصيص على النسخ.

(1) الضمير في «لها» راجع الى اقوائية الظهور: أي ان الغلبة اذا لم تكن بالغة حد القرينة المكتنفة بالكلام لا توجب اقوائية الظهور الموجب لتقديم التخصيص على

ص: 147

ثم إنه بناء على اعتبار عدم حضور وقت العمل في التخصيص، لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، يشكل الامر في تخصيص الكتاب أو السنة بالخصوصات الصادرة عن الائمة عليهم السّلام، فإنها صادرة بعد حضور وقت العمل بعموماتهما، و التزام نسخهما بها و لو قيل بجواز نسخهما بالرواية عنهم عليهم السّلام كما ترى (1)، فلا محيص في حله من أن يقال: إن

______________________________

النسخ. و بقية عبارة المتن واضحة. و لا يخفى انه سيأتي منه تسليم ندرة النسخ فلا مناص عن التزامه بكونه بالغا حد القرينة اللفظية، و إلّا فلا فائدة في تسليمه.

(1) حاصله التعرض لما اشرنا اليه من الاشكال في المقام الثاني- من ان فرض ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام ينافي احتمال كونه مخصصا، لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة- و دفعه. و انما خص الاشكال هنا بخصوص التخصيص للكتاب و السنة التي كان المراد منها في المقام هي السنة النبوية، مع جريان هذا الاشكال في العمومات الواردة عن الائمة عليهم السّلام، فان التخصيص فيها بعد حضور وقت العمل بالعام ايضا غير معقول، بناء على اعتبار عدم حضور وقت العمل بالعام فيها لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، لاجل تأتي احتمال صدور الخاص منهم عليهم السّلام قبل حضور وقت العمل بالعام و خفائه عنا بالنسبة الى العمومات الصادرة عنهم عليهم السّلام، و عدم تأتي هذا الاحتمال بالنسبة الى الكتاب و العمومات النبوية، لمعلومية تأخر زمان الائمة عليهم السّلام عن وقت العمل بها، و لذلك خصها بالذكر.

و حاصل الاشكال: انه بعد اعتبار عدم حضور وقت العمل بالعام في التخصيص، لان التخصيص بعد حضور وقت العمل بالعام مستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة، لمحالية التأخير من الشارع لقدرته على تقديم البيان لاجل ان يكون في وقت الحاجة البيان حاضرا، و يلزم من تأخير البيان عن وقت الحاجة ان يكون للناس على اللّه الحجة، و هو معلوم البطلان.

ص: 148

.....

______________________________

و الحاصل: انه لما كانت التخصيصات الواردة عن الائمة عليهم السّلام من التخصيص بعد حضور وقت العمل المستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة .. لذا اشكل الامر في كونها مخصصات لعمومات الكتاب و السنة النبوية. و لما كان الالتزام بكونها ناسخة لحكم الكتاب و السنة بعيدا جدا لكثرة ما ورد عنهم عليهم السّلام من الاحكام الخاصة، و من المعلوم ندرة النسخ في الشريعة، لذا كان الالتزام بكونها ناسخة لعمومات الكتاب و السنة- ايضا- بعيدا جدا. فاتضح ان ما ورد عنهم من الاحكام الخاصة على خلاف عمومات الكتاب و السنة مشكل من الطرفين، لان كونها مخصصات لازمه تأخير البيان عن وقت الحاجة، و كونها ناسخة ينافيه ندرة النسخ، و من المعلوم ندرته. و هذا هو مراده من قوله: «كما ترى» فالاشكال من حيث كونها ناسخة هو البعيد لمنافاته لما هو المعلوم من ندرة النسخ.

لا لاشكال فيه من ناحية عدم امكان نسخ الكتاب و السنة بالرواية عنهم عليهم السّلام لما يقال: من ان النسخ اما هو نسخ شريعة لشريعة، و لا يعقل ذلك في شريعة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لعدم ورود شريعة بعد شريعته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هي خاتمة الشرائع، و من الواضح ان الائمة عليهم السّلام لم يأتوا بشريعة جديدة، لان الشريعة الجديدة من مختصات النبوة دون الامامة. و اما ان يكون النسخ نسخا لحكم جاء في الشريعة بحكم آخر قد جاء بعده في نفس تلك الشريعة، فهذا النحو من النسخ مما يختص بالكتاب و السنة النبوية، فيجوز نسخ الكتاب بالكتاب، و يجوز ان ينسخ الكتاب بما ورد من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لانه مهبط الوحي، فنسخ الكتاب بما ورد عنهم عليهم السّلام غير معقول ايضا.

و الجواب عنه: ان النسخ منهم عليهم السّلام للكتاب مرجعه الى نسخ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للكتاب، لان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اطلع امير المؤمنين عليه السّلام على جميع الاحكام، و تلقوا الائمة عليهم السّلام هذا العلم واحدا بعد واحد، و لو لا ذلك لما امكن ان يرد التخصيص للكتاب و السنة ايضا عنهم عليهم السّلام، لا من جهة قبح تأخير البيان بل من حيث انه لا وحي، فمن اين يحصل العلم بالخاص المخالف لعمومات الكتاب و السنة؟

ص: 149

اعتبار ذلك حيث كان لاجل قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة، و كان من الواضح أن ذلك فيما إذا لم يكن هناك مصلحة في إخفاء الخصوصيات أو مفسدة في إبدائها، كإخفاء غير واحد من التكاليف في الصدر الأول (1)، لم يكن بأس بتخصيص عموماتهما بها، و استكشاف

______________________________

فاتضح: ان نسخ الكتاب و السنة بما ورد عنهم عليهم السّلام لا مانع منه، لرجوعه الى نسخ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و ظهر ان الاشكال في المقام من ناحية بعد صدور النسخ لندرته.

و قد اشار الى ما ذكرنا من اشكال التخصيص لاستلزامه تأخير البيان، و اشكال النسخ من جهة بعد صدور النسخ، لا من جهة ما قيل من عدم امكان النسخ عنهم عليهم السّلام للكتاب و السنة. فاشار الى الاشكال في التخصيص بقوله: «ثم انه بناء على اعتبار عدم حضور وقت العمل في التخصيص لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة يشكل الامر في تخصيص» عمومات «الكتاب او» عمومات «السنة» النبوية «بالخصوصات الصادرة عن الائمة عليهم السّلام فانها صادرة» قطعا «بعد حضور وقت العمل بعموماتها» الكتابية و النبوية.

و اشار الى الاشكال في كونها ناسخة بقوله: «و التزام نسخها بها ... كما ترى» أي الالتزام بنسخ العمومات في الكتاب و السنة بالخصوصات الصادرة عنهم عليه السّلام كما ترى، لاستلزامه لكثرة النسخ في الشريعة و من المعلوم ندرته.

و اشار الى ان الاشكال في كون الخصوصات الصادرة عنهم ناسخة هو من ناحية البعد- لا من ناحية عدم جواز كونها ناسخة، لما توهم من عدم امكان النسخ للكتاب و السنة بما صدر عنهم عليهم السّلام- بهذه العبارة التي اقحمها بين قوله: «و التزام نسخها» و قوله: «كما ترى» و هي قوله «و لو قيل بجواز نسخهما» أي نسخ الكتاب و السنة «بالرواية عنهم عليهم السّلام».

(1) و حاصله: انه بعد معلومية ندرة النسخ فلا وجه للالتزام بالنسخ في الخصوصات الصادرة عنهم عليهم السّلام للكتاب و السنة. و اما كونها مخصصة فلا مانع عن الالتزام به،

ص: 150

.....

______________________________

لان المانع عن كونها مخصصة بعد معلومية صدورها بعد حضور وقت العمل هو قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة، و تأخير البيان عن وقت الحاجة انما يكون قبيحا حيث لا يكون هناك في نفس الاخفاء مصلحة تزيد على اظهار الخاص قبل حضور وقت العمل، او حيث لا يكون هناك مفسدة مانعة عن اظهار الخاص قبل وقت العمل.

اما اذا كان هناك مصلحة في الاخفاء او مفسدة مانعة عن الاظهار فلا يكون تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيحا، لان قبح التأخير انما هو لمنافاته للطف، و حيث تكون مصلحة في الاخفاء او مفسدة في الاظهار لا يكون التأخير عن وقت الحاجة قبيحا.

و غايته الالتزام بان العمومات قبل صدور المخصصات مشتملة على حكم واقعي بالنسبة الى ما عدا الخاص، و حكم ظاهري بالنسبة الى الخاص.

و يدل على انه لا مانع من الاخفاء في التخصيص هو الاخفاء في نفس الاحكام النبوية، فان جملة الاحكام النبوية العامة قد نزلت بالتدريج لوجود المانع عن صدورها في اول النبوة كاحكام الكر، و اذا جاز اخفاء نفس الاحكام العامة جاز اخفاء تخصيصها.

و قد اشار الى ما ذكرنا- من ان قبح التأخير انما يلزم حيث لا يكون في الاخفاء مصلحة، او لا يكون في الاظهار مفسدة- بقوله: «فلا محيص في حله» بالالتزام بكونها مخصصات، و لا بد في رفع اشكال لزوم تأخير البيان «من ان يقال ان اعتبار ذلك» و هو الاشكال في كونها مخصصات «حيث كان لاجل قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة» لانها كانت واردة بعد حضور وقت العمل «و» لكنه لا قبح في هذا التأخير لانه «كان من الواضح ان ذلك» و هو قبيح التأخير انما يلزم «فيما اذا لم يكن هناك مصلحة في اخفاء الخصوصات او» فيما اذا لم يكن هناك «مفسدة في إبدائها» و اظهارها قبل وقت صدورها.

اما اذا كانت هناك مصلحة في الاخفاء او مفسدة في الابداء فلا يكون تأخير البيان قبيحا. و اشار الى الدليل على عدم قبح تأخير البيان- فيما اذا كان الاخفاء لمصلحة

ص: 151

أن موردها كان خارجا عن حكم العام واقعا و إن كان داخلا فيه ظاهرا (1)، و لاجله لا بأس بالالتزام بالنسخ بمعنى رفع اليد بها عن ظهور تلك العمومات بإطلاقها في الاستمرار و الدوام أيضا، فتفطن (2).

______________________________

فيه او لمفسدة في الاظهار: هو نفس تأخير الاحكام العامة الواردة في الكتاب و السنة بالتدريج- بقوله: «كاخفاء غير واحد من التكاليف» العامة «في الصدر الاول» فانه من الواضح نزول الحكم بالصوم في المدنية بعد البعثة و الهجرة بزمان غير قصير.

(1) أي بعد ما عرفت من حل الاشكال، و انه لا قبح في هذا التأخير ... اتضح انه لا بأس بتخصيص عمومات الكتاب و السنة بالخصوصات الصادرة عنهم عليهم السّلام.

و الى هذا اشار بقوله: «لم يكن بأس بتخصيص عموماتها» أي عمومات الكتاب و السنة «بها» أي بالخصوصات الصادرة عنهم عليهم السّلام.

ثم اشار الى انه بعد ورود التخصيص على العام بعد حضور وقت العمل يستكشف كون العام كان مشتملا على حكمين: حكم واقعي و هو في ما عدا الخاص، و حكم ظاهري بالنسبة الى الخاص بقوله: «و استكشاف» أي ان كونها مخصصة للعام كاشف عن ان «موردها» أي مورد الخصوصيات «كان خارجا عن العام واقعا» و ان الحكم الواقعي في العام هو لما عدا الخصوصات «و» يستكشف ايضا «ان» مورد الخصوصات قبل ورودها «كان داخلا فيه» أي في العام «ظاهرا» فكان الحكم بالنسبة اليه حكما ظاهريا لا واقعيا.

(2) توضيحه: ان فرض الكلام هو بالنسبة الى الخصوصات الواردة عن الائمة عليهم السّلام بالنسبة الى عموم الكتاب و السنة، و لا بد في هذا الفرض من كونها واردة بعد حضور وقت العمل. و قد عرفت ان لازم كون الخاص واردا بعد حضور وقت العمل بالعام هو رفعه لحكم فعلي ظاهري، بخلاف ورود الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام فانه لا يكون رافعا لحكم فعلي، لعدم كشفه ان الحكم الواقعي الفعلي في العام هو ما

ص: 152

.....

______________________________

عدا الخاص، و حيث كان واردا قبل حضور وقت العمل بالعام فليس للعام حكم فعلي ظاهري حتى يكون الخاص رافعا له.

فتبين مما ذكرنا: انه في حال ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام لا بد من كونه رافعا لحكم فعلي، غايته انه ظاهري لا واقعي.

و منه يظهر انه لا مانع- ايضا- من كون هذه الخصوصات الواردة عن الائمة عليهم السّلام ناسخة لظهور العموم الكتابي و السنة في الدوام في الاستمرار، لانها لا تكون رافعة- بناء على كونها ناسخة- الا لظهور فعلي في الدوام و الاستمرار في العموم الكتابي و السنة بالنسبة الى افراد الخاص، و لما كان خروج الخاص قطعيا سواء على التخصيص او النسخ، و لا فرق بين التخصيص و النسخ الا كون التخصيص رافعا لظهور فعلي ظاهري، و النسخ رافعا لظهور واقعي فعلي في الدوام و الاستمرار، فالرفع للظهور الفعلي في كل واحد منهما لازم، فلا مانع من الالتزام بكونها ناسخة، كما لا مانع من الالتزام بكونها مخصصة.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و لاجله» أي و لاجل كون تلك الخصوصات- بناء على كونها مخصصة- مما لا بد من كونها رافعة لظهور فعلي في المقام لفرض كونها واردة بعد حضور وقت العمل يظهر انه «لا باس بالالتزام بالنسخ» فيها «بمعنى رفع اليد بها عن ظهور تلك العمومات باطلاقها في الاستمرار و الدوام» فانه لا مانع منه ايضا.

و ما يقال من معلومية ندرة النسخ و كثرة التخصيص انما هو بالنسبة الى كثرة التخصيص غير المستلزم لرفع اليد عن ظهور فعلي في العام، كالتخصيص قبل حضور وقت العمل بالعام، لا في التخصيص اللازم فيه رفع اليد عن ظهور حكم فعلي، و هو التخصيص بعد حضور وقت العمل بالعام كما في المقام.

إلّا انه بعد ما عرفت من ندرة النسخ و لا فرق في هذه الندرة بين كونها بعد حضور وقت العمل، او قبل حضور وقت العمل. و تخصيصها بخصوص التخصيص

ص: 153

فصل لا إشكال في تعيين الاظهر لو كان في البين إذا كان التعارض بين الاثنين، و أما إذا كان بين الزائد عليهما فتعينه ربما لا يخلو عن خفاء، و لذا وقع بعض الاعلام في اشتباه و خطأ (1)، حيث توهم أنه إذا كان هناك

______________________________

قبل حضور وقت العمل بالعام لا يخلو عن تحكم لان النادر لا يصار اليه، و لا بد من الحمل على غير النادر.

مضافا الى ما في دعوى ندرة النسخ و كثرة التخصيص انما هو في التخصيص قبل حضور وقت العمل بالعام فانها مجازفة واضحة، لعدم ضبط التواريخ بحيث يعرف منها ان هذا الخاص وارد قبل حضور وقت العمل، و غيره وارد بعد حضور وقت العمل، و هو واضح لمن نظر في الاخبار، بل حتى بالنسبة الى الكتاب و حتى بالنسبة الى السنة النبوية.

(1)

الفصل السابع: انقلاب النسبة و عدمه

اشارة

هذا الفصل لبيان انقلاب النسبة و عدم انقلابها. و لما كان الانقلاب و عدمه انما هو حيث يكون التعارض بين اكثر من اثنين. اما اذا كان التعارض بين اثنين فحيث فرض ان مورد هذا التعارض من موارد الجمع العرفي الذي لا بد فيه من كون الاظهر و الظاهر متعينين فلا خفاء مع هذا الفرض، و لا بد من حمل الظاهر فيه على الاظهر، و لا مجال لانقلاب النسبة و عدم انقلابها فيه، اذ ليس هناك ثالث حتى يكون مجال للانقلاب و عدمه. اما اذا كان التعارض بين اكثر من اثنين كما في الفرضين المشار اليهما في المتن، و هو ما اذا ورد عام و خاصان او عامان من وجه و خاص، فحيث انه بناء على عدم الانقلاب يكون هناك ظاهر و اظهر، و بناء على الانقلاب لا يكون هناك ظاهر و اظهر بل يكونان خارجين عن الجمع العرفي، لذلك كان هذا المقام مورد الخفاء و الاشتباه.

و لذا قال (قدس سره): «لا اشكال في تعيين الاظهر» و لزوم حمل الظاهر عليه «لو كان في البين اذا كان التعارض بين الاثنين» كما لو ورد عام و خاص فانه

ص: 154

عام و خصوصات و قد خصص ببعضها، كان اللازم ملاحظة النسبة بينه و بين سائر الخصوصات بعد تخصيصه به، فربما تنقلب النسبة إلى عموم و خصوص من وجه، فلا بد من رعاية هذه النسبة و تقديم الراجح منه و منها، أو التخيير بينه و بينها لو لم يكن هناك راجح، لا تقديمها عليه، إلا إذا كانت النسبة بعده على حالها (1).

______________________________

لا ريب في ان الخاص هو الاظهر و العام هو الظاهر الذي لا ريب في حمله على الخاص الاظهر منه، و حيث لا خفاء في هذا فلم يكن مورد الاشتباه. «و اما اذا كان» التعارض «بين الزائد عليهما» أي على الاثنين «فتعيّنه» أي تعيّن الاظهر الذي لا بد من حمل الظاهر عليه «ربما لا يخلو عن خفاء» لانه بناء على عدم الانقلاب فالاظهر متعيّن، و بناء على الانقلاب لا يكون هناك اظهر «و لذا وقع بعض الاعلام» و الظاهر انه صاحب المستند «في اشتباه و خطأ» لانه قال بانقلاب النسبة.

(1) توضيحه يتوقف على امور: الاول: ان الكلام في التعارض بين الادلة المتعدّدة في مقامين: المقام الاول: ان تكون النسبة بينها متحدة، و هو ما اشار اليه في المتن بقوله: «اذا كان هناك عام و خصوصات و قد خصّص بعضها» كما لو كان احد الخاصين قطعيا أو واردا قبل ورود الخاص الثاني «كان اللازم ملاحظة النسبة بينه» أي بين العام «و بين سائر الخصوصات بعد تخصيصه به» أي بعد تخصيص العام بالخاص القطعي، مثلا تلاحظ النسبة بينه و بين غير هذا الخاص القطعي من ساير الخواص- بناء على عدم الانقلاب- و كأنّه لم يخصّص العام اصلا، و عليه فلا بد من تخصيص العام بالخاص الآخر. و اما بناء على الانقلاب فلا يكون الامر كذلك.

و من الواضح ان النسبة- بناء على عدم الانقلاب- تكون متحدة، لوضوح انها هي العموم المطلق، لان المفروض ان العام لوحظ بالنسبة الى كل واحد من الخواص

ص: 155

.....

______________________________

كان عاما مطلقا و الخاص اخص منه، فالنسبة بين العام و كل واحد من الخواص متحدة و هي العموم المطلق.

المقام الثاني: ما اذا كانت النسبة بين الادلة مختلفة، كما اذا ورد عامان بينهما عموم و خصوص من وجه و ورد خاص مخصّص لاحدهما، فان النسبة هنا مختلفة لانها بين العامين بنحو العموم من وجه، و بين العام و الخاص هي العموم المطلق، و سيأتي الكلام في هذا عند تعرض المصنف له.

الامر الثاني بيان اقسام المقام الاول، و هو فرض اتحاد النسبة الذي اشار اليه المصنف، و تعيين محل الكلام فيه.

و لا يخفى ان النسبة بين الخاصين: تارة تكون بنحو التباين، كما اذا ورد اكرم العلماء و ورد يستحب اكرام النحاة من العلماء و يحرم اكرام النحاة من العلماء، و في هذا الفرض حيث كان بين الخاصين تعارض بنحو التباين فلا يكون كل واحد منهما بحجة بالفعل، فلا بد من اجراء قاعدة التعارض بينهما من الترجيح أو التخيير، و على الترجيح يختصّ ذو المزية منهما بالحجية الفعلية و هو الذي يخصّص به العام، و على التخيير يختار احدهما و هو الذي يخصص به العام. و هذا الفرض ليس مورد الكلام في انقلاب النسبة و عدمه لكون الحجة احدهما و يكون المآل في هذا الفرض الى التعارض بين اثنين، و لا يكون من التعارض بين الادلة المتعددة و هو واضح.

و اخرى يكون بين الخاصين عموم من وجه، كما اذا ورد اكرم العلماء و يستحب اكرام العلماء البصريين و يحرم اكرام العلماء النحاة، فان بين الخاصين عموما من وجه، لتصادقهما على العالم النحوي البصري، و صدق العالم البصري على العالم البصري غير النحوي، و صدق النحوي على العالم النحوي غير البصري. فان قلنا بان العموم من وجه داخل في ادلة العلاج و مما تشمله ادلة الترجيح او التخيير، فلا بد أولا من ملاحظة الترجيح أو التخيير بينهما، و بعد الاخذ باحدهما اما ترجيحا او تخييرا يخصّص به العام الباقي على اطلاقه، و يخصص العام بالمخصص الثاني فيما

ص: 156

.....

______________________________

عدا مورد الاجتماع، ففي المثال المتقدم اذا اختير استحباب اكرام العلماء البصرين فلا بد من اكرام العلماء البصريين استحبابا مطلقا: أي لا بد من الالتزام بكون اكرام العلماء البصريين مستحبا لا واجبا تحقيقا للعمل باستحبابه، و اما في العلماء النحاة من غير البصريين فيخصّص به عموم اكرم العلماء. و ان قلنا بعدم شمول ادلّة العلاج للعموم من وجه، فالقاعدة تقتضي تساقطهما في مورد الاجتماع، و يخصص العام بكل واحد منهما في غير مادة الاجتماع، ففي المثال المتقدّم يتساقط ما دلّ على استحباب اكرام العلماء البصريين في خصوص النحاة، و ما دلّ على حرمة اكرام النحاة في خصوص العلماء البصريين، و يخصّص اكرم العلماء باكرام العلماء البصريين استحبابا فيما عدا النحاة، و يخصّص بحرمة اكرام العلماء النحاة غير البصريين. ثم ان قلنا بان المتعارضين حجة على نفي الثالث في مورد التعارض، فلا يكون المرجع الى هذا العام المخصّص في مورد الاجتماع، و لا بد من الرجوع الى غيره. و ان قلنا بعدم الحجية على نفي الثالث فالمرجع يكون الى هذا العام المخصّص.

و ثالثة: ان يكون بين الخاصين عموم من مطلق، بان يكون احد الخاصين اعم من الآخر مطلقا، كما اذا ورد اكرم العلماء ثم ورد يحرم اكرام العلماء النحاة ثم ورد نفي حرمة اكرام خصوص علماء النحاة البصريين، فلا بد أولا من تخصيص حرمة اكرام العلماء النحاة باخراج البصريين منهم ثم تخصيص اكرم العلماء باخراج العلماء النحاة ما عدا البصريين.

و رابعة: ان لا يكون بين الخاصين تناف اصلا، و هذا نحوان:

الاول: ان لا يلزم من التخصيص باحدهما انقلاب نسبة العام بالنسبة الى الخاص الآخر، كما لو ورد اكرم العلماء و يستحب اكرام زيد العالم العادل و يحرم اكرام الفساق من العلماء، فانه لا يوجب تخصيص وجوب اكرام العلماء باستحباب اكرام زيد العالم العادل انقلاب النسبة بين اكرم العلماء و بين حرمة اكرام فساق

ص: 157

.....

______________________________

العلماء، و لا من تخصيصه بحرمة اكرام فساق العلماء يلزم انقلاب النسبة بين اكرم العلماء و استحباب اكرام زيد العالم العادل.

الثاني: ان يلزم من تخصيص العام باحدهما انقلاب النسبة بين العام و الخاص الآخر، كما لو تقدم احد الخاصين في الزمان على الخاص الآخر. و هذا الانقلاب تارة يكون الى التباين، و اخرى الى العموم من وجه .. و الاول مثل ما اذا ورد اكرم العلماء، ثم ورد بعده يستحب اكرام العدول من العلماء، ثم بعد هذا الخاص بمقدار من الزمان ورد يحرم اكرام الفساق من العلماء. فانه لو خصصنا العام بالخاص الاول و اخرجنا منه العلماء العدول لا يبقى تحته الا فساق العلماء، و النسبة بين وجوب اكرام فساق العلماء و حرمة اكرامهم هي التباين .. و الثاني كما اذا ورد اكرم العلماء و ورد بحرم اكرام العالم الفاسق النحوي و الصرفي، ثم ورد بعده بمقدار من الزمان يحرم اكرام فساق العلماء. فان النسبة بين اكرم العلماء بعد اخراج العالم الفاسق النحوي و الصرفي منه و بين يحرم اكرام فساق العلماء هي العموم من وجه، لصدق اكرم العلماء بدون يحرم اكرام فساق العلماء في العلماء العدول، و صدق يحرم اكرام الفساق من العلماء بدون اكرم العلماء في العالم الفاسق النحوي و الصرفي لخروجه اولا عن مصاديق العام، و اجتماعهما في فساق العلماء عدا العالم النحوي و الصرفي، فان وجوب اكرام العلماء يقتضي اكرامهم، و حرمة اكرام فساق العلماء عدا النحوي و الصرفي يقتضي حرمة اكرامهم.

الامر الثالث: ان التخصيص الموجب لانقلاب النسبة هو مورد الخلاف، سواء كان انقلابها الى التباين او الى العموم من وجه.

فقد نسب الى النراقي القول بانه يقتضي ملاحظة النسبة بين العام و الخاص الثاني بعد اخراج الخاص الاول، اما لكونه قطعيا دون الخاص الآخر، او لكونه واردا قبل ورود الآخر، فان كانت هي التباين يكونان من المتعارضين اللذين هما مورد الترجيح او التخيير، و ان كانت هي العموم من وجه فعلى الخلاف في دخولها في ادلة

ص: 158

.....

______________________________

العلاج و عدم دخولها فيه، فعلى الاول يكون الترجيح او التخيير، و على الثاني يكون التساقط ... و قد نسب الى النراقي انه يقول بانقلاب النسبة في خصوص ما اذا كان احد الخاصين لبيا لا لفظيا، اما اذا كان كلاهما لفظيين فلا يقول بالانقلاب.

و لا يخفى انه اذا كان تخصيصه باللبي فهو اما لدعوى كونه من المخصص المتصل بالعام أو هو كاشف عن مخصص متصل بالعام، فلا يكون ذلك قولا بانقلاب النسبة، لانه مع التخصيص بالمتصل لا يكون للعام ظهور نوعي في العموم حتى يكون محلا للقول بانقلاب النسبة. و ان كان تخصيصه باللبي لدعوى كون الظهور في العام كان خياليا فلا وجه لتخصيص ذلك باللبي، فانه يتأتى هذا الوجه حتى في المخصص اللفظي.

و ذهب المصنف وفاقا لجماعة من المحققين الى عدم انقلاب النسبة بين العام و الخاص الثاني، و ان النسبة بينهما هي العموم المطلق، و لا بد من تخصيص العام بالخاص الثاني كما خصص بالاول.

نعم فيما يلزم منه عدم بقاء مورد للعام اصلا كما في المثال المتقدم و هو اكرم العلماء و يستحب اكرام العدول منهم و يحرم اكرام الفساق منهم، لا يبقى مورد للعام. و مثله ما اذا بقى للعام مورد قليل بحيث لا يستحسن سوق العموم اليه، كما لو ورد اكرم العلماء ثم ورد يستحب اكرام العدول من العلماء الا زيدا العادل فهو واجب ثم ورد يحرم اكرام فساق العلماء، فان اخراج العلماء العدول عدا زيد و اخراج فساق العلماء يستلزم سوق اكرم العلماء الى وجوب اكرام زيد العالم العادل خاصة و هو مستهجن. و سيأتي انه اذا كان تخصيص العام بكلا الخاصين يوجب بقاء العام بلا مورد، او بقاء مورد يستهجن سوق العموم بالنسبة اليه فلا بد- حينئذ- من ملاحظة التعارض بين العام و كلا الخاصين كما يلاحظ التعارض بين المتباينين.

ص: 159

.....

______________________________

اما فيما اذا لم يلزم ذلك بان كان للعام بعد اخراج الخاص الاول و الثاني موارد كثيرة، فلا بد من تخصيص العام بالخاصين معا الاول و الثاني، و لا وجه لملاحظة انقلاب النسبة.

و قد ظهر مما ذكرنا: ان ثمرة الخلاف في انقلاب النسبة في مورد ما اذا كان الانقلاب موجبا للتباين هو ملاحظة التعارض بنحو التباين بين العام و الخاص الثاني بناء على انقلاب النسبة، و ملاحظة التعارض بنحو التباين بين العام و الخاصين معا بناء على عدم انقلاب النسبة حيث لا يبقى مورد للعام او كان الباقي موردا لا يستحسن سوق العام بالنسبة اليه. ففي المثال المتقدم- و هو اكرم العلماء- و يستحب اكرام العدول منهم، و يحرم اكرام فساق العلماء- يكون التعارض بنحو التباين بين العام و هو اكرم العلماء و يحرم اكرام فساق العلماء بناء على الانقلاب، و ملاحظة التعارض بنحو التباين بين العام و مجموع الخاصين بناء على عدم الانقلاب.

و فيما اذا كان الانقلاب موجبا للعموم من وجه بين العام و الخاص الثاني، فان ثمرة الخلاف بناء على الانقلاب هي لزوم ملاحظة تعارض العامين من وجه بين العام و الخاص الثاني، فان قلنا بشمول ادلة العلاج له فالترجيح او التخيير، و إلّا فالتساقط ان قلنا بعدم شمول ادلة العلاج له. و بناء على عدم الانقلاب فاللازم تخصيص العام بالخاص الثاني كما خصص بالخاص الاول. ففي مثل- اكرم العلماء، و يحرم اكرام فساق العلماء النحاة و الصرفيين، و يحرم اكرام فساق العلماء- يلزم تخصيص اكرم العلماء بحرمة اكرام فساق العلماء كما خصص بحرمة اكرام فساق النحاة و الصرفيين منهم. بخلافه بناء على الانقلاب، فانه لا بد من ملاحظة العموم من وجه بين العام و يحرم اكرام فساق العلماء.

وجهان في لزوم الانقلاب

الامر الرابع: ما يمكن ان يقال في لزوم الانقلاب وجهان:

الاول: انه لا اشكال في ان المدار على الظهور المستقر لا على الظهور الخيالي، و بعد تخصيص العام بالخاص الاول ينكشف انه لا ظهور للعام مستقرا بالنسبة الى

ص: 160

.....

______________________________

الخاص الاول، و انما كان ظهوره بالنسبة اليه خياليا، و عليه فلا بد من انقلاب النسبة بينه و بين الخاص الثاني لعدم ظهور مستقر للعام بالنسبة الى الخاص الاول، و حيث لا يكون له ظهور مستقر فهو كما لو لم يكن للعام ظهور في الاطلاق من الاول، بل كان ظهوره الاولي هو العموم من وجه، و عليه فلا بد من معاملة العموم من وجه بين العام و الخاص الثاني، لانكشاف كون العام ليس من العام المطلق بالنسبة اليه، بل النسبة المستقرة بينهما هي العموم من وجه.

الثاني: ان التعارض بين الدليلين بنحو العموم و الخصوص الذي هو مورد الجمع الدلالي انما هو بين العام بما هو حجة فعلا و الخاص، و المفروض ان العام بعد تخصيصه بالخاص الاول لا يكون العام- بما هو عام مطلقا- بحجة فعلا بالنسبة الى الخاص الثاني، بل يكون- بما هو عام من وجه- فعلا حجة بالنسبة الى الخاص الثاني. و ملاحظة الحجتين بنحو العموم و الخصوص المطلق انما يقتضي حمل الظاهر الذي هو العام المطلق على الاظهر و هو الخاص، و تخصيصه به حيث لا يكون مخصصا بالخاص الاول. اما بعد تخصيص العام بالخاص الاول فلا يكون الخاص اظهر من العام في مورد الخاص، لعدم كون العام بعد تخصيصه بالاول عاما مطلقا بالنسبة الى هذا الخاص الثاني، بل يكون حال العام بعد تخصيصه بالاول حال الخاص الثاني في الظهور، لانه بالنسبة اليه عام من وجه، فلا موجب لحمله على الخاص الثاني و تخصيصه به، بل لا بد من ملاحظة نسبة العموم من وجه بينهما.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: و «توهم انه اذا كان هناك عام و خصوصات و قد خصص» العام «ببعضها» كما لو كان احد الخاصين واردا قبل ورد الخاص الثاني فإنّه «كان اللازم» على هذا «ملاحظة النسبة بينه» أي بين العام «و بين سائر الخصوصات بعد تخصيصه به» أي بعد تخصيصه بذلك البعض السابق «فربما تنقلب النسبة» بين العام و الخصوصات المتأخرة من العموم المطلق «الى عموم و خصوص من وجه فلا بد» حينئذ «من رعاية هذه النسبة» و هي نسبة العموم من وجه «و»

ص: 161

و فيه: إن النسبة إنما هي بملاحظة الظهورات، و تخصيص العام بمخصص منفصل و لو كان قطعيا لا ينثلم به ظهوره، و إن انثلم به حجيته، و لذلك يكون بعد التخصيص حجة في الباقي، لاصالة عمومه بالنسبة إليه (1).

______________________________

بناء على شمول ادلة العلاج للعامين من وجه يلزم «تقديم الراجح منه» أي من العام «و منها» أي و من الخصوصات المتأخرة «او التخيير بينه» أي بين العام «و بينها ...» أي و بين تلك الخصوصات «لا تقديمها» أي لا تقديم تلك الخصوصات عليه، كما في المثال المتقدم و هو اكرم العلماء، و ورود يحرم اكرام فساق النحاة و الصرفيين أولا، ثم ورود يحرم اكرام فساق العلماء. فان النسبة بين اكرم العلماء و يحرم اكرام فساق العلماء تكون هي العموم من وجه، بعد تخصيص اكرم العلماء بالخاص الاول و هو يحرم اكرام فساق النحاة و الصرفيين.

نعم اذا كان العام بعد تخصيصه بالخاص الاول باقيا على عمومه المطلق بالنسبة الى الخاص الثاني- كما اذا ورد اكرم العلماء، ثم ورد اولا يحرم اكرام النحاة من العلماء، ثم ورد بعده يحرم اكرام العلماء الصرفيين- فانه لا مانع حينئذ من تخصيص اكرم العلماء بالخاص الثاني، لبقائه على نسبة العموم المطلق بالنسبة اليه.

و الى هذا اشار بقوله: «إلّا اذا كانت النسبة بعده» أي بعد تخصيص العام بالخاص الاول «على حالها» من العموم المطلق بالنسبة الى الخاص الثاني.

و لا يخفى ان المصنف لم يشر الى وجه القول بالانقلاب، و قد اشرنا الى وجهين للانقلاب فلا تغفل ...

(1)

الجواب عن الوجهين

و توضيحه- بحيث يكون جوابا عن الوجهين- يتوقف على امور:

الاول: ان هنا أصلين عقلائيين: الاول منهما: ان اللفظ في مقام التخاطب عند العقلاء هو الوجه الفاني في المعنى للعلقة المتحققة بينه و بين المعنى اما للوضع او

ص: 162

.....

______________________________

للقرينة، و هذا هو الظهور الاستعمالي، و هذا الظهور محفوظ بين اللفظ و المعنى و ان علمنا بعدم ارادته جدا.(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 9 ؛ ص163

ثاني منهما: بناء العقلاء على ان إلقاء اللفظ الذي له ظهور في المعنى- اما بالذات لاجل الوضع او بالعرض لاجل القرينة- كاشف عن كونه هو المراد بالارادة الجدية. و تقديم الخاص على العام انما يزاحم الاصل الثاني، لكشفه ان العام لم يرد على عمومه بالارادة الجدية دون الاصل الاول، لوضوح كون اللفظ وجها للمعنى اما بالذات او بالعرض محفوظا و ان لم يكن هو المراد واقعا.

الامر الثاني: ان التعارض بسبب الدليلين هو تنافيهما في الاصل الاول، لوضوح انه لو لم يكن بينهما في ظهورهما الاستعمالي تناف لا يكونان من المتعارضين حتى نحتاج الى الجمع الدلالي او للترجيح او التخيير.

الامر الثالث: ان كون الدليل حجة بالفعل مورده الاصل الثاني، و هو كشفه عن الارادة الجدية.

و بيان ذلك: ان المدار على الكشف عن الارادة الجدية في مقام الحجية الفعلية.

فاذا لم يكن تخصيص للعام كشف ذلك عن ان العام هو المراد بالارادة الجدية، و اذا كان له مخصص كشف ذلك عن ان المراد بالارادة الجدية من العام هو ما عدا الخاص، فتكون الحجة الفعلية للمراد بالارادة الجدية. و من البين انه ليس كون الدليل بما هو حجة بالفعل هو مدار التعارض، لبداهة انه بعد فرض التعارض بين الدليلين تكون الحجية الفعلية بعد تمامية الجمع بينهما او تقديم احدهما، فلا بد و ان يكون مورد التعارض ما قبل الحجية الفعلية و هو الظهور الاستعمالي، و هو كون اللفظ له ظهور في معنى ينافي ظهور اللفظ الآخر بخلافه.

الامر الرابع: ان مبنى المتأخرين- تبعا لسلطان العلماء- ان تخصيص العام لا يستلزم مجازيته، لان الخاص انما يتقدم على العام من جهة الارادة الجدية لا في

ص: 163


1- 23. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

.....

______________________________

مقام الاستعمال، لعدم المنافاة بين كون اللفظ العام مستعملا حقيقة في معناه العمومي، و كون هذا المعنى الحقيقي غير مراد جدا و واقعا.

اذا عرفت هذه الامور، تعرف فساد الوجهين: اما الوجه الاول، فلأن ظهور اللفظ في المعنى ليس بظهور خيالي بعد التخصيص، بل العام بعد تخصيصه لا يزال ظهوره الاستعمالي باقيا، لبداهة ان كون اللفظ قالبا لمعناه لا يزول عنه و ان لم يكن مرادا بالارادة الجدية، بل كون اللفظ قالبا لمعناه لا ينقلب عما هو عليه، لعدم معقولية انقلاب ما فرض كونه قالبا لمعنى عن كونه قالبا له، و انما يكون مورد التخصيص في مقام الكشف عن الارادة الجدية، و في هذا المقام يتقدم الخاص على العام. فاتضح ان تقدم الخاص على العام في الارادة الجدية لا يزاحم استقرار ظهور العام في عمومه.

و اما الوجه الثاني: فلما عرفت من ان مورد التعارض ليس هو الحجية الفعلية، بل مورده هو الظهور الاستعمالي، لما اشرنا اليه من ان الحجية الفعلية هي مقام كشف الدليل عن الارادة الجدية، و هو انما يكون بعد التعارض و بعد الجمع الدلالي بين الدليلين او ترجيح احدهما او التخيير بينهما.

فاتضح مما ذكرنا: انه لا وجه لتوهم انقلاب النسبة، لان العام لا يزال بحسب ظهوره الاستعمالي- الذي هو مورد التعارض بينه و بين الخاص الثاني- باقيا على حاله من كونه عاما مطلقا بالنسبة الى الخاص الثاني، و لا ينقلب عن ظهوره الاستعمالي في الاطلاق، و ان خصص بالخاص الاول اما لوروده قبل الخاص الثاني او لكونه قطعيا، لان الخاص الاول انما زاحم العام في الارادة الجدية، لا في ظهوره الاستعمالي الذي هو مقام التعارض.

و الحاصل: ان العام و الخاص يتعارضان في الظهور الاستعمالي، و يتقدم الخاص على العام في الارادة الجدية، فلا ينثلم بتقديم الخاص على العام ظهور العام الاستعمالي في معناه اصلا. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و فيه ان النسبة» بين العام

ص: 164

لا يقال: إن العام بعد تخصيصه بالقطعي لا يكون مستعملا في العموم قطعا، فكيف يكون ظاهرا فيه (1)؟

______________________________

و الخاص «انما هي بملاحظة الظهورات» و في هذا المقام يكون التعارض «و» مقام «تخصيص العام بمخصص منفصل» و تقديم الخاص المنفصل على العام انما هو بملاحظة الارادة الجدية لا بملاحظة الظهور الاستعمالي، فتخصيص العام بالخاص المنفصل «و لو كان» الخاص «قطعيا» من كل جهة «لا ينثلم به ظهوره» أي ظهور العام الاستعمالي «و ان انثلم به حجيته» الفعلية و هي مقام الكشف عن الارادة الجدية «و لذلك يكون» العام «بعد التخصيص حجة في الباقي» لبقاء ظهوره الاستعمالي بحيث يكون شاملا للباقي، و حيث لا تخصيص للعام بالنسبة الى الباقي فيكون كاشفا عن كون الباقي مرادا بالارادة الجدية «لاصالة عمومه بالنسبة اليه» أي الى الباقي في المقامين: في مقام الظهور الاستعمالي، و في مقام الكشف عن الارادة الجدية بالنسبة اليه.

(1) لا يخفى ان مبنى لا يقال على غير مذهب سلطان العلماء، بل على ما ينسب الى المشهور: من كون العام بعد تخصيصه يكشف عن استعماله مجازا في غير العموم.

فحاصل لا يقال: ان العام بعد تخصيصه بالخاص- المقطوع تخصيصه به اما لكونه قطعيا او لكونه واردا قبل الخاص الثاني- يكون كاشفا عن استعماله مجازا في غير العموم، و مع هذا الكشف يكون التخصيص كاشفا عن ان ظهور العام الاستعمالي هو غير العموم، و مع عدم كون العام له ظهور في العموم .. كيف تكون النسبة بينه و بين الخاص الثاني هي العموم المطلق؟

و اشار الى ان لا يقال مبني على مذهب المشهور بقوله: «ان العام بعد تخصيصه بالقطعي لا يكون مستعملا في العموم» و بقوله (قدس سره): «فكيف يكون ظاهرا فيه» اشار الى انه يتفرع على كشف التخصيص عن استعمال العام في غير عمومه هو عدم ظهوره الاستعمالي في العموم.

ص: 165

فإنه يقال: إن المعلوم عدم إرادة العموم، لا عدم استعماله فيه لإفادة القاعدة الكلية، فيعمل بعمومها ما لم يعلم بتخصيصها (1)، و إلا لم يكن وجه في حجيته في تمام الباقي، لجواز استعماله حينئذ فيه و في غيره من المراتب التي يجوز أن ينتهي إليها التخصيص (2)، و أصالة عدم

______________________________

(1) حاصله: ان المبنى الصحيح هو كون الخاص يتقدم على العام في مقام الارادة الجدية دون الارادة الاستعمالية، فلا يكشف التخصيص عن استعمال العام في غير عمومه، بل العام بعد التخصيص باق على ظهور في العموم في مقام الاستعمال، و هو لا يزال مستعملا في عمومه، و لذا قال (قدس سره): «ان المعلوم» بعد تخصيص العام هو «عدم ارادة العموم» من العام جدا «لا عدم استعماله فيه» أي في العموم، بل هو باق على حاله من استعماله في العموم «لإفادة القاعدة الكلية فيعمل بعمومها» و هو كون العام حجة في الباقي، لتحقق كلا الاصلين بالنسبة الى الباقي: لاصالة ظهور العام في العموم في مقام الاستعمال، و اصالة كشف هذا الظهور عن الارادة الجدية بالنسبة الى الباقي فيعمل على طبقها «ما لم يعلم بتخصيصها».

(2) يشير الى الاستدلال على كون العام بعد التخصيص باقيا على ظهوره الاستعمالي في العموم، و لا يكون التخصيص موجبا لكونه مستعملا في غير العموم مجازا ...

و توضيح ذلك: ان الكلام فعلا بالنسبة الى ظهور العام بحسب الدلالة اللفظية دون الدلالة الاطلاقية فانه سيشير اليها بقوله: «نعم ربما يكون».

و حاصل الاستدلال: انه لو كان التخصيص كاشفا عن استعمال العام في غير العموم لاستلزم ذلك عدم حجية العام في الباقي، لان الاستعمال المجازي يحتاج الى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي و قرينة معينة في المعنى المجازي، و التخصيص انما يفي بكونه قرينة صارفة، لوضوح عدم كونه قرينة معينة لما استعمل فيه العام، لبداهة ان الخاص لا يدل إلّا على خروجه عن العام، من دون دلالة للخاص على المعنى

ص: 166

مخصص آخر لا توجب انعقاد ظهور له، لا فيه و لا في غيره من المراتب، لعدم الوضع و لا القرينة المعينة لمرتبة منها، كما لا يخفى، لجواز إرادتها و عدم نصب قرينة عليها (1).

______________________________

المستعمل فيه العام، و لازم ذلك هو كونه القرينة الصارفة عن استعمال العام في عمومه، فتبقى جهة استعماله في أي معنى من المعاني غير العموم تحتاج الى القرينة الاخرى المعينة و المفروض عدمها. و احتمال كونه مستعملا في الباقي كاحتمال استعماله في غيره من المراتب الأخر، عدا المرتبة التي لا يجوز ان ينتهي اليها استعمال العام فيها لمحذور الاستهجان.

و الى هذا اشار بقوله: «و إلّا» أي و ان لم يكن العام مستعملا في عمومه، بان كان التخصيص كاشفا عن استعماله في غير العموم مجازا «لم يكن وجه في حجيته في تمام الباقي لجواز استعماله حينئذ» أي بعد قيام القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي «فيه» أي في تمام الباقي «و في غيره من المراتب التي يجوز ان ينتهي اليها التخصيص» و لا قرينة معينة لاحد الاحتمالات كما عرفت.

(1) حاصله: الاشارة الى امكان ان يتوهم ان هناك أصلا يكون هو القرينة المعينة في كون العام مستعملا في تمام الباقي.

و بيانه: ان العام قبل ورود المخصص له كان حجة في العموم، فلو شككنا في تخصيصه فاصالة عدم المخصص له توجب رفع هذا الشك عملا و بقاءه على الحجية بالنسبة الى جميع افراده، و بعد ورود المخصص له ارتفعت حجية العام بالنسبة الى المخصص الوارد عليه، و لا موجب لرفع حجيته بالنسبة الى بقية افراده، و احتمال ورود مخصص له بالنسبة الى بقية الافراد منفي باصالة عدم مخصص آخر له. فحيث كان له اقتضاء الحجية بالنسبة الى الباقي، و رفع احتمال المخصص الآخر باصالة عدمه، يكون هذا هو القرينة المعينة لاستعماله في الباقي.

ص: 167

.....

______________________________

و الجواب عنه أولا: ان كون العام كان له اقتضاء الحجية بالنسبة الى الباقي انما هو حيث يكون مستعملا في العموم، و بعد انكشاف عدم استعماله في العموم بواسطة المخصص الوارد عليه فلا يكون له اقتضاء الحجية بالنسبة الى الباقي لكشف عدم استعماله في العموم، و نفس رفع المانع باصالة عدم مخصص آخر لا يوجب له ظهورا في كونه حجة في الباقي لعدم احراز الاقتضاء، و احتمال استعماله في الباقي و في غيره من المراتب على حد سواء.

و ثانيا: ان اصالة عدم المخصص الآخر ان كان المراد منه انه من الاصول العقلائية كاصالة عدم القرينة، فقد عرفت انه انما ينفع بعد احراز الاقتضاء، و لا اقتضاء لعدم الاستعمال في العموم كما هو مقتضى كشف الخاص عن عدم استعماله في العموم. و ان كان المراد منه هو الاستصحاب ففيه أولا: انه مثبت لأن لازم جريان عدم المخصص هو استعماله في الباقي، و لازم ذلك ظهوره فيه، و لازم ظهوره هو كونه حجة في الباقي. و ثانيا: ان الكلام فيما يكون موجبا للظهور اللفظي، و الاستصحاب من الاصول العملية لا يفيد ظهورا لفظيا.

فاتضح مما ذكرنا: ان اصالة عدم المخصص الآخر لا توجب ظهورا لفظيا، سواء كانت من الاصول العقلائية او كانت هي الاستصحاب. هذا بالنسبة الى حجية العام بالنسبة الى تمام الباقي.

و اما بالنسبة الى حجيته بالنسبة الى اقل المراتب التي يجوز ان ينتهي اليها التخصيص: بدعوى انها هي القدر المتيقن .. ففيه: ان كونها قدرا متيقنا لا توجب ظهورا في مقام الاستعمال، و انما توجب كونها مراده، و الكلام فيما يوجب الظهور الاستعمالي. و لذا قال (قدس سره): «و اصالة عدم مخصص آخر لا توجب انعقاد ظهور له» أي للعام «لا فيه» أي لا في تمام الباقي «و لا في غيره من المراتب لعدم الوضع» و هو واضح لكون العام لم يوضع الا للعموم «و لا القرينة المعينة لمرتبة منها» أي و ليس هناك قرينة معينة توجب كون العام ظاهرا في استعماله فيها «كما

ص: 168

نعم ربما يكون عدم نصب قرينة مع كون العام في مقام البيان قرينة على إرادة التمام، و هو غير ظهور العام فيه في كل مقام (1).

______________________________

لا يخفى» و حيث لا تكون هناك قرينة معينة فلا مانع من احتمال ارادة تمام الباقي و ارادة غيره من المراتب، و لا معين لاستعماله مجازا في احدها. و الى هذا اشار بقوله: «لجواز ارادتها و عدم نصب قرينة عليها» كما عرفت من عدم وجود القرينة المعينة.

(1) بعد ما فرغ من ان العام حيث لا يكون مستعملا في العموم لا وجه لدعوى ظهوره الاستعمالي لا في تمام الباقي و لا في غيره من المراتب .. اشار الى انه ربما يكون للعام ظهور بواسطة مقدمات الحكمة بالنسبة الى تمام الباقي، و لكن احراز تمام الباقي بواسطة الاطلاق المستفاد من مقدمات الحكمة لا يوجب كون العام ظاهرا في استعماله فيه دائما، لانه انما يكون له هذا الظهور حيث تتم مقدمات الحكمة.

و بعبارة اخرى: ان دعوى كون العام بمجرد تخصيصه يكون ظاهرا في تمام الباقي دائما للقرينة المعينة غير دعوى احراز ظهوره في الباقي بواسطة مقدمات الحكمة، فانه انما يكون ذلك حيث تتم مقدمات الحكمة، و ذلك بان يحرز أن المتكلم في مقام بيان الحكم لهذه الافراد، و قد جرى ديدنه على ان يذكر عاما ثم يخرج منه بعض الافراد بنحو التخصيص، فانه حينئذ يكون المتكلم بحيث لو لم يرد تمام الباقي للزم نقض غرضه، اذ لو كانت غير افراد هذا المخصص خارجة أيضا للزم عليه بيانها، و إلّا كان ناقضا لغرضه، ففي مثل هذا المقام يكون للعام ظهور ببركة مقدمات الحكمة في تمام الباقي، و لا يكون للعام ظهور في تمام الباقي دائما و ان لم يحرز ذلك.

و الى ما ذكرنا أشار بقوله: «نعم ربما يكون عدم نصب قرينة» اخرى على التخصيص «مع كون العام» قد سيق «في مقام البيان» لحكم هذه الافراد «قرينة على ارادة التمام» أي ان نفس عدم نصب القرينة على تخصيص آخر مع احراز البيان المذكور يكون قرينة على إرادة تمام الباقي، و إلّا لزم نقض الغرض. و أشار الى

ص: 169

فانقدح بذلك أنه لا بد من تخصيص العام بكل واحد من الخصوصات مطلقا، و لو كان بعضها مقدما أو قطعيا (1)، ما لم يلزم منه محذور انتهائه إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه عرفا، و لو لم تكن مستوعبة لافراده، فضلا عما إذا كانت مستوعبة لها، فلا بد حينئذ من معاملة التباين بينه و بين مجموعها (2) و من ملاحظة الترجيح بينهما و عدمه، فلو رجح جانبها أو

______________________________

ان دعوى ظهور العام في بعض المقامات في تمام الباقي غير دعوى ظهوره مطلقا فيه بقوله: «و هو غير» دعوى «ظهور العام فيه في كل مقام».

(1)

لزوم تخصيص العام بكل واحد من الخصوصيات ما لم يلزم محذور الاستهجان

حاصله: انه بعد ما عرفت من كون العام مستعملا في العموم و ان كان مخصصا، و ان التعارض انما يكون في مقام الظهور الاستعمالي ... تعرف انه لا وجه لدعوى انقلاب النسبة في العام بعد تخصيصه باحد المخصصات اما لكونه قطعيا دون غيره من بقية المخصصات، او لكونه واردا قبل زمان ورود بقية المخصصات، و لا بد من تخصيصه بكل مخصص يرد عليه، من دون فرق بين المخصص القطعي او الاول و بقية المخصصات، لان نسبته الى جميعها نسبة العموم المطلق. و قد اشار الى ذلك بقوله:

«فانقدح بذلك» أي مما مر بيانه «انه لا بد من تخصيص العام بكل واحد من الخصوصات مطلقا و لو كان بعضها مقدما» في الزمان «او قطعيا» لان نسبة العام الى جميعها نسبة العموم المطلق.

(2) لما فرغ من عدم صحة انقلاب النسبة، و انه لا بد من تخصيص العام بكل واحد من الخصوصات، و لا فرق بين القطعي او الاول ورودا منها و بين سائر الخصوصات غير القطعية او المتأخرة ... اشار الى ما مرت الاشارة اليه: من ان ذلك حيث لا يكون تخصيص العام موجبا لاستيعابه أو انتهائه الى ما يستهجن عرفا سوق العام اليه.

ص: 170

اختير فيما لم يكن هناك ترجيح فلا مجال للعمل به أصلا، بخلاف ما لو رجح طرفه أو قدم تخييرا، فلا يطرح منها إلا خصوص ما لا يلزم مع طرحه المحذور من التخصيص بغيره (1)، فإن التباين إنما كان بينه و بين

______________________________

و الاول كما مر ان يرد يجب اكرام العلماء، ثم يرد استحباب اكرام العلماء العدول و حرمة اكرام فساق العلماء. فان العام بعد اخراج العدول و الفساق منه لا يبقى له مصداق اصلا، و لازم ذلك لغوية الحكم بوجوب اكرام العلماء.

الثاني: كما لو ورد يجب اكرام العلماء، ثم ورد يستحب اكرام العدول منهم عدا زيد العالم العادل، ثم ورد يحرم اكرام فساق العلماء. فان لازم ذلك كون وجوب اكرام العلماء مسوقا الى اكرام زيد العالم العادل، و ذلك مما يستهجن عرفا.

ففي مقام استيعاب التخصيص او لزوم انتهاء العموم الى ما يستهجن سوقه اليه- بناء على عدم الانقلاب- يقع التعارض بين العام و مجموع الخاصين، لانه مع عدم الانقلاب يكون الخاصان في رتبة واحدة بالنسبة الى العام فيقع التعارض بينه و بين المجموع منهما.

و قد اشار الى ان محذور الانتهاء الى ما يستهجن عرفا كمحذور الاستيعاب بقوله:

«ما لم يلزم منه محذور انتهائه الى ما لا يجوز الانتهاء اليه عرفا و لو لم يكن مستوعبة ... الى آخر الجملة». و اشار الى انه في هذين المقامين يقع التعارض بنحو التباين بين العام و مجموع الخصوصات بقوله: «فلا بد من معاملة التباين بينه» أي بين العام «و مجموعها».

(1) حاصله: انه لما كانت القاعدة الثانوية في المتعارضين بنحو التباين هو الترجيح او التخيير، فلا بد من ملاحظة الترجيح او التخيير بين العام و مجموع الخصوصات. و الى هذا اشار بقوله: «و من ملاحظة الترجيح بينهما و عدمه» و هو التخيير.

و الصور التي اشار اليها و الى احكامها في المتن أربع:

ص: 171

.....

______________________________

الاولى: ان يترجح الخصوصات سندا على العام بحيث يستلزم طرح العام سندا و لا اشكال في هذه الصورة في الاخذ بالخصوصات، و لا يكون تعارض بين الخصوصات بالذات، لفرض كون الموضوع في كل منهما غير الموضوع في الآخر و لا منافاة بينهما اصلا، لوضوح عدم المنافاة بين استحباب اكرام العدول من العلماء و حرمة اكرام فساق العلماء، و لا تعارض بينهما بالعرض، لانه انما يكون مجال للتعارض بينهما بالعرض حيث يؤخذ بالعام كما سيأتي بيانه.

الصورة الثانية: ان يتساوى العام و الخصوصات سندا، و لكنه يختار جانب الخصوصات. و في هذه الصورة يكون العام بحكم العدم، فالحكم فيها هو الحكم في الصورة الاولى، لعدم التعارض بين الخصوصات لا بالذات و لا بالعرض.

الصورة الثالثة: ان يترجح العام سندا على الخصوصات.

الصورة الرابعة: ان يتساويا و لكن يختار العام.

و الحكم في هاتين الصورتين ايضا واحد كما كان واحدا في الصورة الاولى و الثانية.

و توضيح الحال فيهما: انه لما كان السبب في وقوع التعارض بنحو التباين بين العام و الخصوصات انما هو لاستلزام التخصيص الانتهاء الى ما لا يجوز الانتهاء اليه عرفا، ففيما قبل هذه المرتبة لا تعارض بين العام و الخصوصات بنحو التباين، بل لا بد من تقديم الخصوصات جميعها عليه للجمع العرفي و عدم صحة الانقلاب. و لما كان الفرض في هاتين الصورتين تقديم العام عند التعارض بينه و بينها، فهو انما يتقدم عليها في مورد المعارضة التباينية بينه و بينها، و المعارضة التباينية انما هي بين العام و خصوص المرتبة التي لا يجوز انتهاء التخصيص اليها، لا في ما قبلها مما لا مانع من تقديم الخصوصات عليه للجمع العرفي، و في خصوص هذه المرتبة يتقدم العام و تطرح الخصوصات. اما فيما قبلها فلا بد من تخصيص العام لاقتضاء الجمع العرفي و عدم الانقلاب ذلك.

ص: 172

مجموعها لا جميعها، و حينئذ فربما يقع التعارض بين الخصوصات فيخصص ببعضها ترجيحا أو تخييرا، فلا تغفل.

هذا فيما كانت النسبة بين المتعارضات متحدة (1)، و قد ظهر منه حالها فيما كانت النسبة بينها متعددة، كما إذا ورد هناك عامان من وجه مع ما

______________________________

و الحاصل: ان لزم تقديم العام للترجيح او للاختيار في فرض التخيير انما هو في خصوص المرتبة التي لا يجوز ان ينتهي اليها التخصيص، لان التعارض بنحو التباين بين العام و الخصوصات انما هو فيها لا في غيرها، ففي غيرها حيث لا تعارض بينهما بنحو التباين فلا بد من التخصيص للعام بها.

و قد اشار الى الصورتين الاوليين بقوله: «فلو رجح جانبها» أي جانب الخصوصات و هي الصورة الاولى «او اختير» و هي الصورة الثانية «فيما لم يكن هناك ترجيح» بان كانا متساويين و لكن اختيرت الخصوصات «فلا مجال» في كلتا هاتين الصورتين «للعمل به» أي للعمل بالعام «اصلا» اما في الاولى فلطرحه سندا، و اما في الثانية فلفرض العام بحكم العدم كما عرفت. و اشار الى الصورة الثالثة بقوله: «بخلاف ما لو رجح طرفه» أي طرف العام بان كان ارجح منها سندا. و الى الرابعة اشار بقوله: «او قدم» العام «تخييرا» لفرض تساويهما.

و اشار الى ان تقديم العام على الخصوصات و طرحها للتعارض بنحو التباين انما هو في خصوص المرتبة التي لا يجوز انتهاء التخصيص اليها. و اما فيما قبلها من المراتب فحيث لا تعارض بين العام و بينها بنحو التباين، فلا بد من تقديمها عليه للجمع العرفي بقوله: «فلا يطرح منها» أي من الخصوصات «الا خصوص ما» يرتفع بسبب طرحه محذور الانتهاء الى ما لا يجوز الانتهاء اليه و «لا يلزم مع طرحه المحذور» المذكور فلا مانع «من التخصيص بغيره».

(1) توضيحه: انه لما كان التعارض بنحو التباين هو في خصوص المرتبة التي لا يجوز انتهاء التخصيص اليها، و في هذه المرتبة لا بد من طرح ما يستلزم التخصيص و تقديم

ص: 173

.....

______________________________

العام، فالمتحصل من ذلك ان تقديم العام في خصوص هذه المرتبة لازم. فاذا كان- مثلا- يلزم حفظ خمسين فردا من مجموع الخاصين ليتقدم العام فيها، فلازم ذلك وقوع التعارض العرضي بين الخاصين فيما اذا كان مجموع افراد العام مائة، و كان كل واحد من الخاصين خمسين، فلا محالة يقع التعارض بالعرض بين الخاصين، و ان أيهما يخصص به العام، لعدم المانع من تخصيص العام به، و أيهما يطرح حفظا لئلا ينتهي التخصيص الى ما لا يجوز الانتهاء اليه، و حينئذ لا بد من ملاحظة التعارض بين هذين الخاصين، فان كان احدهما ارجح سندا من الآخر اخذ الراجح و خصص به العام و طرح الخاص المرجوح، و ان كانا متساويين اختير احدهما و خصص به العام و طرح الآخر.

لا يقال: انه لا بد من ابقاء خمسين، فلم لا يقسط الخمسون على الخاصين؟

فيطرح من كل واحد خمس و عشرون، و يعمل بكل واحد من الخاصين في خمس و عشرين.

فانه يقال: لا وجه للتقسيط حيث ان افراد كل واحد من الخاصين بالنسبة الى عنوان الخاص متساوية، فاخذ بعضها دون البعض الآخر ترجيح بلا مرجح، فلا بد من التخصيص باحدهما اما ترجيحا او تخييرا، و لا وجه للتخيير في نفس افراد كل من الخاصين، لعدم الدليل على التخيير في افراد الخاص، و انما دل الدليل على التخيير بين الدليلين المتعارضين لا التخيير بين افراد الدليل الواحد.

و مما ذكرنا يظهر: ان التعارض بين الخاصين عرضا انما يكون في الفرض المذكور، و هو كون كل واحد منها مساويا للآخر من حيث العدد. اما لو كان عدد احد الخاصين ستين و عدد الآخر اربعين فلا بد من تقديم ما كان عدده اربعين، لعدم المانع من تخصيص العام به، و لا يعارضه الخاص الآخر، لانه بعد كون عدده ستين و لا وجه للتقسيط في افراده فيكون الانتهاء الى ما لا يجوز الانتهاء اليه مختصا به

ص: 174

هو أخص مطلقا من احدهما، و أنه لا بد من تقديم الخاص على العام و معاملة العموم من وجه بين العامين من الترجيح و التخيير بينهما (1)، و إن

______________________________

و يتعين طرحه فظهر ان التعارض بين الخاصين ليس دائما، بل ربما يكون و ربما لا يكون.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «فان التباين انما كان بينه» أي بين العام «و بين مجموعها» أي مجموع الخاصين لان مجموع الخاصين ما لا يجوز انتهاء التخصيص اليه «لا جميعها» أي لا كل واحد منها، فلا مانع من تخصيصه ببعضها، فلا محالة يقع التعارض بالعرض بينها فيما اذا تساويا في العدد، لا فيما اذا لم يتساويا كما عرفت.

و الى هذا اشار بقوله: «و حينئذ فربما يقع التعارض بين الخصوصات فيخصص ببعضها ترجيحا» حيث يكون هناك ما هو ارجح «او تخييرا» حيث لا يكون احدهما ارجح.

(1) بعد ما ذكر حكم النسبة المتحدة- و انه لا وجه فيها لدعوى انقلاب النسبة، بل لا بد من تخصيص العام بكل الخصوصات الا فيما يلزم منه الاستغراق او الاستهجان فيقدم العام لا لانقلاب النسبة، بل لمحذور اللغوية او الاستهجان للانتهاء الى ما لا يجوز الانتهاء اليه- تعرض لحكم النسبة غير المتحدة و هي النسبة المتعددة، كما اشار اليه في المتن: بان يرد عامان من وجه و لاحدهما مخصص، فان النسبة هنا متعددة، لفرض كون النسبة بين العامين هي العموم من وجه، و بين العام و الخاص هي العموم المطلق، فالنسبة متعددة غير متحدة، و مثال ذلك- بخلاف ما مر فان النسبة بين العام و كل واحد من الخاصين واحدة و هي العموم المطلق- كما اذا ورد اكرم العلماء ثم ورد لا تكرم الفساق، فان بين هذين العامين عموما من وجه، لصدق اكرم العلماء في العدول منهم من دون لا تكرم الفساق، و صدق لا تكرم الفساق في الفساق غير العلماء من دون اكرم العلماء، و اجتماعهما متعارضين في العلماء الفساق، فان اكرم العلماء يقتضي وجوب اكرامهم و لا تكرم الفساق يقتضي

ص: 175

.....

______________________________

حرمة اكرامهم. فاذا كان هناك خاص لأكرم العلماء، بان كان قد ورد يستحب اكرام العدول من العلماء، فاذا خصص وجوب اكرم العلماء باخراج العلماء العدول منهم تكون نسبته الى لا تكرم الفساق نسبة العموم المطلق، لاختصاص اكرم العلماء بعد اخراج العدول منه بالفساق من العلماء، و هو اخص مطلقا من لا تكرم الفساق، لصدقه على الفساق من العلماء و الفساق من غير العلماء .. فهل تنقلب النسبة بان يقدم اكرم العلماء على لا تكرم الفساق لانه اخص منه؟ او لا تنقلب النسبة بينهما؟ بل تلاحظ النسبة بين اكرم العلماء و لا تكرم الفساق كما لو لم يكن اكرم العلماء مخصصا- باستحباب اكرام عدول العلماء- و هي العموم من وجه.

و بناء على شمول ادلة العلاج للعموم من وجه لا بد من ملاحظة الترجيح بينهما او التخيير.

و قد عرفت مما مر انه لا وجه لدعوى الانقلاب كما مر تفصيل الاستدلال عليه، فلا بد من تقديم دليل استحباب اكرام العدول من العلماء على اكرم العلماء الدال على وجوب اكرام العلماء لانه اخص منه، و ملاحظة التعارض بين اكرم العلماء و لا تكرم الفساق في مادة الاجتماع و هم العلماء الفساق.

لا يقال: انه لا يمكن معاملتهما معاملة العامين من وجه، لانه في فرض تقديم لا تكرم الفساق اما ترجيحا او تخييرا يبقى عموم اكرم العلماء من غير مورد، لفرض خروج العلماء العدول عن وجوب الاكرام باستحباب اكرامهم و تقديم لا تكرم الفساق على وجوب اكرم العلماء في العلماء الفساق، فلا يبقى مورد لوجوب اكرم العلماء.

فانه يقال: لا مانع من بقاء اكرم العلماء من غير مورد، فان ذلك لازم التعارض في هذا الفرض، و طرح احد المتعارضين عند تقديم الآخر عليه لا مانع منه، و ليكن حال العام في هذا الفرض حال العام الذي له خاصان مستغرقان، فقد مر انه يقع التعارض بينه و بينهما، و مع كونهما ارجح منه سندا لا مانع من طرحه.

ص: 176

انقلبت النسبة بينهما إلى العموم المطلق بعد تخصيص أحدهما، لما عرفت من أنه لا وجه إلا لملاحظة النسبة قبل العلاج (1).

______________________________

و الحاصل: ان بقاء العام بلا مورد معناه طرحه، و لا مانع من طرحه لاجل التعارض. نعم التخصيص بحيث يبقى العام بلا مورد لا معنى له لانه جمع دلالي و ترجيح في مقام الدلالة، بخلاف الطرح لاجل التعارض فانه ترجيح سندي لا دلالي. إلّا ان يكون العام بعد تخصيصه يكون نصا فيما بقى تحته و حينئذ يتقدم لكونه نصا، لا لبقائه من غير مورد. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و انه لا بد من تقديم الخاص على العام و معاملة العموم من وجه بين العامين من الترجيح او التخيير بينهما».

(1) لا يخفى ان العامين من وجه اذا كان لاحدهما مخصص قد يكون مما تنقلب النسبة بينهما الى العموم المطلق بعد تخصيص احدهما كما مر مثاله، و قد لا تنقلب النسبة بينهما بعد تخصيص احدهما كما اذا ورد اكرم العلماء، و لا تكرم الفساق، و لا تكرم زيدا العالم الفاسق. فانه بعد تخصيص اكرم العلماء بلا تكرم زيدا العالم الفاسق تبقى النسبة بين اكرم العلماء و لا تكرم الفساق على حالها من العموم من وجه. و الى هذا اشار بقوله: «و ان انقلبت النسبة بينهما الى العموم المطلق بعد تخصيص احدهما» كما في المثال المذكور.

و اشار الى الوجه في كون النسبة الملحوظة بينهما هي العموم من وجه، و هي النسبة بينهما من دون ملاحظة التخصيص، و انه لا وجه لملاحظة النسبة بينهما مع ملاحظة التخصيص لان المعارضة بينهما في الظهور الاستعمالي لا في الحجية الفعلية، و لذا قال (قدس سره): «لما عرفت من انه لا وجه الا لملاحظة النسبة قبل العلاج» مراده من العلاج هو الجمع الدلالي بين العام و الخاص، فانه لو كان المدار على ملاحظة النسبة بعد العلاج و تخصيص احدهما- كما هو مبنى الانقلاب- لكانت

ص: 177

نعم لو لم يكن الباقي تحته بعد تخصيصه إلا ما لا يجوز أن يجوز عنه التخصيص أو كان بعيدا جدا، لقدم على العام الآخر، لا لانقلاب النسبة بينهما، بل لكونه كالنص فيه، فيقدم على الآخر الظاهر فيه بعمومه، كما لا يخفى (1).

______________________________

النسبة بينهما هي العموم المطلق، و لا بد من تقديم العام المخصص لانه يكون حينئذ اخص مطلقا، و لا وجه لملاحظة الترجيح بينهما او التخيير.

(1) توضيحه: انه بعد ما عرفت من ان العام اذا خصص تارة يكون الباقي تحت العام افرادا كثيرة، و اخرى يكون الباقي تحت العام افرادا قليلة بحيث لا يجوز تخصيص العام فيها، و في هذه الحالة يكون العام نصا فيها، كما اذا ورد اكرم العلماء و لا تكرم الفساق و لا تكرم العالم غير الهاشمي، و كان افراد الهاشمي قليلة بحيث لا يجوز ان يخصص العام فيها، لاستلزامه الاستهجان فيما اذا خرج من العام بعض افراد العالم الهاشمي، او البعد عرفا بان يكون العام مسوقا اليها، و في مثل هذا الفرض يكون العام نصا في اكرام العالم الهاشمي، و حينئذ يجب تقديمه على لا تكرم الفساق و ان كانت النسبة بينهما هي العموم من وجه، لفرض كون العام نصا بحسب الدلالة فيما بقى تحته من افراده، و لا بد من تقديم النص على الظاهر، فيتقدم اكرم العلماء هنا لاجل النصوصية في مقام الدلالة، لا لاجل انقلاب النسبة، لوضوح عدم انقلاب النسبة بينهما، لان العالم الهاشمي فيه فاسق و عادل، و لكن حيث كان العام نصا فيما تحته فلا بد من تقديمه لهذه الجهة، لا لاجل انقلاب النسبة.

و مثله ما اذا كانت النسبة منقلبة، كما اذا ورد اكرم العلماء و لا تكرم فساق العلماء، و كان العدول من العلماء من القلة بحيث لا يجوز فيه التخصيص للعام، فانه ايضا يتقدم اكرم العلماء على لا تكرم الفساق، لكن لا لاجل انقلاب النسبة، فانه بناء على انقلاب النسبة لا يكون تناف بين اكرم العلماء المختص بالعدول- بعد تخصيصه بلا تكرم فساق العلماء- و بين لا تكرم الفساق، و هو واضح.

ص: 178

فصل

لا يخفي أن المزايا المرجحة لاحد المتعارضين الموجبة للاخذ به و طرح الآخر- بناء على وجوب الترجيح- و إن كانت على أنحاء مختلفة و مواردها متعددة، من راوي الخبر و نفسه و وجه صدوره و متنه و مضمونه مثل:

الوثاقة و الفقاهة و الشهرة و مخالفة العامة و الفصاحة و موافقة الكتاب و الموافقة لفتوى الاصحاب، إلى غير ذلك مما يوجب مزية في طرف من أطرافه، خصوصا لو قيل بالتعدي من المزايا المنصوصة، إلا أنها موجبة لتقديم أحد السندين و ترجيحه و طرح الآخر، فإن أخبار العلاج دلت على تقديم رواية ذات مزية في أحد أطرافها و نواحيها فجميع هذه من مرجحات السند حتى موافقة الخبر للتقية، فإنها أيضا مما يوجب ترجيح أحد السندين و حجيته فعلا و طرح الآخر رأسا (1)، و كونها في مقطوعي

______________________________

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «نعم لو لم يكن الباقي تحته» أي تحت العام «بعد تخصيصه الا ما» كان بقدر «لا يجوز ان يجوز عنه» أي ان يتعدى عنه «التخصيص» لاستلزامه الاستهجان «او كان» تخصيصه «بعيدا جدا» عند العرف، فلو كان الفرض كذلك «لقدم» العام المخصص «على العام الآخر» لكنه «لا لانقلاب النسبة بينهما بل لكونه» أي العام المخصص «كالنص فيه» أي فيما بقى تحته من الافراد «فيقدم على» العام «الآخر» لانه من «الظاهر فيه بعمومه» أي لان العام الآخر بالنسبة الى ما بقى تحت العام المخصص من قبيل الظاهر فيه، لفرض كونه عاما يشمله و غيره.

(1)

الفصل الثامن: رجوع جميع المرجحات الى الصدور

اشارة

توضيحه: ان الكلام في مقامين: الاول: في ان المزايا المرجحة لاحد الخبرين- من حيث جهة الصدور و من حيث المضمون مثلا- هل ترجع الى المرجح السندي فيه و هو نفس الصدور؟ و انه لا يعقل كون المرجح من حيث جهة الصدور في قبال المرجح من حيث نفس الصدور، بل لا بد من رجوع المرجح من حيث جهة الصدور الى نفس

ص: 179

.....

______________________________

الصدور، بمعنى ان مرجع لزوم الاخذ بما خالف العامة و ترجيحه على الخبر الموافق للعامة هو ترجيح صدور الخبر المخالف للعامة على صدور الخبر الموافق للعامة.

و ترجيح الخبر من حيث مضمونه كموافقة الخبر للشهرة الفتوائية- مثلا- ترجع الى المرجّح السندي و هو نفس الصدور، و انه لا يعقل كون المرجّح من حيث المضمون في قبال المرجّح السندي، بل لا بد من رجوع المرجّح من حيث المضمون الى المرجّح من حيث السند.

أو لا يرجع المرجّح من حيث جهة الصدور و من حيث المضمون الى المرجّح من حيث نفس الصدور بل هما في قباله؟

و مختار المصنف هو رجوع المرجحات من غير الصدور كالجهة و المضمون الى المرجّح من حيث الصدور.

و بيان ذلك يتوقف على امور: الاول: ان الترجيح من حيث جهات الخبر ثلاث:

جهة نفس الصدور ككون الراوي اعدل، فان معنى الترجيح بكون الراوي اعدل مرجعها الى ان الوثاقة بصدوره اقوى من الوثاقة بصدور غير الاعدل.

و جهة المضمون كموافقة ما يؤدّي اليه الخبر الى الشهرة الفتوائيّة، فان مرجعها الى كون الحكم في الخبر الموافق الى الشهرة الفتوائية اقرب الى الواقع من الحكم في الخبر غير الموافق للشهرة الفتوائية.

و جهة جهة الصدور ككون الخبر المخالف للعامة صدوره لبيان الواقع اقوى من الخبر الموافق للعامة، لاحتمال صدوره للتقية لا لبيان الواقع.

الامر الثاني: ان موارد هذه الترجيحات اكثر من ثلاثة، فان مواردها: قد تكون نفس الخبر كالشهرة في الرواية، و قد تكون نفس الراوي للخبر كالاعدلية، و قد تكون متنه كفصاحة كلمات الخبر، و قد تكون مضمونه و هو الحكم المؤدّى اليه كموافقته للشهرة الفتوائية او للكتاب، و قد تكون جهة صدوره كمخالفة العامة.

ص: 180

.....

______________________________

و لا يخفى ان الشهرة في الرواية و صفات الراوي كالاعدلية مما ترجع الى الترجيح من حيث نفس الصدور، و متنه و مضمونه مما ترجع الى اقربية الحكم الى الواقع، و مخالفة العامة مما ترجع الى جهة صدوره لبيان الواقع.

و قد اشار الى الامر الاول بقوله: «و ان كانت على انحاء مختلفة». و اشار الى الامر الثاني بقوله: «و مواردها متعددة ... الى آخر الجملة».

و قوله: «الى غير ذلك» كالافقهيّة و الاورعية. فان الترجيح بالافقهية ان كان من جهة رجوعها الى ان النقل في الغالب بالمضمون- و الافقه اعرف بالمضمون من غير الافقه- فهي ترجع الى الترجيح من حيث قرب الحكم الواقع، و ان كان الترجيح بها لمحض كونه اعرف بالمسائل الاصولية، فلا تكون راجعة الى احدى الجهات الثلاث.

و مثله الاورعية فانها ان رجع الترجيح بها الى الورع في مقام الضبط في النقل تكون مما ترجع الى المضمون ايضا، و ان كانت للجهد في العبادة و التورّع عن ارتكاب الشبهات تكون خارجة ايضا عن الجهات الثلاث.

و قوله (قدس سره): «لو قيل بالتعدّي» للاشارة الى ان الفصاحة و الموافقة للشهرة الفتوائية انما تعدّ من المرجحات اذا قلنا بالتعدّي عن المزايا المنصوصة، لعدم ذكرهما في المزايا المنصوصة.

الامر الثالث: ان التعبّد بنفس الصدور لا اثر له الّا التعبّد بحكم الخبر الصادر، و الّا فالتعبّد بنفس الصدور من دون ملاحظة هذا الاثر لا معنى له.

اذا عرفت هذا ... فنقول: انه اذا تساوى الخبران من حيث نفس الصدور، و ترجّح احدهما من حيث جهة الصدور، بان كان الخبران المتساوي الراوي فيهما من حيث العدالة كان احدهما مخالفا للعامة و الآخر موافقا لهم، فان ترجيح الخبر المخالف للعامة على الموافق لا بد و ان يرجع الى ترجيح جهة السند و الصدور فيه لوجهين:

ص: 181

.....

______________________________

الوجه الاول: ان الروايات الدالّة على الترجيح تدلّ على تعبّد واحد و هو الاخذ بالخبر الراجح لاجل احدى المزايا التي ذكرت في الروايات، و لا دلالة لها على تعبدات متعدّدة: من حيث نفس الصدور، و من حيث المضمون، و من حيث جهة الصدور. و سيأتي في الوجه الثاني البرهان على رجوع التعبدات من غير نفس الصدور، الى نفس الصدور فلازم ذلك ان ذلك التعبّد الواحد هو التعبّد بسند الخبر و نفس صدوره.

الوجه الثاني: انه لو لم يرجع الى ذلك للزم التناقض، لانه لو لم يرجع الى ذلك بان كان الترجيح فيه لجهة الصدور مع الغض عن نفس الصدور، فمعنى ذلك انه مع التعبد بنفس الصدور في الخبرين مع ذلك يترجح الخبر المخالف للتعبد بجهة صدوره مع التعبد بنفس صدور الخبر الآخر الموافق، و قد عرفت ان معنى التعبد بنفس الصدور هو التعبد بحكم الخبر الصادر، و حيث فرض كونهما من حيث نفس الصدور متساويين فلا بد و ان يكون قد جعل التعبد بصدور الخبر الموافق، و مع التعبد بصدوره قد رجح عليه الخبر المخالف، فالخبر الموافق قد جعل التعبد بحكمه للتعبد بنفس صدوره، و قد رفع ذلك التعبد بالحكم للامر بالتعبد بحكم الخبر المخالف لاجل جهة الصدور، فالخبر الموافق قد جعل التعبد بالحكم به و رفع التعبد به، و هذا تناقض واضح.

بخلاف ما اذا رجع الترجيح من غير نفس الصدور الى ترجيح نفس الصدور، فانه لا يكون هناك الا تعبد واحد و هو التعبد بحكم الخبر الصادر. غايته انه تارة:

يكون للرجحان فيما يعود الى نفس الصدور كالشهرة الروائية أو الاعدلية. و اخرى:

يكون للرجحان من حيث جهة الصدور كالمخالفة للعامة. و ثالثة: يكون الرجحان لما يرجع الى قرب مضمونه الى الواقع كموافقة الكتاب او الشهرة الفتوائية. و انما كان هذا التعبد الواحد هو التعبد بنفس الصدور دون غيره من الجهتين لما عرفت: من انه لا معنى للتعبد بالصدور الا الاخذ بحكم الخبر الصادر.

ص: 182

الصدور متمحضة في ترجيح الجهة لا يوجب كونها كذلك في غيرهما، ضرورة أنه لا معنى للتعبد بسند ما يتعين حمله على التقية، فكيف يقاس على ما لا تعبد فيه للقطع بصدوره (1)؟.

______________________________

و قد اشار الى ان الترجيح من غير جهة السند يرجع الى السند بقوله: «إلّا انها» أي إلّا ان المزايا الأخر التي هي من غير جهة السند «موجبة لتقديم احد السندين و ترجيحه و طرح الآخر». و اشار الى الوجه الاول بقوله: «فان اخبار العلاج دلت على» تعبد واحد و هو «تقديم رواية ذات مزية في احد اطرافها و نواحيها» على اختلافها من حيث كونها في نفس الصدور او في نفس المضمون او في جهة الصدور، و حيث لم تدل الا على تعبد واحد و هو تقديم الرواية الراجحة «فجميع هذه» المزايا من غير جهة السند تكون «من مرجحات السند حتى موافقة الخبر للتقية فانها ايضا مما توجب ترجيح احد السندين و حجته فعلا و طرح الآخر رأسا».

(1) يتضمن هذا بيان امرين: الاول دفع ما يمكن ان يتوهم كونه اشكالا في المقام.

الثاني الاشارة الى بعض لواحق الوجه الثاني المذكور: و هو لزوم رجوع الجهات كلها الى جهة السند، لانه لو لم ترجع اليه للزم التناقض.

و المقام الثاني بحث فيه عن انه هل هناك تقدم في الرتبة بالنسبة الى الجهات المذكورة.

اما الاشكال المتوهم في المقام فحاصله: انه لا ريب في الخبرين المتواترين المقطوعي السند ان الترجيح فيه من أي جهة من الجهات المذكورة لا يرجع الى الترجيح من حيث السند، لانه بعد فرض كون السند مقطوعا فلا يعقل ترجيح الآخر عليه من حيث نفس الصدور، فاذا جاز ان يكون الترجيح من غير جهة نفس الصدور في مقام غير راجع اليه و هو في مقطوعي السند جاز ايضا في المقام الآخر و هو في مظنوني الصدور.

ص: 183

ثم إنه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجحات لو قيل بالتعدي و إناطة الترجيح بالظن أو بالاقربية إلى الواقع، ضرورة أن قضية ذلك تقديم الخبر الذي ظن صدقه أو كان أقرب إلى الواقع منهما، و التخيير بينهما

______________________________

و الجواب عنه: ان المحذور المذكور- و هو لزوم التناقض- هو كون الترجيح من حيث التقية اذا لم يرجع الى التعبد من حيث السند لازمه التعبد بنفس الصدور و عدم التعبد به، و هذا انما يكون حيث يكون هناك تعبد بنفس الصدور و هو في الخبر المظنون الصدور، اما اذا لم يكن هناك تعبد بنفس الصدور فلا يكون هناك تعبد حتى يلزم التناقض من جعله و رفعه، و في مقطوعي الصدور لا تعبد بنفس الصدور لفرض كونه قطعيا، و لا معنى للتعبد مع القطع.

و قد اشار الى الاشكال بقوله: «و كونها في مقطوعي الصدور ... الى آخر الجملة» و اشار الى الجواب عنه و الى الوجه الثاني بقوله: «لا يوجب كونها كذلك في غيرها» أي ان الترجيح في مقطوعي الصدور- متمحضا في كونه مرجحا بنفسه من غير رجوعه الى نفس الصدور- لا يوجب عدم رجوعها في غير مقطوعي الصدور الى نفس الصدور، لان السبب في رجوعها الى نفس الصدور في غير مقطوعي الصدور هو التناقض «ضرورة انه لا معنى للتعبد بسند ما يتعين حمله على التقية» في مظنوني الصدور لاستلزامه التناقض كما عرفت بيانه، فان في مظنوني الصدور تعبدا بنفس الصدور، فيلزم مع عدم الرجوع التعبد به و عدم التعبد به «فكيف يقاس على ما لا تعبد فيه» بنفس الصدور، لوضوح عدم التعبد بالصدور في مقطوعي الصدور «للقطع بصدوره» فلا يستلزم التعبد من حيث جهة الصدور التناقض، لعدم التعبد في الصدور في فرض القطع بالصدور.

ص: 184

إذا تساويا، فلا وجه لإتعاب النفس في بيان أن أيّها يقدّم أو يؤخّر إلّا تعيين أن أيّها يكون فيه المناط في صورة مزاحمة بعضها مع الآخر (1).

______________________________

(1)

عدم مراعاة الترتيب بين المرجحات

هذا هو المقام الثاني و الكلام فيه من حيث ترتيب المرجحات و تأخر رتبة بعض المزايا عن بعض و عدمه. فهل تكون- مثلا- رتبة جهة الصدور متأخرة عن نفس الصدور؟ ام لا ترتيب بينها فلا تأخر لرتبة بعضها عن بعض؟ .. مثلا اذا كان احد الخبرين واجدا للترجيح من حيث نفس الصدور ككون راويه اعدل، و الخبر الآخر واجدا للترجيح من ناحية جهة الصدور ككونه مخالفا للعامة، او من ناحية قرب مضمونه الى الواقع ككونه موافقا للكتاب او للشهرة الفتوائية.

فهل يترجّح الخبر الذي راويه اعدل على خبر غير الاعدل، و ان كان خبر غير الاعدل مخالفا للعامة و خبر الاعدل موافقا لهم، للترتيب بين المرجحات و تأخر رتبة المخالفة عن الاعدلية.

ام يقع التزاحم بين المرجحين لعدم الترتيب بين المرجحات، و لا تأخر لرتبة بعضها عن بعض.

و لا بد لتوضيح ذلك من بيان امرين:

الاول: انه قد عرفت فيما تقدّم ان القائلين بالترجيح قد اختلفوا في التعدّي عن المزايا المنصوصة و عدم التعدّي عنها، و قد عرفت ايضا ان القائلين بالتعدّي اختلفوا في ان التعدّي هل يكون الى ما يوجب الاقربية النوعية؟ او انه الى ما يوجب الظن الشخصي بالصدق و بالموافقة الى الواقع؟

الثاني: ان القائلين بالتعدي قد اختلفوا- هنا- من حيث القول بالترتيب.

فذهب المحقق الرشتي صاحب البدائع وفاقا للآغا الوحيد (قدس سرهما) ان المرجح الجهتي مقدّم على سائر المرجحات.

و ذهب الشيخ الاعظم في رسائله الى تقديم المرجح المضموني على المرجح الصدوري، و تقديم المرجّح الصدوري على المرجّح الجهتي. و لا يخفى ان تقديم

ص: 185

.....

______________________________

المرجّح المضموني على المرجّح الصدوري و غيره لا يتعرّض له في هذا الفصل، و سيأتي التعرّض له في الفصل الآتي. و اما في هذا الفصل فالكلام مع الشيخ الاعظم في ترجيح المرجّح الصدوري على المرجح الجهتي فقط.

و القائلون بعدم التعدّي عن المزايا المنصوصة ذهب بعضهم الى لزوم الترتيب على حسب الترتيب المذكور في ادلّة المرجحات.

و ذهب المصنف الى عدم الترتيب، لا بناء على القول بالتعدّي عن المزايا المنصوصة، و لا بناء على القول بعدم التعدّي و لزوم الاقتصار على المزايا المنصوصة.

و قد اورد المصنف على القائلين بالتعدّي ايرادين: ثانيهما سيأتي بيانه في الجواب عمّا ذكره الشيخ الاعظم وجها لتقديم المرجّح الصدوري على المرجح الجهتي.

و اما الاول، فحاصله: ان القول بالتعدّي سواء كان هو التعدّي الى ما يوجب القرب الى الواقع نوعا، او كان ما يوجب الظن الشخصي بأن مؤدّى الخبر موافق للواقع، معناه ان الملاك للترجيح واحد. فمن يقول بالقرب النوعي يكون الملاك عنده هو القرب النوعي، و من يقول بالظن الشخصي يكون الملاك عنده هو الظن الشخصي.

و القول بالترتيب و ان أحد المرجحات مقدّم على غيره لازمه كون الملاك للترجيح متعددا، و كون ملاك المرجح السندي غير ملاك المرجح الجهتي، و ملاك المرجح المضموني غيرهما، ليكون احدها مقدما على الآخر، و الّا فلو كان الملاك واحدا فلا معنى للتقديم، بل المدار يكون على ذلك الملاك الواحد و المرجحات كلها تكون طريقا اليه. فاذا كان احد الخبرين- مثلا- راجحا من حيث السند، و الآخر راجحا من حيث جهة الصدور، فلا بد من ملاحظة ايّهما بالفعل موجب للقرب النوعي او ايهما موجب للظن الشخصي، و لا وجه لملاحظة نفس المرجحات من دون ملاحظة ذلك الملاك الواحد.

ص: 186

و أما لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة فله وجه لما يتراءى من ذكرها مرتبا في المقبولة و المرفوعة (1)، مع إمكان أن يقال: إن الظاهر

______________________________

فلا وجه لما ذهب اليه المحقق الرشتي من تقديم المرجح الجهتي على ساير المرجحات.

و مثله الحال فيما اذا كان احد الخبرين راجحا من حيث السند او راجحا من حيث جهة الصدور، و كان الخبر الآخر موافقا للكتاب او للشهرة الفتوائية، فانه لا بد من ملاحظة ذلك الملاك الواحد و ان ايّهما يوجب القرب النوعي او الظن الشخصي.

و لا وجه لاطلاق القول بتقديم المرجح المضموني على غيره كما ذهب اليه الشيخ الاعظم، لما عرفت من انه ليس هناك الّا ملاك واحد على القول بالتعدّي و المرجحات كلها طريق اليه. و لازم الترتيب في المرجحات ما عرفت من تعدد الملاك و كون ملاك المرجح السندي غير ملاك المرجح المضموني، و ملاك المرجح المضموني غير ملاك المرجح الجهتي. و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «انه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجحات ... الى آخر الجملة».

(1) لا يخفى ان الوجه في الترتيب بين المرجحات- بناء على عدم التعدّي عن المزايا المنصوصة- هو انه بناء على الاقتصار على المزايا المنصوصة لا يكون هناك ملاك واحد للترجيح و ان هذه المرجحات تكون طريقا اليه، بل يكون كل واحد من المرجحات له ملاك يخصّه، و حيث ان المرجحات قد ذكرت مترتبة في ادلّة الترجيح كالمقبولة، فلا بد من الالتزام بعدم مزاحمة المتأخّر منها للمتقدّم، مثلا لو كان احد الخبرين راويه اعدل و الخبر الآخر غير اعدل و لكن كان خبر غير الاعدل مشهور الرواية، فلا بد من تقديم خبر الاعدل و ان لم يكن مشهورا، لان الرواية ذكرت الترجيح بالاعدلية مقدّما على الترجيح بالشهرة الروائية، و هلمّ جرّا ...

و الى هذا اشار بقوله: «و اما لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة» و عدم التعدي عنها «فله وجه» أي لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة فللقول

ص: 187

كونهما كسائر أخبار الترجيح بصدد بيان أن هذا مرجح و ذاك مرجح، و لذا اقتصر في غير واحد منها على ذكر مرجح واحد، و إلا لزم تقييد جميعها على كثرتها بما في المقبولة، و هو بعيد جدا (1)، و عليه فمتى وجد

______________________________

بالترتيب في المرجحات وجه لعدم وحدة الملاك للترجيح، بل يكون كل واحد من المرجحات له ملاك يخصه و «ل» أجل «ما يتراءى من ذكرها» أي المرجحات «مرتبا في المقبولة و المرفوعة» فلا بد من مراعاة ذلك الترتيب المذكور فيها فلا يزاحم المتأخر ذكرا للمتقدم ذكرا.

(1)

ايراد المصنف (قده) على مراعاة الترتيب

اورد المصنف على مراعاة الترتيب- بناء على الاقتصار على المزايا المنصوصة- ايرادين ايضا: الاول: ما اشار اليه «مع امكان ... الى آخر الجملة» و حاصله: منع ظهور روايات الترجيح بعد ضم بعضها الى بعض في مراعاة الترتيب.

و يدل على ذلك انه اقتصر في بعض الروايات على مرجح واحد، و الاطلاق فيها يقتضي كون الترجيح بهذا المرجح الواحد ليس مراعى بغيره من المرجحات.

و المتحصل من ذلك: هو ظهور كون روايات الترجيح مسوقة لبيان نفس المرجحات، لا لبيانها و بيان الترتيب فيها، فلا يكون للترتيب المذكور في المقبولة و المرفوعة ظهور في لزوم مراعاته. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «مع امكان ان يقال ان الظاهر» من المقبولة و المرفوعة هو «كونهما كسائر اخبار الترجيح» انما هي «بصدد بيان» اصل الترجيح و «ان هذا مرجح و ذاك مرجح» لا بصدد بيان الترتيب ايضا. و اشار الى الوجه في كونها بصدد بيان اصل ذكر المرجح لا انها بصدد بيان المرجح و بيان الترتيب بقوله: «و لذا اقتصر في غير واحد منها على ذكر مرجح واحد».

الثاني: ما اشار اليه بقوله: «و إلّا ... الى آخر الجملة» و حاصله: ان روايات الترجيح لما كانت مختلفة في الترتيب حتى في المقبولة و المرفوعة، فان الترتيب في المقبولة غير الترتيب في المرفوعة، لورود الترجيح بالاعدلية مقدما على الشهرة في المقبولة،

ص: 188

في أحدهما مرجح و في الآخر آخر منها، كان المرجع هو إطلاقات التخيير، و لا كذلك على الاول بل لا بد من ملاحظة الترتيب، إلا إذا كانا في عرض واحد (1).

______________________________

و ورد الترجيح بالشهرة في المرفوعة مقدما على الاوثقية. و بناء على لزوم مراعاة الترتيب لا بد من تقييد روايات الترجيح بعضها ببعض حتى يكون المرجع في مراعاة الترتيب واحدا منها، و هي المقبولة لانها اتمها في المرجحات، مع ان تقييد بعضها ببعض بعيد جدا، لان من جملة روايات الترجيح ما هو آب عن التقييد، كمثل قوله عليه السّلام: ما خالف قول ربنا لم نقله، او زخرف و باطل، و مثل الرشد في خلافهم.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و إلّا لزم تقييد جميعها على كثرتها بما في المقبولة» لانها اتمها «و هو بعيد جدا» كما عرفت.

(1) هذا نتيجة بطلان مراعاة الترتيب بناء على الاقتصار على المرجحات المنصوصة، لانه لا بد من ظهور يدل على ذلك، و حيث ان الظاهر منها هو كونها بصدد بيان اصل المرجحات لا الترتيب بينها، فلا بد على هذا من مزاحمة أي مرجح للمرجح الآخر، و عليه فيزاحم الخبر الذي راويه غير أعدل للخبر الذي راويه اعدل اذا كان خبر غير الاعدل موافقا للكتاب او مخالفا للعامة دون خبر الاعدل، و يكون المرجع هو التخيير. بخلاف البناء على الترتيب فانه لا بد من تقديم خبر الاعدل و ان كان مخالفا للكتاب او موافقا للعامة، و لا رجوع الى التخيير. نعم لو كان الخبران متساويين من كل جهة من حيث المرجحات المنصوصة حينئذ يكون المرجع هو التخيير.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و عليه» أي و على ما عرفت من بطلان مراعاة الترتيب بناء على الاقتصار على المزايا المنصوصة «فمتى وجد في احدهما مرجح» من المرجحات كالاعدلية «و في الآخر» مرجح «آخر منها» كالموافقة للكتاب او المخالفة للعامة «كان المرجع هو اطلاقات التخيير» لوقوع المزاحمة بين المرجحين «و لا كذلك على الاول» أي لا يكون المرجع هو التخيير بناء على لزوم مراعاة

ص: 189

و انقدح بذلك أن حال المرجح الجهتي حال سائر المرجحات، في أنه لا بد في صورة مزاحمته مع بعضها من ملاحظة أن أيهما فعلا موجب للظن بصدق ذيه بمضمونه، أو الاقربية كذلك إلى الواقع، فيوجب ترجيحه و طرح الآخر، أو أنه لا مزية لاحدهما على الآخر، كما إذا كان الخبر الموافق للتقية بما له من المزية مساويا للخبر المخالف لها بحسب المناطين، فلا بد حينئذ من التخيير بين الخبرين، فلا وجه لتقديمه على غيره، كما عن الوحيد البهبهاني (قدس سره) و بالغ فيه بعض أعاظم المعاصرين أعلى اللّه درجته و لا لتقديم غيره عليه، كما يظهر من شيخنا العلامة أعلى اللّه مقامه (1) قال: أما لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح

______________________________

الترتيب بين المرجحات «لا بد من مراعاة الترتيب» فيقدم الخبر الذي راويه اعدل المخالف للكتاب أو الموافق للعامة على خبر غير الاعدل و ان كان موافقا للكتاب او مخالفا للعامة «إلّا اذا كانا في عرض واحد» بان كانا متساويين من كل جهة.

(1) لما فرغ من بيان بطلان مراعاة الترتيب بناء على الاقتصار على المزايا المنصوصة ... اشار الى بطلان المراعاة للترتيب بناء على التعدي.

و لا يخفى ان ظاهر مراده في وجه انقداح بطلان الترتيب- بناء على التعدي- هو ما ذكره في صدر عبارته و هو الايراد الاول على القول بالتعدي، و انه بعد ان كان الترتيب لا بد و ان يكون بملاكات متعددة و لازم التعدي هو وحدة الملاك، فينقدح منه بطلان القول بلزوم الترتيب، فلا وجه لترجيح المرجح الجهتي على غيره كما هو مذهب المحقق الرشتي وفاقا للآغا (قدس سرهما)، و لا وجه لترجيح المرجح المضموني على غيره كما هو مذهب الشيخ الاعظم.

و يحتمل ان يكون مراده من وجه الانقداح هو انه: و ان قلنا بامكان تعدد الملاك في المرجحات المذكورة، إلّا انه لا بد من دلالة روايات الترجيح على تقديم أي ملاك منها على الآخر، و حيث عرفت مما ذكرنا في بطلان القول بالترتيب- بناء على

ص: 190

من حيث جهة الصدور، بأن كان الارجح صدورا موافقا للعامة، فالظاهر تقديمه على غيره و إن كان مخالفا للعامة، بناء على تعليل

______________________________

الاقتصار- انه لا دلالة لروايات الترجيح على لزوم مراعاة الترتيب فلا يكفي صرف امكان تعدد الملاك. و على كل فلا وجه لما ذهب اليه المحقق الرشتي (قدس سره) و لا لما ذهب اليه الشيخ الاعظم.

و اشار الى بطلان ما ذهب اليه المحقق الرشتي من لزوم تقديم المرجح الجهتي على غيره من المرجحات بقوله: «و انقدح بذلك ان حال المرجح الجهتي حال سائر المرجحات» لا تقديم له على غيره. و قد ظهر مما ذكر المصنف (قدس سره): «في انه لا بد في صورة مزاحمته» أي مزاحمة المرجح الجهتي «مع بعضها» من المرجحات الآخر «من ملاحظة ان ايهما فعلا موجب للظن بصدق ذيه بمضمونة» بناء على الظن الشخصي «او» ان ايهما فعلا يقتضي «الاقربية كذلك» أي فعلا بناء على التعدي لما يوجب الاقربية النوعية «الى الواقع فيوجب» المرجح الموجب للظن الشخصي او الاقربية «ترجيحه» أي ترجيح الخبر الذي يكون مظنونا فعلا بمطابقة حكمه للواقع، او بكون مضمونه اقرب نوعا الى الواقع «و طرح الخبر الآخر».

و حيث لا يكون احد المرجحين موجبا لاحد الملاكين للتعدي فالتخيير، و لازم ذلك التساوي بين الخبرين. و الى هذا اشار بقوله: «او انه لا مزية لاحدهما على الآخر كما اذا كان الخبر الموافق للتقية بما له من المزية» ككون راويه اعدل «مساويا للخبر المخالف لها» أي للتقية «بحسب المناطين» للتعدي من الظن الشخصي او الاقربية النوعية «فلا بد حينئذ من التخيير بين الخبرين فلا وجه لتقديمه» أي فلا وجه لتقديم الخبر المخالف للعامة «على غيره كما عن الوحيد البهبهاني (قدس سره) و بالغ فيه بعض اعظام المعاصرين» و هو المحقق الرشتي «اعلى اللّه درجته و لا» وجه «لتقديم غيره» و هو المرجح الصدوري «عليه» أي على المرجح الجهتي «كما يظهر من شيخنا العلامة اعلى اللّه مقامه».

ص: 191

الترجيح بمخالفة العامة باحتمال التقية في الموافق، لان هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعا كما في المتواترين، أو تعبدا كما في الخبرين بعد عدم إمكان التعبد بصدور أحدهما و ترك التعبد بصدور الآخر، و فيما نحن فيه يمكن ذلك بمقتضى أدلة الترجيح من حيث الصدور (1).

______________________________

(1) حاصل ما يريده الشيخ (قدس سره) بكلامه هذا الى قوله ان قلت: هو انه لا يزاحم المرجح الجهتي المرجح للصدور، لان المرجح الجهتي لا مورد له في المقام، بل مورده مقطوعي الصدور كالخبرين المتواترتين او المتكافئين من حيث الصدور تعبدا، كالخبرين المتساويين من حيث عدالة الراوي. اما في المقام المفروض فيه كون احد الخبرين ارجح من حيث الصدور لان راويه اعدل، فلا مجال للترجيح بالجهة حتى يزاحم بها الترجيح من حيث نفس الصدور.

و الحاصل: ان الترجيح بالجهة انما هو في المتساويين من حيث الصدور، اما عقلا كمقطوعي الصدور، او تعبدا كالمتكافئين، لشمول ادلة الحجية لهما معا لفرض كونهما متساويين من حيث نفس الصدور كما لو كان رواة الخبرين متساويين في العدالة. اما في مقطوعي الصدور فلانه لا مجال للتعبد فيهما اصلا لان كل واحد منهما مقطوع صدوره. و اما في المتكافئين فلانه حيث كانا متساويين فلا محالة يتساويان من ناحية التعبد بالصدور، و لا يعقل في هذين المقامين التعبد بصدور احدهما دون الآخر.

اما في المتخالفين من حيث الصدور فيمكن التعبد بصدور احدهما دون الآخر، لفرض كون الراوي في احدهما اعدل و قد دل على الترجيح به ادلة الترجيح، فلا مجال للترجيح فيه بالجهة، بل لا بد من تقديم الخبر الذي هو ارجح صدورا، و عليه فلا بد من الاخذ بالخبر الذي راويه اعدل و ان كان موافقا للعامة، و طرح الخبر الذي راويه غير اعدل و ان كان مخالفا للعامة.

ص: 192

إن قلت: إن الاصل في الخبرين الصدور، فإذا تعبدنا بصدورهما اقتضى ذلك الحكم بصدور الموافق تقية، كما يقتضي ذلك الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما، فيكون هذا المرجح نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدما على الترجيح بحسب الصدور (1).

______________________________

(1) حاصل ما اورده الشيخ (قدس سره) على نفسه- بقوله: ان قلت- هو ان دليل التعبد يشمل الخبرين غير المتكافئين من حيث نفس الصدور، لفرض كون خبر غير الاعدل واجدا لشرط الحجية للتعبد بالخبر الواحد، فان ادلة الحجية لخبر الواحد هو صدق العادل، و المفروض ان خبر غير الاعدل هو خبر عادل و ان كان الراوي للخبر الآخر اعدل منه، فاذا تساوى الخبران في الحجية من حيث نفس الصدور فلا بد حينئذ من الترجيح بالجهة و تقديم الخبر المخالف للعامة على الخبر الموافق لهم و ان كان راويه اعدل.

و الحاصل: انه بعد شمول ادلة الحجية لهما فكل واحد منهما متعبد بصدوره، لدلالة ادلة الحجية على التعبد بصدور كل منهما، و بعد دلالة ادلة الحجية على التعبد بصدور كل واحد منهما لا بد من ترجيح الخبر المخالف للعامة، لكشفه ان الحكم في الخبر الموافق للعامة قد صدر للتقية لا لبيان الواقع، فيكون الخبر الموافق للعامة اضعف من حيث مطابقة حكمه للواقع من الخبر المخالف لهم من هذه الجهة، و ان كان الخبر الموافق راويه اعدل.

و الحاصل: ان حال التقديم من حيث الجهة في المتخالفين و في المتكافئين على حد سواء بعد شمول ادلة الحجية لهما، و هو كحال التقديم من حيث الدلالة، فان خبر الاعدل لو كان ظاهرا و كان خبر غير الاعدل نصا لا بد من تقديم خبر غير الاعدل على خبر الاعدل فيما كان نصا فيه. و لا اشكال في شمول دليل الحجية للتعبد بكل منهما، فيكون حال الترجيح بالجهة كحال تقديم النص على الظاهر يقتضي تقديم الخبر المخالف للعامة مع كون راويه غير أعدل على الخبر الموافق للعامة و ان كان

ص: 193

قلت: لا معنى للتعبد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعين على التقية، لانه إلغاء لاحدهما في الحقيقة. و قال بعد جملة من الكلام: فمورد هذا الترجيح تساوي الخبرين من حيث الصدور، إما علما كما في المتواترين، أو تعبدا كما في المتكافئين من الاخبار، و أما ما وجب فيه التعبد بصدور أحدهما المعين دون الآخر فلا وجه لاعمال هذا المرجح فيه، لان جهة الصدور متفرعة على أصل الصدور، انتهى موضع الحاجة من كلامه، زيد في علو مقامه (1).

______________________________

راويه اعدل، كما يقتضي تقديم النص الذي راويه غير أعدل على الظاهر الذي راويه اعدل.

(1) توضيحه: انه لا معنى للتعبد بالصدور في المقام، بخلافه في مورد الجمع الدلالي فان مورد الجمع الدلالي هو العموم من مطلق و الخاص، او العامين من وجه فيما كان احدهما نصا في مورد الاجتماع، فانه لا مانع من التعبد بصدور كل منهما. اما في المقام و هو مورد المتباينين فلا معنى للتعبد بصدور كل منهما مع ترجيح احدهما المستلزم لطرح الآخر للتناقض كما مر بيانه في المقام الاول، فلا بد في مورد المتباينين من التعبد بصدور احدهما في مقام الترجيح تعيينا او احدهما تخييرا.

و الى هذا اشار بقوله: «لا معنى للتعبد بصدورهما مع وجوب حمل احدهما المعين على التقية ... الى آخر الجملة».

و اما وجه ترجيح المرجح الصدوري على الجهتي فلان الجهة من شئون الخبر الصادر، لوضوح انه بعد فرض الصدور في كل منهما- اما للقطع بصدورهما او لكونهما متساويين من حيث نفس الصدور تعبدا- يكون مجال للترجيح بالجهة و حمل الخبر الصادر على كونه صادرا للتقية لا لبيان الواقع. اما مع فرض التعبد بصدور خبر الاعدل فلا يكون مجال للترجيح بالجهة في خبر غير الاعدل، لعدم التعبد بصدور خبر غير الاعدل حتى يكون مجال للترجيح فيه من حيث الجهة.

ص: 194

و فيه مضافا إلى ما عرفت أن حديث فرعية جهة الصدور على أصله إنما يفيد إذا لم يكن المرجح الجهتي من مرجحات أصل الصدور، بل من مرجحاتها، و أما إذا كان من مرجحاته بأحد المناطين، فأي فرق بينه و بين سائر المرجحات؟ و لم يقم دليل بعد في الخبرين المتعارضين على وجوب التعبد بصدور الراجح منهما من حيث غير الجهة، مع كون الآخر راجحا بحسبها، بل هو أول الكلام، كما لا يخفى (1)، فلا محيص

______________________________

و بعبارة اخرى: ان المرجح من حيث نفس الصدور حاكم على المرجح الجهتي، فان التعبد بخبر الاعدل معناه البناء على كونه هو الصادر دون خبر غير الاعدل، فالتعبد بالصدور رافع للموضوع بالنسبة الى المرجح الجهتي، لانه بعد البناء تعبدا على كون الصادر هو خبر الاعدل لا يكون خبر غير الاعدل متعبدا به حتى يكون مجال للترجيح بحيثية الجهة فيه، و لذلك كان الترجيح بالجهة مورده مقطوعي الصدور و المتكافئين من حيث التعبد بالصدور.

و قد اشار الى ما ذكرنا- بعد ان جعل مورد الترجيح بالجهة هو المتساويين صدورا اما علما كما في المتواترين، او تعبدا كما في المتكافئين من حيث نفس الصدور- بقوله (قدس سره): «و اما ما وجب فيه التعبد بصدور احدهما المعين» لفرض كون راويه اعدل «دون الآخر» لفرض كون راويه غير الاعدل «فلا وجه لاعمال هذا المرجح فيه» و هو المرجح الجهتي «لان جهة الصدور متفرعة على اصل الصدور».

(1)

ايراد المصنف (قده) على الشيخ الاعظم (قده)

و قد اورد عليه المصنف بايرادين: الاول: ان التقديم للمرجح الصدوري على المرجح الجهتي انما هو حيث يكون ملاك الترجيح متعددا اما بناء على التعدي كما يراه الشيخ (قدس سره) فالمرجح واحد و لا تعدد في ملاك الترجيح حتى يكون ملاك المرجح الصدوري مقدما على المرجح الجهتي، بل المدار على ملاحظة كون أي الخبرين موجبا للاقربية النوعية كما هي ملاك التعدي عنده (قدس سره)، او ان ايهما موجب للظن الشخصي كما هو ملاك التعدي عند غيره.

ص: 195

.....

______________________________

و الى هذا الايراد اشار بقوله: «و فيه مضافا الى ما عرفت».

الثاني: ما اشار اليه بقوله: «ان حديث فرعية جهة الصدور ... الى آخر الجملة».

و توضيحه: هو ان الوحدة في المرجحات لا من ناحية ملاك التعدّي، بل لاجل ما مرّ تحقيقه في المقام الاول- من رجوع جميع المرجحات الى المرجح الصدوري- لانه بعد فرض كون المقام من باب ترجيح احدى الحجتين على الحجية الاخرى فلا بد من شمول ادلة الحجية لكل من الخبرين. و حيث عرفت مما مرّ انه لا معنى للتعبّد بالصدور الّا ترتيب الاثر على الخبر الصادر و الاخذ بما ادّى اليه من الحكم، فلا بد من رجوع جميع المرجحات.

و ما ذكره الشيخ (قدس سره) من الفرعية و الحكومة انما هو حيث لا يرجع المرجح الجهتي الى المرجّح الصدوري. اما اذا رجع اليه فلا حكومة و لا فرعية، بل تكون المزاحمة بين نفس الصدور في الخبرين و ان اختلفت المزيات المرجّحة، فمزية الاعدلية مرجحة لصدور الخبر الذي راويه اعدل، و مزيّة مخالفة العامة ايضا مرجّحة لصدور الخبر المخالف للعامة، فالمزاحمة تقع على كل حال في نفس الصدور.

نعم لو لم ترجع المرجحات كلها الى المرجح من حيث نفس الصدور لكان لما ذكره الشيخ (قدس سره) مجال.

و الحاصل: انه بناء على التعدّي و ان كان الملاك واحدا، الّا ان طريق هذا الملاك سواء كان هو الاقربية النوعية أو الظن الشخصي هو الاقوى صدورا، لرجوع جميع المرجحات اليه، فان كان لاحد الخبرين مزية تزيد على الآخر مع تساويهما في المزايا الباقية فذو المزية هو الراجح من حيث الصدور على الخبر الآخر، و هو الذي يكون اقرب الى الواقع نوعا او موجبا للظن الشخصي بمطابقة مؤدّاه للواقع. و ان تساويا من ناحية المزايا فالتخيير.

ص: 196

.....

______________________________

نعم لو دلّ دليل لفظي كاخبار العلاج- مثلا- على كون احدى المزايا اقوى مرجحا للصدور من بقية المزايا للزم تقديم الواجد لتلك المزية، و ليس لنا دليل آخر غير اخبار العلاج يدل على ذلك.

و اما اخبار العلاج فدلالتها على الترتيب و كون بعض المزايا اقوى من البعض الآخر اول الكلام، بل قد عرفت عدم دلالتها على ذلك، و ان الظاهر فيها سوقها لاصل بيان المرجحات لا للترتيب بينها و كون بعضها اقوى من بعض.

فظهر مما ذكرنا: انه حيث لا يكون احد المرجحات موجبا لقوة احد المناطين من الاقربية أو الظن الشخصي، فلا بد من وقوع التزاحم بين المرجحات و يكون المرجّح لنفس الصدور في احد الخبرين مزاحما بمرجّح جهة الصدور في الخبر الآخر، و مع تزاحمها و عدم معلوميّة الاقوى منهما لا بد من الرجوع الى التخيير بينهما.

و قد اشار الى ان حديث الفرعية انما ينفع حيث لا ترجع المرجحات كلها الى المرجح الصدوري بقوله: «ان حديث فرعية جهة الصدور على أصله انما يفيد ...

الى آخر الجملة». و اشار الى ان المرجحات المذكورة- مع رجوعها الى المرجح من حيث الصدور- كلها طريق الى ما هو المناط للتعدي من الاقربية او الظن الشخصي بقوله: «و اما اذا كان» المرجح الجهتي «من مرجحاته» أي من مرجحات نفس الصدور «باحد المناطين» من الاقربية او الظن الشخصي. و اشار الى انه بعد رجوع المرجحات الى المرجح الصدوري لا فرق بين مرجح و مرجّح بقوله: «فاي فرق بينه» أي بين مرجح اصل الصدور «و بين سائر المرجحات». و اشار الى عدم قيام دليل آخر لفظي على كون احد المرجحات اقوى من الاخرى بقوله: «و لم يقم دليل بعد في الخبرين المتعارضين على وجوب التعبّد بصدور الراجح منهما من حيث غير الجهة مع كون الآخر راجحا بحسبها» أي لم يقم دليل في الخبرين المتعارضين على ترجيح المرجح من حيث نفس الصدور- و هو المعنى بقوله من حيث غير الجهة- على المرجّح من حيث جهة الصدور- و هو المراد بقوله مع كون الآخر راجحا بحسبها أي

ص: 197

من ملاحظة الراجح من المرجحين بحسب أحد المناطين، أو من دلالة أخبار العلاج، على الترجيح بينهما مع المزاحمة (1)، و مع عدم الدلالة و لو لعدم التعرض لهذه الصورة فالمحكم هو إطلاق التخيير، فلا تغفل (2).

______________________________

بحسب جهة الصدور- «بل هو اول الكلام كما لا يخفى» لما عرفت من سوق اخبار العلاج لبيان اصل المرجح لا للترتيب بينها، و ليس هناك دليل آخر لفظي يدل على مراعاة الترتيب من تقديم المرجح لاصل الصدور على المرجح الجهتي كما يدعيه الشيخ الاجل (قدس سره).

(1) هذا نتيجة ما مرّ، فيه ردّ على مذهب الشيخ: من تقديم المرجح لنفس الصدور على مرجح جهة الصدور.

و حاصله: انه قد عرفت من مجموع ما مرّ ان الترجيح- بناء على التعدي- انما هو بملاحظة ما يقتضي قوة احد المناطين في احد المتعارضين بالنسبة الى الآخر من الاقربية النوعية او ما يوجب الظن الشخصي. و بناء على الاقتصار على المزايا المنصوصة- بناء على دلالة اخبار العلاج على الترتيب في المزايا- هو تقديم الاول فالاول بحسب ما ذكرت في المقبولة.

و قد ظهر مما ذكرنا: انه لا دلالة على تقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي بناء على التعدّي الذي هو مذهب الشيخ. و بناء على الاقتصار على المزايا المنصوصة فالمرجح الصدوري و ان كان مقدما بحسب الترتيب، الّا انه مقدّم على ساير المرجحات و لا خصوصية لتقديمه على خصوص المرجح الجهتي.

(2) عدم الدلالة اما لما مرّ بيانه من عدم دلالة اخبار العلاج على انها مسوقة للترتيب و انما هي مسوقة لبيان اصل المرجح، او فيما اذا كان التزاحم في صورة لم تفرض في المقبولة و هو كون احدى الروايتين- مثلا- موافقة للكتاب و الاخرى مخالفة للعامة، ففي مثل هذه او بناء على عدم الدلالة كما مرّ تحقيقه فلا بد من الرجوع الى التخيير.

و لا وجه لما ذكره من لزوم تقديم الخبر الموافق للكتاب على غيره حيث يرى تقديم

ص: 198

و قد أورد بعض أعاظم تلاميذه عليه بانتقاضه بالمتكافئين من حيث الصدور، فإنه لو لم يعقل التعبد بصدور المتخالفين من حيث الصدور، مع حمل أحدهما على التقية، لم يعقل التعبد بصدورهما مع حمل أحدهما عليها، لانه إلغاء لاحدهما أيضا في الحقيقة (1).

______________________________

المرجح المضموني على غيره من المرجحات. و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «و مع عدم الدلالة» و ذلك بناء على ما مر تحقيقه من عدم دلالة اخبار العلاج على الترتيب، و عدم اقتضاء ملاك الاقربية او الظن الشخصي للترتيب ايضا. و اشار الى صورة التزاحم التي لم تذكر في المقبولة بقوله: «و لو لعدم التعرض لهذه الصورة ... الى آخر الجملة».

(1) لا يخفى ان بعض الاعظام هو المحقق الرشتي صاحب البدائع (قدس سره)، و هو حيث ذهب وفاقا للوحيد (قدس سره) الى تقديم المرجح الجهتي على ساير المرجحات ... اورد على استاذه الشيخ الاعظم (قدس سره) حيث ذهب الى تقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي.

و حاصل ايراده عليه: هو ان المتحصل من كلام الشيخ (قدس سره) عدم معقولية تقديم المرجح الجهتي على المرجح الصدوري في غير المتكافئين من حيث الصدور، لفرعية المرجح الجهتي على المرجح الصدوري، لانه مع التعبد بالمرجح الصدوري لا يبقى مجال للتعبد بالمرجح الجهتي لحكومته عليه، و هذا الكلام يجري بعينه في المتكافئين فانه في المتكافئين من حيث الصدور كما فيما اذا كان الراوي في كليهما اعدل او متساويين في العدالة فانه لا اشكال في شمول ادلة التعبد بحجية الخبر لهما، و مع ذلك يلزم من الترجيح بالمرجح الجهتي طرح التعبد بالصدور. فاذا كان مع التعبد بالصدور في غير المتكافئين من حيث نفس الصدور لا يعقل الترجيح بالجهة، ففي المتكافئين من حيث نفس الصدور- ايضا- يلزم ذلك من عدم معقولية الترجيح بالجهة مع التعبد بالصدور.

ص: 199

و فيه ما لا يخفى من الغفلة، و حسبان أنه التزم (قدس سره) في مورد الترجيح بحسب الجهة باعتبار تساويهما من حيث الصدور، إما للعلم بصدورهما، و إما للتعبد به فعلا، مع بداهة أن غرضه من التساوي من حيث الصدور تعبدا تساويهما بحسب دليل التعبد بالصدور قطعا، ضرورة أن دليل حجية الخبر لا يقتضي التعبد فعلا بالمتعارضين، بل و لا بأحدهما، و قضية دليل العلاج ليس إلا التعبد بأحدهما تخييرا أو ترجيحا. و العجب كل العجب أنه رحمه اللّه لم يكتف بما أورده من النقض، حتى ادعى استحالة تقديم الترجيح بغير هذا المرجح على الترجيح به (1)، و برهن عليه بما حاصله امتناع التعبد بصدور الموافق،

______________________________

و الحاصل: ان الشيخ صرح بان مورد الترجيح بالجهة هو مقطوعي الصدور و المتكافئين من حيث الصدور، و ما ذكره مانعا من الترجيح بالجهة في غير المتكافئين يجري حرفا بحرف في المتكافئين من حيث الصدور، و ان كان لا يجري في المقطوعين و ذلك لعدم التعبد في مقطوعي الصدور، بخلاف المتكافئين فانه لا اشكال في كونهما مورد التعبد بالصدور كما صرح به الشيخ الاعظم (قدس سره).

و الى ما ذكرنا اشار المحقق الرشتي (قدس سره) بقوله: «فانه لو لم يعقل التعبد بصدور المتخالفين من حيث الصدور» و ذلك فيما كان راوي احد الخبرين اعدل «مع حمل احدهما» و هو خبر الاعدل على التقية كذلك «لم يعقل التعبد بصدورهما» أي بصدور المتكافئين «مع حمل احدهما عليها» أي على التقية «لانه الغاء لاحدهما ايضا» من حيث التعبد بنفس الصدور «في الحقيقة».

(1) حاصله: انه انما يصح النقض على الشيخ بالمتكافئين حيث يقول بالتعبد الفعلي فيهما، اما اذا كان مراده التعبد الشأني فيهما لتساويهما بالنسبة الى ما هو شرط التعبد بنفس الصدور فلا يكون كلامه في المتخالفين منقوضا بالمتكافئين.

ص: 200

.....

______________________________

و الحاصل: انه في المتكافئين لا يقول بجعل التعبد فعلا فيهما حتى ينقض عليه، بانه مع الاخذ بالمرجح الجهتي يلزم الغاء التعبد الفعلي بالصدور في المتكافئين. و اما القول بالتعبد الشأني في المتكافئين فلا مانع منه، لانه لا تعبد بالفعل فيهما حتى يلزم من الاخذ بالمرجح الجهتي الغاء للتعبد بنفس الصدور.

و بعبارة اخرى: المتحصل من كلام الشيخ (قدس سره) ان الاقتضاء للحجية في المتكافئين بالنسبة اليهما على حد سواء، و حينئذ يكون مجال للترجيح بالجهة فيؤثر المقتضي فيما فيه المرجح الجهتي و يكون هو المتعبد به بالفعل، و اما في المتخالفين فحيث ان الاقتضاء فيهما ليس على حد سواء، بل هو في خبر الاعدل اقوى فيكون هو المؤثر، و مع تأثير المقتضي للتعبد فعلا في واجد المرجح الصدوري لا مجال للتعبد الفعلي في فاقده، و حيث لا تعبد فيه فلا مجال للترجيح بالجهة لانها فرع التعبد بنفس الصدور.

اما البرهان على كون مراد الشيخ ليس هو التعبد الفعلي في المتكافئين، فلان فرض الكلام في المتعارضين، و قد عرفت فيما مر ان ادلة الحجية في المتعارضين لا تقتضي الحجية الفعلية بصدور كل واحد من المتعارضين، بل غايته هو تساوي الخبرين من حيث الاقتضاء بالصدور، اما فعلية صدورهما او فعلية صدور احدهما دون الآخر فلا دلالة لدليل حجية الخبر عليه. هذا بالنسبة الى اصل دليل حجية الخبر. و اما بالنسبة الى دليل العلاج فهي انما تدل على ان الحجية بالفعل هو الراجح معينا او احدهما مخيرا، و لا يدل على حجيتهما بالفعل معا.

فظهر مما ذكرنا: انه لا بد و ان يكون مراد الشيخ من تساوي المتكافئين تعبدا هو تساويهما من حيث الاقتضاء و الشأنية للحجية لا فعلية الحجية.

و قد اشار الى ان النقض انما يرد على الشيخ حيث يقول بالحجية الفعلية في المتكافئين لا بالشأنية بقوله: «و فيه ما لا يخفى من الغفلة و حسبان انه» أي الشيخ «التزم (قدس سره) في مورد الترجيح بحسب الجهة باعتبار تساويهما من حيث

ص: 201

لدوران أمره بين عدم صدوره من أصله، و بين صدوره تقية، و لا يعقل التعبد به على التقديرين بداهة، كما أنه لا يعقل التعبد بالقطعي الصدور الموافق (1)، بل الامر في الظني الصدور أهون، لاحتمال عدم صدوره،

______________________________

الصدور اما للعلم بصدورهما» كما في مقطوعي الصدور «و اما للتعبد به» أي بالصدور «فعلا» كما في المتكافئين «مع بداهة» ان الشيخ لم يلتزم بالتعبد فعلا في المتكافئين، بل «ان غرضه» (قدس سره) «من التساوي من حيث الصدور تعبدا هو تساويهما بحسب دليل التعبد بالصدور قطعا» من حيث جهة الاقتضاء للتعبد لا فعلية التعبد.

و اشار الى البرهان على ان غرض الشيخ من التساوي هو التساوي في مرحلة الاقتضاء دون الفعلية بقوله: «ضرورة ان دليل حجية الخبر» بالنسبة الى المتعارضين «لا يقتضي التعبد فعلا» بالمتعارضين معا «بل و لا» يقتضي دليل حجية الخبر بالنسبة الى المتعارضين التعبد فعلا «باحدهما» كما مر بيانه.

«و» اما بالنسبة الى ادلة العلاج فان «قضية دليل العلاج ليست» هي حجية التعبد بكلا المتعارضين فعلا، بل لا تقتضي ادلة العلاج «الا التعبد» فعلا «باحدهما» اما «تخييرا او ترجيحا» فحيث لا يكون هناك دليل على التعبد فعلا بالمتعارضين لا من جهة دليل اصل حجية الخبر و لا من حيث ادلة العلاج، لا يمكن ان يكون غرض الشيخ من التساوي في المتكافئين تعبدا هو التساوي بينهما في التعبد الفعلي، بل لا محالة يكون غرضه من التساوي بينهما تعبدا هو التساوي في مرحلة الاقتضاء و الشأنية.

(1)

برهانان للمحقق الرشتي (قده) على لزوم تقديم المرجح الجهتي على المرجح الصدوري

ان المحقق الرشتي (قدس سره) بعد ان اورد على الشيخ (قدس سره) بالنقض بالمتكافئين .. برهن على لزوم تقديم المرجح الجهتي على المرجح الصدوري ببرهانين:

الاول: انه حيث يكون الارجح صدورا موافقا للعامة و يكون معارضه المرجوح صدورا مخالفا للعامة، كما لو كان خبر الاعدل موافقا للعامة و خبر العادل مخالفا

ص: 202

بخلافه (1). ثم قال: فاحتمال تقديم المرجحات السندية على مخالفة العامة، مع نص الامام عليه السّلام على طرح موافقهم، من العجائب و الغرائب التي لم يعهد صدورها من ذي مسكة، فضلا عمن هو تالي العصمة علما و عملا. ثم قال: و ليت شعري، إن هذه الغفلة الواضحة

______________________________

لهم، فانه يستحيل التعبد بخبر الاعدل مع معارضته بما يخالف العامة، لوضوح انه لا اشكال في ان الخبر المخالف للعامة لم يصدر للتقية بل كان لبيان الواقع، و لازم ذلك كون الخبر الموافق لهم اما غير صادر اصلا أو كان صادرا لا لبيان الواقع، و مع العلم الاجمالي بان خبر الاعدل اما غير صادر أو صادر لا لبيان الواقع يمتنع التعبد بصدوره، للعلم بان مؤداه غير مطابق للواقع اما لعدم صدوره اصلا او لصدوره لبيان غير الواقع. و الى هذا اشار بقوله: «لدوران امره» أي لدوران امر خبر الاعدل الموافق للعامة «بين عدم صدوره من أصله و بين صدوره تقية» لا لبيان الواقع «و لا يعقل التعبد به على التقديرين بداهة» للعلم الاجمالي بعدم مطابقته للواقع، اما لعدم صدوره من رأس او لصدوره لا لبيان الواقع.

ثم اشار الى ان لزوم تقديم الخبر المخالف في مقطوعي الصدور- كما اعترف به الشيخ نفسه- انما هو للكشف عن ان صدور الموافق كان للتقية لا لبيان الواقع بقوله:

«كما انه لا يعقل التعبد بالقطعي الصدور الموافق» للعامة مع معارضته بالقطعي الصدور المخالف لهم.

(1) لا يخفى انه انما كان الامر في ظني الصدور اهون من قطعي الصدور بملاحظة ان الخبر الموافق المقطوع الصدور يتمحض تقديم الخبر المخالف المقطوع الصدور عليه في جهة الصدور لكشفه عن كون مقطوع الصدور الموافق للعامة قد صدر لا لبيان الواقع بل للتقية. و اما في مظنوني الصدور فلا يتمحض التقديم للخبر المخالف على الموافق في الجهة، لاحتمال كون الخبر الموافق المظنون الصدور لم يكن صادرا اصلا، فيكون تقديم الخبر المخالف لانه هو الصادر لا لاجل محض صدوره لبيان الواقع.

ص: 203

كيف صدرت منه؟ مع أنه في جودة النظر يأتي بما يقرب من شق القمر (1).

______________________________

(1) هذا هو البرهان الثاني. و حاصله: ان الامام عليه السّلام نص على تقديم المرجح الجهتي على المرجح الصدوري، فانه امر بتقديم المخالف على الموافق مع فرض كون الموافق واجدا للمزية من حيث نفس الصدور، و مع نص الامام عليه السّلام بتقديم المرجح الجهتي على المرجح الصدوري لا وجه لاحتمال تقديم المرجحات السندية على المرجح الجهتي. و لذا قال (قدس سره): «فاحتمال تقديم المرجحات السندية على مخالفة العامة» الذي هو المرجح الجهتي «مع نص الامام عليه السّلام على طرح موافقتهم» مع فرض كونه واجدا للمزية من حيث نفس الصدور «من العجائب ... الى آخر الجملة».

و لا يخفى ان المصنف لم يتعرض لرد هذا البرهان الثاني، فلا بد من التعرض لرده.

و حاصله: ان كون الامام عليه السّلام قد نص على تقديم المرجح الجهتي على المرجح الصدوري لا يخلو عن مغالطة، فان محل الكلام هو ان يكون احد الخبرين واجدا للمرجح السندي، و يكون الآخر فاقدا له و لكنه كان واجدا للمرجح الجهتي، و ان نص الامام عليه السّلام على تقديم المرجح الجهتي انما هو حيث يكون كلا الخبرين واجدين للمزية المرجحة من حيث السند، و الفرق بين المقامين واضح، فان الخبرين اذا كانا متساويين من حيث السند حينئذ يترجح الواجد للمرجح الجهتي على الخبر الفاقد لهذا المرجح، فان الخبر الموافق الواجد للمزية من حيث السند حيث كان الخبر الآخر المخالف ايضا واجدا لتلك المزية المرجحة من حيث السند لذلك تقدم المرجح الجهتي، اما اذا لم يتساويا من حيث السند فلا نص يدل على تقديم الخبر المخالف على الموافق.

ص: 204

و أنت خبير بوضوح فساد برهانه، ضرورة عدم دوران أمر الموافق بين الصدور تقية و عدم الصدور رأسا، لاحتمال صدوره لبيان حكم اللّه واقعا، و عدم صدور المخالف المعارض له أصلا، و لا يكاد يحتاج في التعبد إلى أزيد من احتمال صدور الخبر لبيان ذلك بداهة (1)، و إنما دار

______________________________

فظهر مما قلنا: انه لا «نص من الامام عليه السّلام» على تقديم المرجح الجهتي على المرجح السندي حيث يدور الامر بينهما كما هو مفروض الكلام في المقام.

(1) حاصله منع ما ذكره من العلم الاجمالي بتردد الخبر الموافق بين عدم الصدور و صدوره للتقية لا لبيان الواقع، لبداهة عدم العلم الاجمالي المدعى، لاحتمال صدور الخبر الموافق لبيان الواقع و عدم صدور الخبر المخالف، فلا علم اجمالي اما بعدم صدور الخبر الموافق او بصدوره للتقية حتى يستحيل التعبد به.

و الحاصل: ان الخبرين المظنونين عند تعارضهما و كان احدهما موافقا للعامة و الآخر مخالفا لهم .. فان الاحتمالات في الخبر الموافق ثلاثة: عدم صدوره، و صدوره للتقية، و صدوره لبيان الواقع. و في الخبر المخالف احتمالان: عدم صدوره، و صدوره لبيان الواقع، لوضوح عدم احتمال صدوره للتقية لفرض كونه مخالفا للعامة. و حيث يحتمل عدم صدور الخبر المخالف فلا بد من ان يكون الخبر الموافق مما يحتمل صدوره لبيان الواقع. و مجرد كون الخبر محتمل الصدور لبيان الواقع موجب لدخوله تحت عموم ادلة الحجية للخبر. فظهر انه لا استحالة في التعبد به.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «ضرورة عدم دوران أمر» الخبر «الموافق بين الصدور تقية و عدم الصدور رأسا» حتى يستحيل التعبد به و يكون خارجا عن ادلة الحجية للخبر «لاحتمال صدوره» أي لاحتمال صدور الموافق «لبيان حكم اللّه واقعا» ايضا، فالمحتملات في الخبر الموافق ثلاثة لا اثنان كما توهمها. و اشار الى ان السبب لهذا الاحتمال الثالث في الخبر الموافق هو ان من المحتمل في الخبر المخالف عدم الصدور ايضا بقوله: «و عدم صدور المخالف المعارض له اصلا». و اشار الى

ص: 205

احتمال الموافق بين الاثنين إذا كان المخالف قطعيا صدورا و جهة و دلالة، ضرورة دوران معارضه حينئذ بين عدم صدوره و صدوره تقية (1)، و في غير هذه الصورة كان دوران أمره بين الثلاثة لا محالة، لاحتمال صدوره لبيان الحكم الواقعي حينئذ أيضا.

و منه قد انقدح إمكان التعبد بصدور الموافق القطعي لبيان الحكم الواقعي أيضا، و إنما لم يكن التعبد بصدوره لذلك إذا كان معارضه المخالف قطعيا بحسب السند و الدلالة، لتعيين حمله على التقية حينئذ لا محالة، و لعمري إن ما ذكرنا أوضح من أن يخفى على مثله، إلا أن الخطأ و النسيان كالطبيعة الثانية للانسان، عصمنا اللّه من زلل الاقدام

______________________________

ان محض احتمال الصدور لبيان الواقع كاف في دخول الخبر في ادلة الحجية بقوله:

«و لا يكاد يحتاج في التعبد» بالخبر و شمول ادلة الحجية له «الى ازيد من احتمال صدور الخبر لبيان ذلك بداهة». المشار اليه بقوله: «ذلك» هو الواقع: أي لبيان الواقع.

(1) حاصله: ان مورد العلم الاجمالي في الخبر الموافق- بانه اما صادر للتقية او غير صادر اصلا- مثاله غير المفروض في محل الكلام، و هو كون الخبرين مظنوني الصدور، بل هو فيما اذا كان الخبر المخالف مقطوع الصدور، و مقطوع الدلالة، و مقطوع الجهة .. فانه حينئذ يكون الخبر الموافق دائرا أمره بين عدم الصدور او الصدور للتقية، لوضوح ان الخبر المخالف اذا كان مقطوعا صدوره و مقطوعا دلالته و مقطوعا صدوره لبيان الواقع، فلا محالة يكون الخبر الموافق دائرا امره بين عدم الصدور او الصدور للتقية.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و انما دار احتمال الموافق بين الاثنين» أي بين عدم الصدور او الصدور للتقية هو فيما «اذا كان» الخبر «المخالف قطعيا صدورا و جهة و دلالة ... الى آخر الجملة».

ص: 206

و الاقلام في كل ورطة و مقام (1). ثم إن هذا كله إنما هو بملاحظة أن هذا المرجح مرجح من حيث الجهة، و أما بما هو موجب لاقوائية دلالة ذيه

______________________________

(1) توضيحه: انه قد ظهر من ان انحصار العلم الاجمالي- بكون الخبر الموافق دائرا امره بين عدم الصدور او الصدور للتقية في خصوص ما اذا كان الخبر المخالف مقطوعا به من حيث جهاته الثلاث: صدوره، و دلالته، و جهته- امور اربعة:

الاول: عدم العلم الاجمالي في مفروض المقام من كون الخبرين مظنوني الصدور، كما عرفت من ان الامر في الخبر الموافق يدور بين الاحتمالات الثلاثة عدم الصدور و الصدور للتقية، و الصدور لبيان الواقع. و الى هذا اشار بقوله: «و في غير هذه الصورة كان دوران امره بين الثلاثة ... الى آخر الجملة».

الثاني: ان الخبر الموافق المقطوع الصدور المعارض بالخبر المخالف المظنون الصدور لا يتعين صدور الموافق للتقية، بل يحتمل كون صدوره لبيان الواقع لاحتمال عدم صدور الخبر المخالف من رأس.

الثالث: ان الخبرين المقطوعي الصدور غير المقطوعي من حيث الدلالة من المحتمل في الخبر الموافق صدوره لبيان الواقع، لاحتمال كون الخبر المخالف المقطوع الصدور غير مراد ظاهره، لفرض عدم القطع بارادة ظاهره.

الرابع: ان الخبر الموافق المقطوع الصدور- اذا كان الخبر المخالف مقطوعا من حيث الصدور و من حيث الدلالة و الجهة- يتعين حمله على صدوره للتقية.

و قد اشار الى امكان التعبد بالخبر الموافق القطعي الصدور فيما اذا كان الخبر المخالف ظنيا صدورا او كان مقطوعا صدورا و لكنه كان غير مقطوع الدلالة بقوله:

«و منه انقدح امكان التعبد بصدور الموافق القطعي لبيان الحكم الواقعي ايضا» فيما اذا كان الخبر المخالف ظنيا او قطعيا و لكنه غير مقطوع الدلالة. و اشار الى تعين حمل الخبر الموافق المقطوع الصدور على التقية في صورة ما اذا كان الخبر المخالف مقطوعا سندا و دلالة بقوله: «و انما لم يكن التعبد بصدوره لذلك» أي و انما لم يكن التعبد

ص: 207

من معارضه، لاحتمال التورية في المعارض المحتمل فيه التقية دونه، فهو مقدم على جميع مرجحات الصدور، بناء على ما هو المشهور من تقدم التوفيق- بحمل الظاهر على الاظهر- على الترجيح بها (1).

______________________________

بصدور الموافق لبيان الواقع فيما «اذا كان معارضه المخالف قطعيا بحسب السند و الدلالة لتعيين حمله» أي لتعيين حمل الموافق في هذا الفرض «على التقية حينئذ لا محالة» لفرض كون الخبر الموافق مقطوع الصدور، و الخبر المخالف مقطوع الصدور و الدلالة و الجهة، فلا محالة حينئذ من كون صدور الخبر الموافق للتقية لا لبيان الواقع.

(1) توضيحه يتوقف على بيان امرين: الاول: ان مخالفة العامة: يحتمل ان يكون الترجيح بها لانها بنفسها من الامور الحسنة. و على هذا فالاخذ بمخالفة العامة بنفسه عنوان حسن من باب كونه خلافا على مخالفينا، و لاجله يترجح المخالف على الموافق.

و يحتمل ان يكون الترجيح بالمخالفة لغلبة الحق. و معنى ذلك ان المخالف قد صدر لبيان الحق الذي هو مخالف لما عليه العامة، لان العامة حيث تركوا الطريق الذي نصبه اللّه سبيلا لمعارفه كان سيرهم على غير هدى، لذلك كانوا غالبا يخطئون الحق، فيكون الغالب في صدور المخالف هو بيان الحق. و اما غير الغالب فيحتمل ان يكون للجهة الاولى و هي كونه خلافا على مخالفينا.

و الترجيح للمخالف على هذين الاحتمالين هو ترجيح لجهة الصدور، و انه قد صدر لبيان الواقع اما لكون عنوان المخالفة حسنا بالذات او لكونه لبيان الواقع، و لازمه قوة الخبر المخالف من هذه الجهة و ضعف الخبر الموافق لان احتمال صدوره لبيان الواقع ضعيف.

و يحتمل ان يكون الترجيح بالمخالفة انما هو لاجل ان السبب لصدور الموافق هو التقية و الخوف من اظهار الحق في قبالهم.

ص: 208

.....

______________________________

و على الاولين فانه مما يحتمل صدور الخبر الموافق لبيان الواقع و ان كان الاحتمال ضعيفا، بخلافه على الاخير فان صدوره لمحض التقية و لا احتمال فيه لبيان الواقع.

الثاني: ان المشهور ذهبوا الى انه في مورد التقية لا بد على الامام عليه السّلام ان يقصد التورية في كلامه: بان يريد به ما هو خلاف ظاهره، اما لعدم جواز الكذب عليه و ان كان لاجل المصلحة حيث يمكن ارادة الخلاف، أو لأن الأليق بمقام الامام عليه السّلام هي التورية و عدم افناء اللفظ فيما هو ظاهر فيه و ان جاز افناؤه فيه كذبا لاجل المصلحة.

فاذا عرفت هذا ... نقول: بناء على ان الترجيح بمخالفة العامة للاحتمالين الاولين لا يتعين ترجيح المخالف على الموافق، لعدم ارادة الظاهر في الموافق، بخلافه على الاحتمال الثالث فانه يتعين بان يكون الترجيح للمخالف انما هو لان الموافق لم يرد به ظاهره، و على هذا فيكون الترجيح للمخالف على الموافق داخلا في الجمع الدلالي، لرجوعه الى ان الظاهر في المخالف هو الاقوى لقوة كونه هو المراد و الضعف في الخبر الموافق لوهن ارادة الظاهر فيه. و من الواضح انه مع الجمع الدلالي لا تصل النوبة الى المرجحات كلها سندا و جهة.

فظهر مما ذكرنا: انه بناء على كون الترجيح بمخالفة العامة لاجل الاحتمال الثالث يتقدم الترجيح بها على المرجحات جميعا، لانها تكون من الجمع الدلالي كما عرفت.

نعم بناء على الاحتمالين الاولين يأتي الكلام الذي مر: من ان المختار هو عدم تقديم المرجح الجهتي على المرجح الصدوري كما يراه المحقق الرشتي (قدس سره)، و عدم تقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي كما يراه الشيخ.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «ثم ان هذا كله» أي ان الكلام الذي مر من مناقشة كلا الرأيين «انما هو بملاحظة ان هذا المرجح» و هو المرجح الجهتي «مرجح من حيث الجهة» كما يقتضيه الاحتمالان الاولان. و اما بناء على الاحتمال الثالث فان

ص: 209

اللهم إلا أن يقال: أن باب احتمال التورية و إن كان مفتوحا فيما احتمل فيه التقية، إلا أنه حيث كان بالتأمل و النظر لم يوجب أن يكون معارضه أظهر، بحيث يكون قرينة على التصرف عرفا في الآخر (1)،

______________________________

الترجيح بالمخالفة يكون «بما هو موجب لاقوائية دلالة ذيه من معارضه» و هو الخبر الموافق «لاحتمال التورية» و ارادة خلاف الظاهر «في المعارض المحتمل فيه التقية» و هو الخبر الموافق «دونه» أي دون الخبر المخالف لعدم احتمال التورية فيه و ارادة خلاف ظاهره، و لازم ذلك كما عرفت هو كونه من الجمع الدلالي، و حيث يكون من الجمع الدلالي «فهو مقدم على جميع مرجحات الصدور بناء على ما هو المشهور» كما مر في اول مبحث التعارض «من تقديم التوفيق» العرفي «بحمل الظاهر على الاظهر على الترجيح بها» أي على الترجيح بالمرجحات.

(1) و حاصله: ان موارد التوفيق العرفي التي هي مقام الجمع الدلالي: هو ان يكون لكل من الدليلين ظهور يكون الجمع العرفي بين هذين الظهورين هو حمل الظاهر منهما على الاظهر، بان يكون مجرد الجمع بين هذين الظاهرين موجبا لان يكون احدهما اظهر دلالة من الآخر، و قرينة بحسب مقام الظهور على حمل احدهما على الآخر فيكون الجمع لاجل قوة الظهور الموجب للتصرف بحمل الظاهر منهما على الاظهر. لا ان تكون القرينة لحمل احدهما على الآخر هو امر عقلي- كعدم صحة ارادة الظاهر من احدهما للزوم التورية- فانه ليس من الجمع الدلالي، لوضوح عدم كون ذلك موجبا للأظهرية في احدهما بالنسبة الى ظاهر الآخر، فان لزوم التورية عقلا لا يوجب كون المخالف في مقام الدلالة اظهر من الخبر الموافق ظهورا دلاليا.

و الحاصل: ان الامور العقلية لا ربط لها بمقام الدلالة حتى تكون موجبة لقوة الظهور في احدهما على الآخر. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «اللهم إلّا ان يقال ان باب احتمال التورية و ان كان مفتوحا فيما احتمل فيه التقية» و هو الخبر الموافق للعامة «إلّا انه» لا يوجب كون الخبر المخالف للعامة اقوى في مقام الظهور منه

ص: 210

فتدبر (1).

فصل

موافقة الخبر لما يوجب الظن بمضمونه و لو نوعا من المرجحات في الجملة (2)- بناء على لزوم الترجيح- لو قيل بالتعدي عن المرجحات

______________________________

«حيث كان» باب التورية من القرائن العقلية الحاصلة «بالتأمل و النظر» و لذا «لم يوجب» ذلك «ان يكون معارضه» و هو الخبر المخالف «اظهر» دلالة «بحيث يكون قرينة على التصرّف عرفا في الآخر» و هو الخبر الموافق.

(1) لعله اشارة الى ان القرينة العقليّة في المقام و ان لم توجب اظهرية في مقام الدلالة، الّا ان المناط لتقديم هذا المرجح على المرجحات موجود لاجلها، لان التقدّم في مقام تحقق الاظهرية انما هو لقوة الاظهر و ضعف الظاهر، و هذا موجود في هذه القرينة العقلية، لانها موجبة لضعف ارادة الظاهر في الخبر الموافق و قوة ارادة الظاهر في الخبر المخالف. و اللّه العالم.

(2)

الفصل التاسع: المرجحات الخارجية

اقسام المرجح الخارجي

) لا يخفى ان المرجحات الداخلية في الخبر هي: جهة دلالته، و جهة نفس صدوره، و جهة كون صدوره لبيان الواقع. و الاولى هي المرجح الدلالي و مورد الجمع العرفي، و الثانية هي المرجح الصدوري، و الثالثة هي المرجح الجهتي. و قد فرغ من الكلام في هذه المرجحات في الفصول المتقدمة.

و هذا الفصل معقود للكلام في المرجحات الخارجية، و هي على اقسام:

الاول: المرجح الخارجي الذي لم يقم على اعتباره و لا على عدم اعتباره دليل، كموافقة احد الخبرين للشهرة الفتوائية.

الثاني: المرجح الخارجي الذي قام الدليل على عدم اعتباره، كالظن الحاصل من القياس حيث يوافق احد الخبرين المتعارضين.

الثالث: المرجح الخارجي الذي قام الدليل على اعتباره، كموافقة احد الخبرين للكتاب.

ص: 211

المنصوصة، أو قيل بدخوله في القاعدة المجمع عليها كما ادعي، و هي لزوم العمل بأقوى الدليلين (1)، و قد عرفت أن التعدي محل نظر بل منع،

______________________________

الرابع: المرجح الخارجي الذي قام الدليل على اعتباره في نفسه من دون كونه ناظرا الى ارتباط له بالخبر الموافق له، كالاصول العملية الموافقة لاحد المتعارضين.

و الفرق بين الثالث و الرابع واضح، فان موافقة الكتاب معناه كون احد الخبرين موافقا لعموم الكتاب، و لا ريب ان العموم باعتبار فناء العام في مصاديقه و افراده يكون ناظرا الى مورد مدلول الخبر الذي وافقه، بخلاف الاصل فانه حيث كان حكما للمشكوك- بما هو مشكوك حكمه واقعا- لا يكون له نظر الى مورد الخبر الموافق، لان الخبر يتضمن الحكم بما انه هو الحكم واقعا، و الاصل يتضمن الحكم له بما انه حكم ظاهري للمشكوك حكمه واقعا، فلا يعقل نظر الاصول الى احد المتعارضين، لفرض ان موضوع الاصل الشك في الحكم الواقعي.

و قد تعرّض المصنف لجميع الاقسام. و الكلام الآن في القسم الاول كما يدل عليه قوله في آخر كلامه «هذا حال الامارة غير المعتبرة لعدم الدليل على اعتبارها».

(1) قد استدل على الترجيح بالمرجح الخارجي- الذي لم يقم على اعتباره و لا على عدم اعتباره دليل- بدليلين: الاول: انه بناء على التعدّي عن المزايا المنصوصة الى كل ما يوجب الاقربية النوعية، لا ريب في كون موافقة الخبر للشهرة الفتوائية مما يستلزم الظن نوعا باقربية مضمونة الى الواقع.

الثاني: ان القاعدة المجمع عليها و هي لزوم العمل باقوى الدليلين تقتضي الترجيح بهذا المرجح، لوضوح ان موافقة الشهرة الفتوائية لاحد الخبرين مما توجب اندراجه تحت هذه القاعدة المجمع عليها، لاستلزام الشهرة اقوائية الدليل الموافق لها.

و قد اشار الى الدليل الاول بقوله: «بناء على لزوم الترجيح لو قيل بالتعدي عن المرجحات المنصوصة» و حاصله: انه بناء على التعدّي فموافقة الخبر لمثل

ص: 212

و إن الظاهر من القاعدة هو ما كان الاقوائية من حيث الدليلية و الكشفية، و كون مضمون أحدهما مظنونا، لاجل مساعدة أمارة ظنية عليه، لا يوجب قوة فيه من هذه الحيثية، بل هو على ما هو عليه من القوة لو لا مساعدتها، كما لا يخفى (1)، و مطابقة أحد الخبرين لها لا يكون لازمه

______________________________

الشهرة الفتوائية مما يوجب الظن باقربية مضمونه الى الواقع. و اشار الى الدليل الثاني بقوله: «او قيل بدخوله في القاعدة المجمع عليها ... الى آخر الجملة».

(1) اورد المصنف على الدليل الاول: بمنع اصل المبنى، و هو انه لا دليل على التعدي لما يوجب الاقربية النوعية، و حيث يكون اصل التعدي الى ما يوجب الاقربية ممنوعا فلا يكون ما يوجب الاقربية- نوعا- مرجحا، و قد مر الكلام عليه مفصلا.

و الى هذا اشار بقوله: «و قد عرفت ان التعدي محل نظر بل منع».

و اورد على الدليل الثاني- و هو دخول الخبر الموافق للشهرة مثلا تحت اقوى الدليلين- بما مر فيه ايضا عند التعرض لهذه القاعدة، و هو ان القدر المتيقن منها هو الاخذ بما يوجب اقوائية احد الدليلين في مقام دليليته و كشفه النوعي، و ذلك هو الذي يوجب قوة الدليل بما هو دليل، و هذا المرجح الخارجي لا يوجب قوة الدليل الموافق له من حيث دليليته و ان اوجب الظن باقربية مضمونه للواقع، إلّا ان الدليل- بما هو دليل- لم تحدث له قوة بما هو دليل و كاشف، لوضوح ان مساندة الشهرة الفتوائية لاحد الخبرين لا تجعله بالنسبة الى معارضه من قبيل الاظهر و الظاهر، بل الظهور فيه على ما هو عليه، بل لا توجب ايضا قوة ملاك الحجية فيه من حيث الصدور، و لا توجب ايضا قوة ملاك صدوره لبيان الواقع، و انما غاية ما توجب هو قرب مضمونه الى الواقع، و هو غير هذه الجهات. نعم قوة احتمال مطابقته للواقع لا بد ان تكشف عن احتمال خلل في المخالف اما من حيث حيثية صدوره، او من حيث جهة صدوره، كما ستأتي الاشارة اليه في توضيح مراد الشيخ الاعظم. فان اريد من القوة هو قوة احتمال صدوره او صدوره لبيان الواقع من دون وجود هذا في

ص: 213

الظن بوجود خلل في الآخر، إما من حيث الصدور، أو من حيث جهته، كيف؟ و قد اجتمع مع القطع بوجود جميع ما اعتبر في حجية المخالف لو لا معارضة الموافق، و الصدق واقعا لا يكاد يعتبر في الحجية، كما لا يكاد يضر بها الكذب كذلك، فافهم. هذا حال الامارة غير المعتبرة لعدم الدليل على اعتبارها (1).

______________________________

معارضه فهو صحيح، و لذا قال (قدس سره): «و ان الظاهر من القاعدة» هو الاخذ بالدليل الاقوى لاجل قوته في دليليته و «هو ما كان الاقوائية فيه من حيث الدليلية و الكشفية».

و اشار الى ان موافقة الامر الخارجي الموجبة لكون الخبر مظنون المضمون من حيث الاقربية لا توجب قوة له في مقام الدليلية بقوله: «و كون مضمون احدهما مظنونا لاجل مساعدة امارة ظنية عليه» كالشهرة الفتوائية «لا توجب قوة فيه من هذه الحيثية» من جهة حيثية دليليته «بل هو» من حيث دليليته «على ما هو عليه من القوة لو لا مساعدتها» أي ان مساعدة الامارة الظنية اجنبية عن الدليل من ناحية دليليته.

(1)

مذهب الشيخ الاعظم (قده) في لزوم التعدي و الترجيح بما يوجب الاقربية للمضمون- و مناقشة المصنف (قده)

توضيحه: ان الشيخ الاعظم قد ذهب الى التعدي و الى الترجيح بما يوجب الاقربية للمضمون، و هو الذي استدل بالدليلين المذكورين، و اجاب عن الاشكال المذكور من كون القاعدة انما تدل على الاقوى من حيث الدليلية، و المرجح الخارجي الموجب لاقربية المضمون لا يكون موجبا لاقوائية الدليل من حيث الدليلية، و انما الموجب لاقوائية الدليل من حيث الدليلية هو المرجح الداخلي.

و حاصل جوابه: ان المرجح الخارجي و ان كان اقتضاؤه المطابقي هو الاقربية من حيث المضمون للخبر الموافق له، إلّا ان أقربية احد الخبرين للواقع مستلزمة للظن بكون الخبر المخالف فيه خلل، اما من حيث الصدور، او من حيث الجهة، لبداهة ان الواقع حيث لا يعقل ان يكون على طبق كل منهما، فاذا كان احتمال مطابقة

ص: 214

.....

______________________________

الواقع في احدهما اقوى من الآخر فلازم ذلك بعد الخبر الآخر عن مطابقة الواقع، و بعده عن المطابقة لا بد و ان يكون اما لضعف حيثية صدوره، او لضعف حيثية جهة صدوره. و نتيجة ذلك رجوع هذا المرجح الخارجي للمضمون الى المرجح الداخلي على سبيل الترديد بين المرجح الصدوري و المرجح الجهتي.

فالفرق بين هذا المرجح الخارجي و المرجح الداخلي هو ان هذا المرجح الخارجي مرجح داخلي بنحو الاجمال بين المرجحين الداخليين، و المرجح الداخلي مرجح بنحو التفصيل. و من الواضح عدم الفرق في الترجيح من ناحية الاجمال و التفصيل.

و ينبغي ان لا يخفى ايضا انه على ما ذكره الشيخ من لزوم الظن بالخلل يستلزم تقديم المرجح المضموني على المرجح الصدوري و المرجح الجهتي، و هذا ما اشرنا اليه سابقا من ان الشيخ يقدم المرجح المضموني على المرجح الصدوري، و الصدوري على الجهتي.

و أورد عليه المصنف: بان الظن باقربية مضمون احدهما للواقع لا يستلزم الظن الاجمالي بالخلل في حجية الخبر المردد بين حيثية الصدور و حيثية الجهة.

و توضيح ذلك: ان ملاك حجية الخبر من ناحية الصدور- بحسب ما يستفاد من ادلة الاعتبار- هو كون الراوي عادلا من غير اشتراط لها بالظن الشخصي على وفق مضمون الخبر، بل و لو مع الظن بخلافه. و ملاك حجية الخبر من حيث الجهة هو بناء العقلاء على ان الاصل في المتكلم الملقى لكلامه هو انه مريد جدا لظاهر كلامه. و من الواضح ان الظن الخارجي بعدم مطابقة الخبر للواقع يجتمع مع حجية الخبر صدورا و جهة، فلا يوجب الظن بعدم المطابقة الظن بالخلل من ناحية حجيته المردد بين حيثية صدوره و حيثية جهته، فلا يوجب كون الراوي غير عادل و لا يوجب صرف العقلاء عن بنائهم على انه مريد جدا لظاهر كلامه، فان عمل العقلاء على البناء على كون المتكلم مريدا جدا لظاهر كلامه و لو مع الظن الخارجي بعدم المطابقة للواقع. و يدل على ذلك انه لو لم يكن لهذا الخبر المظنون عدم مطابقته للواقع معارض اصلا لما كان

ص: 215

.....

______________________________

الظن بعدم مطابقته للواقع مانعا عن شمول ملاك حجية الصدور له و لا عن شمول ملاك حجية الجهة له. و السبب في ذلك ما عرفت من عدم كون الظن بالمطابقة للواقع دخيلا فيما هو الملاك للحجية، و لا الظن بعدم المطابقة مانعا عن تأثير الملاك للحجية لا في نفس الصدور و لا من حيث الجهة.

فظهر مما ذكرنا: ان موافقة احد الخبرين لهذا الامر الخارجي و ان اوجب الظن بمطابقته للواقع نوعا و بعد مطابقة معارضه للواقع، إلّا ان هذا لا يستلزم الظن بالخلل اجمالا فيما هو ملاك الحجية للخبر المعارض، لان الظن بالموافقة للواقع و الظن بعدم الموافقة للواقع اجنبيان عما هو ملاك الحجية في الخبر صدورا او جهة.

و بعبارة اخرى: ان صدق الخبر واقعا ليس مناط حجيته، و لا كذب الخبر واقعا مناط المانعية عن حجيته، و المقدار اللازم في التعبد بالخبر كونه مما يحتمل صدقه. نعم الخبر المقطوع بصدقه غير مشمول لادلة الحجية لكونه مقطوعا به، و الخبر المعلوم كذبه خارج عنها لعدم معقولية التعبد بصدق ما هو معلوم الكذب، فيبقى الخبر المحتمل الصدق و الكذب- من حيث ذاته- هو الذي دل دليل الاعتبار على التعبد به و البناء على صدقه و ان ظن بعدم صدقه.

فظهر ان الظن بصدق الخبر الموافق للامارة الخارجية لا يوجب خروج الخبر المخالف لها عن كونه محتمل الصدق، و لا يمنع عن تحقق ملاك الحجية فيه لا صدورا و لا جهة كما هو واضح.

و الحاصل: ان الظن بالمطابقة للواقع لا يستلزم الظن بالخلل في حجية الخبر المخالف لها. إلّا ان يقال: انه حيث كان الحكم واقعا واحدا فبالضرورة تكون ملازمة بين الظن بالمطابقة للواقع في احد الخبرين و بين الظن بالخلل في المعارض له، و ان كان هذا الظن بالخلل ليس بحجة، لكن الكلام ليس في حجيته، بل في كون المظنون المطابقة ذا مزية على المعارض له.

ص: 216

أما ما ليس بمعتبر بالخصوص لاجل الدليل على عدم اعتباره بالخصوص كالقياس، فهو و إن كان كالغير المعتبر لعدم الدليل، بحسب ما يقتضي الترجيح به من الاخبار بناء على التعدي، و القاعدة بناء على دخول مظنون المضمون في أقوى الدليلين، إلا أن الاخبار الناهية عن القياس و أن السنة إذا قيست محق الدين، مانعة عن الترجيح به، ضرورة أن استعماله في ترجيح أحد الخبرين استعمال له في المسألة الشرعية الاصولية، و خطره ليس بأقل من استعماله في المسألة الفرعية (1).

______________________________

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و مطابقة احد الخبرين لها» للامارة الظنية «لا يكون لازمه الظن بوجود خلل» اجمالا «في الآخر» المعارض له «اما من حيث الصدور أو من حيث جهته».

و قد اشار الى ان ذلك اجنبي عما هو الملاك للحجية- و انه لو كان ذلك موجبا للعلم بالخلل المردد لمنع عن حجية الخبر و لو في حال عدم المعارضة، مع انه من الواضح انه لو لم يكن للخبر المخالف معارض لكان حجة و لما منع عن حجيته الظن بعدم مطابقته للواقع- بقوله: «كيف و قد اجتمع» قيام الامارة الظنية على عدم المطابقة التي لم يقم على اعتبارها دليل «مع القطع بوجود جميع ما اعتبر في حجية» الخبر «المخالف لو لا معارضة الموافق». و اشار الى انه لا دخل للصدق واقعا في حجية الخبر و لا دخل للكذب واقعا في المانعية عن الحجية فيه بقوله:

«و الصدق واقعا لا يكاد يعتبر في الحجية كما لا يكاد يضر بها» أي بالحجية «الكذب كذلك» أي واقعا كما عرفت.

قوله (قدس سره): «هذا حال الامارة ... الخ» هذا هو الدليل على ان محل ما تقدم من الكلام هو القسم الاول كما اشرنا اليه.

(1) هذا هو القسم الثاني، و هو الترجيح بما قام الدليل على عدم اعتباره كالظن الحاصل من القياس. ففيما لو وافق احد المتعارضين الظن الحاصل من القياس ..

ص: 217

.....

______________________________

فهل يصح الترجيح به لاحد الخبرين المتعارضين- فيما اذا وافق احدهما الظن الحاصل من القياس- ام لا يصح الترجيح به؟

و لا يخفى انه بناء على ما مر من عدم صحة الترجيح بالامارة الظنية- التي لم يقم على اعتبارها و لا على عدم اعتبارها دليل، لعدم صحة التعدي من أصله و لعدم شمول قاعدة وجوب العمل باقوى الدليلين للمرجح الخارجي كما مر بيانه- لا مجال لتوهم الترجيح بهذا الظن الحاصل من القياس كما هو واضح.

و اما بناء على صحة الترجيح بالامارة الظنية التي لم يقم على اعتبارها و لا على عدم اعتبارها دليل، للزوم التعدي الى كل ما يوجب مزية الاقربية، و لدخوله في القاعدة المجمع عليها من لزوم العمل باقوى الدليلين .. فهل يكون الظن القياسي كهذه الامارة ام لا؟

و حاصل ما افاده في المتن: انه لو لا الادلة الناهية عن العمل بالقياس لكان حال الظن القياسي حال الامارة غير المعتبرة لعدم الدليل، لانه بعد كون المناط هو الاقربية و كون المظنون اقربيته و لو بالظن الخارجي اقوى الدليلين فلا محالة يصح الترجيح به، لوضوح انه يحصل بواسطة هذا الظن القياسي اقربية مضمون الخبر الموافق له للواقع، و يدخل تحت القاعدة لكونه اقوى من الدليل المخالف له. فادلة الترجيح تشمل الترجيح بالظن القياسي كما تشمل الترجيح بالامارة الظنية التي لم يقم على اعتبارها دليل، إلّا ان النهي عن اعمال القياس في الدين مانع عن الترجيح به، لان الترجيح بالظن القياسي اعمال له في الدين.

و الحاصل: ان المقتضي للترجيح بالمرجح الخارجي يشمله، إلّا ان النهي عن اعمال القياس في الدين يمنع عن الترجيح به، لان نفس الترجيح لاحد المتعارضين جعل شرعي تعبدي، فالترجيح بالظن القياسي اعمال له في الدين.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «فهو» أي ان ما ليس بمعتبر بالخصوص لاجل الدليل على عدم اعتباره كالقياس هو «و ان كان كالغير المعتبر لعدم الدليل» على

ص: 218

و توهم أن حال القياس هاهنا ليس في تحقق الاقوائية به إلا كحاله فيما ينقح به موضوع آخر ذو حكم، من دون اعتماد عليه في مسألة أصولية و لا فرعية (1)، قياس مع الفارق، لوضوح الفرق بين المقام

______________________________

اعتباره بالنظر الى ما يوجب الترجيح بالمرجح الخارجي لان الملاك للتعدي و هو الاقربية و قاعدة العمل باقوى الدليلين تشمله كما تشمل الامارة الظنية غير المعتبرة.

و اشار الى شمول ملاك التعدي بقوله: «بحسب ما يقتضي الترجيح به» كما يستفاد «من الاخبار بناء على التعدي». و اشار الى شمول القاعدة له بقوله: «و القاعدة بناء على دخول مظنون المضمون في اقوى الدليلين». و اشار الى ان المانع عن الترجيح به هو النهي عن اعمال القياس في الدين، و من الواضح ان الترجيح بالقياس من الاعمال له في الدين بقوله: «إلّا ان الاخبار الناهية عن القياس ... الى آخر الجملة». و اشار الى ان الترجيح به من اعماله في الدين بقوله: «ضرورة ان استعماله في ترجيح احد الخبرين ... الى آخر الجملة».

فظهر مما ذكرنا: ان المقتضي للترجيح بالنسبة الى القياس و الامارة غير المعتبرة على حد سواء، إلّا ان الاخبار الناهية عن العمل بالقياس هي المانع عن الترجيح به.

(1) توضيحه: ان المتحصل من النهي عن القياس هو النهي عن اعماله في الدين، كمثل كونه واسطة في استنباط حكم شرعي فرعي او اصولي. اما كون القياس واسطة في ثبوت موضوع عرفي ذي حكم فغير مشمول لادلة النهي عن القياس، فلذا لا مانع من اثبات القبلة او الزوال- مثلا- بواسطة القياس في مقام كان الظن بهما كافيا في ثبوت حكمهما، لعدم تعلق الظن القياسي حينئذ بالحكم الشرعي، فلا يكون ذلك من الاعمال له في الدين، و انما كان متعلق الظن القياسي هو الموضوع العرفي.

و في المقام كذلك لانه من قبيل اثبات الموضوع بالظن القياسي، فان متعلق الظن القياسي هو كون الخبر ذا مزية، و كون الخبر ذا مزية هو موضوع للترجيح به الذي

ص: 219

و القياس في الموضوعات الخارجية الصرفة، فإن القياس المعمول فيها ليس في الدين، فيكون إفساده أكثر من إصلاحه، و هذا بخلاف المعمول في المقام، فإنه نحو إعمال له في الدين، ضرورة أنه لولاه لما تعين الخبر الموافق له للحجية بعد سقوطه عن الحجية بمقتضى أدلة الاعتبار، و التخيير بينه و بين معارضه بمقتضى أدلة العلاج، فتأمل جيدا (1).

______________________________

هو الحكم الشرعي، فالترجيح به الذي هو الحكم الشرعي لا تعلق للظن القياسي به، و ما كان متعلقا للظن القياسي هو نفس الخبر، و هو كسائر الموضوعات العرفية كالقبلة و الزوال مثلا.

و الحاصل: ان الظن القياسي المتعلق بالخبر الموافق له لم يتعلق بحكم شرعي لا فرعي و لا اصولي، و انما تعلق بالخبر فاوجب ان يكون الخبر اقوى من معارضه لاقوائيته بذلك، لصيرورته ذا مزية. فكان الثابت بالقياس هو الموضوع للترجيح الذي هو الحكم الشرعي، و لا تعلق للقياس بالحكم الشرعي اصلا ... هذا حاصل التوهم الذي اشار اليه بقوله: «و توهم ان حال القياس هاهنا ليس في تحقق الاقوائية به» من الاعمال له في الدين لانه متعلق بالموضوع العرفي و هو الخبر، و ليس حال القياس في تعلقه بالخبر «الا كحالة فيما ينقح به موضوع آخر» من الموضوعات «ذو حكم» كالقبلة و الزوال مثلا «من دون» تعلق له بالحكم الشرعي، و ليس في ذلك «اعتماد عليه» أي على القياس «في مسألة اصولية و لا فرعية».

(1) قوله: (قدس سره): «قياس مع الفارق ... الخ» هذا هو خبر توهم، و هو الجواب عنه. و توضيحه: ان الحكم الشرعي، تارة يكون فرعيا كالوجوب و ساير الاحكام التكليفية، و اخرى يكون اصوليا كالحجية مثلا. و من الواضح ان الترجيح لخبر على خبر هو من الاحكام الاصولية الشرعية، و الثابت بالظن القياسي في المقام هو الترجيح للخبر و هو من الاحكام الشرعية الاصولية. و ليس هو كالظن القياسي

ص: 220

.....

______________________________

المتعلق بالموضوع العرفي، فان متعلقه نفس الوقت او القبلة، فلا يكون اثباتهما بالظن القياسي من اعماله في الدين لا في حكم فرعي و لا في حكم اصولي، بخلاف الظن القياسي على طبق مضمون الخبر الموافق له، فان متعلق الظن القياسي نفس الحكم الذي هو مؤدى الخبر الموافق له، لبداهة ان متعلق القياس ليس هو ذات الخبر بل مضمون الخبر و ما ادى اليه من الحكم، و معنى الترجيح في المقام ليس هو إلّا أقوائية مضمون الخبر باعتبار اقربيته الى الواقع، فليس متعلق الظن القياسي في المقام موضوعا عرفيا، بل متعلقه نفس كون الحكم قريبا الى الواقع. و من البديهي ان اقربية الحكم بواسطة الظن القياسي اعمال للظن القياسي في الدين.

فاتضح الفرق بين الظن القياسي المتعلق بالموضوع العرفي، و بين الظن القياسي في المقام فان متعلقه نفس ما به الترجيح الذي هو حكم الشرعي اصولي.

و ما يقال من الفرق بين دليل النهي عن القياس بالنسبة الى الدليل الدال على حجية كل ظن كما في الانسداد فان النسبة بينهما هي العموم المطلق، و بين دليل النهي عن القياس بالنسبة الى ادلة الترجيح فان النسبة بينهما هي العموم من وجه، لعدم دلالتها على حجية كل ظن، و انما تدل على ما يوجب الاقربية بصدق الترجيح في غير الظن القياسي، و صدق الظن القياسي في غير مورد الترجيح بالظن القياسي، و اجتماعهما في الترجيح بالظن القياسي الموافق لاحد المتعارضين.

ففيه أولا: ان الكلام بناء على التعدي، و ان مدلول ادلة الترجيح هو الترجيح بكل ما يوجب الاقربية الى الواقع، و ليست الأقربية الى الواقع إلّا الظن النوعي بالاقربية، و المفروض في المقام كون الظن القياسي موجبا لاقربية المظنون به الى الواقع، فالنسبة بينهما هي العموم من مطلق ايضا.

و ثانيا: لو سلمنا ان النسبة بينهما هي العموم من وجه، إلّا ان اللازم بناء على العموم من وجه هو التساقط، فالترجيح بواسطة الظن القياسي هو مادة الاجتماع

ص: 221

.....

______________________________

بين ادلة الترجيح و ادلة النهي عن العمل بالقياس، و بعد تساقطهما لا يصح الترجيح بواسطة الظن القياسي، لانه من الترجيح من غير دليل شرعي يدل على الترجيح به.

و على كل فقد اتضح بطلان الترجيح بواسطة الظن القياسي، و قياسه على الظن القياسي المتعلق بالموضوعات العرفية قياس مع الفارق.

و قد اشار الى ذلك بقوله: «قياس مع الفارق» أي ان قياس الترجيح بواسطة القياس على القياس المتعلق بالموضوعات هو قياس مع الفارق بينهما «لوضوح الفرق بين المقام» و هو الترجيح بواسطة القياس «و» بين «القياس في الموضوعات الخارجية الصرفة، فان القياس المعمول فيها» أي في الموضوعات الخارجية الصرفة «ليس» من اعمال القياس «في الدين فيكون افساده اكثر من اصلاحه» كما دلت الاخبار الناهية على ذلك و هو كون ما يفسده القياس اكثر مما يصلحه، «بخلاف» القياس «المعمول في المقام» و هو الترجيح به «فانه نحو اعمال له في الدين ضرورة انه لولاه» أي ضرورة انه لو لا تعلق الظن القياسي بمضمون الخبر الموافق «لما تعين الخبر الموافق له للحجية» دون الخبر المخالف للظن القياسي «بعد سقوطه ...» أي بعد فرض سقوط الخبر الموافق للظن القياسي من حيث ما يوجب أرجحية غير الظن القياسي «بمقتضى ادلة الاعتبار» الدالة على حجية اصل خبر الواحد، لما عرفت من ان القاعدة الاولى في المتعارضين بعد شمول ادلة الاعتبار لهما معا تقتضي تساقطهما «و» بمقتضى القاعدة الثانية الواردة في خصوص الخبرين المتعارضين هو «التخيير بينه» أي بين الخبر الموافق للظن القياسي «و بين معارضه» و هو الخبر المخالف له، لفرض كونهما متساويين في المزايا كلها عدا الظن القياسي فانه «بمقتضى ادلة العلاج» لا بد من التخيير بينهما عند تساويهما.

ص: 222

و أما ما إذا اعتضد بما كان دليلا مستقلا في نفسه، كالكتاب و السنة القطعية (1)، فالمعارض المخالف لاحدهما إن كانت مخالفته بالمباينة الكلية، فهذه الصورة خارجة عن مورد الترجيح، لعدم حجية الخبر المخالف كذلك من أصله، و لو مع عدم المعارض، فإنه المتيقن من الاخبار الدالة على أنه زخرف أو باطل، أو أنه: لم نقله، أو غير ذلك. و إن كانت مخالفته بالعموم و الخصوص المطلق، فقضية القاعدة فيها، و إن كانت ملاحظة المرجحات بينه و بين الموافق و تخصيص الكتاب به تعيينا أو تخييرا، لو لم يكن الترجيح في الموافق، بناء على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد، إلا أن الاخبار الدالة على أخذ الموافق من المتعارضين غير قاصرة عن العموم لهذه الصورة، لو قيل بأنها في مقام ترجيح أحدهما لا تعيين الحجة عن اللاحجة، كما نزلناها عليه، و يؤيده أخبار العرض على الكتاب الدالة على عدم حجية المخالف من أصله، فإنهما تفرغان عن لسان واحد، فلا وجه لحمل المخالفة في أحدهما على خلاف المخالفة في الاخرى، كما لا يخفى (2).

______________________________

(1) هذا هو القسم الثالث و هو ما اذا وافق احد الخبرين الدليل المعتبر كالكتاب او السنة القطعية، بان يكون مورد الخبر الموافق مشمولا لاحدهما بحسب الدلالة اللفظية، و هذا هو مراده من الاعتضاد بقوله: «و اما اذا اعتضد بما كان دليلا مستقلا في نفسه» لان هذا هو الفرق بين هذا القسم الثالث و هو موافقة احد الخبرين للكتاب او السنة، و القسم الرابع الآتي و هو موافقة احد الخبرين للاصل.

(2) و ملخص الكلام في هذا القسم- و هو معارضة الخبر الموافق للكتاب للخبر المخالف للكتاب- ان الخبر المعارض للخبر الموافق للكتاب على انحاء ثلاثة:

- الاول: ان يكون الخبر المعارض للخبر الموافق للكتاب مخالفا للكتاب بنحو التباين.

ص: 223

.....

______________________________

- الثاني: ان يكون الخبر المخالف للكتاب مخالفا له بنحو العموم و الخصوص المطلق.

- الثالث: ان يكون المخالف مخالفا للكتاب بنحو العموم و الخصوص من وجه.

فان كانت النسبة بينه و بين الكتاب هي التباين فالخبر المخالف للكتاب على نحو التباين ليس بحجة حتى يكون معارضا للخبر الموافق للكتاب، فانه حتى اذا لم يكن الخبر الموافق موجودا فلا تشمل ادلة حجية خبر الواحد للخبر المخالف للكتاب على نحو التباين، حتى تقع المعارضة بينه و بين الخبر الموافق، لان المخالفة بنحو التباين هي القدر المتيقن من الاخبار القائلة بان ما خالف قول ربنا زخرف او باطل او انا لم نقله، فالمخالف بنحو التباين ليس بحجة و لو لم يكن هناك معارض له موافق للكتاب و السنة. و مفروض الكلام هو ترجيح احدى الحجتين لا كون احد الخبرين حجة و الخبر الآخر ليس بحجة. و حيث عرفت ان الخبر المخالف للكتاب على نحو التباين ليس بحجة و غير مشمول لادلة الحجية و لو لم يكن هناك خبر موافق معارض له، فيكون خارجا عما هو مفروض الكلام في المقام من ترجيح احد الحجتين على الحجة الاخرى عند المعارضة.

و الى هذا اشار بقوله: «فهذه الصورة خارجة عن مورد الترجيح ... الى آخر الجملة».

و ان كانت المخالفة بين الخبر المخالف للكتاب و بين الكتاب هي المخالفة بنحو العموم المطلق، بان يكون الخبر المعارض كان على خلافه عموم الكتاب، بحيث ان الخبر المخالف للكتاب لو قدم على الخبر الموافق للكتاب فلا بد من تخصيص الكتاب به، بناء على ما مر في مباحث الالفاظ من جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد.

فحاصل الكلام في هذا: انه بمقتضى ادلة حجية الخبر لا مانع من ترجيح الخبر المخالف للكتاب على الخبر الموافق له- لو كان للخبر المخالف ما يقتضي ترجيحه على

ص: 224

اللهم إلا أن يقال: نعم، إلا أن دعوى اختصاص هذه الطائفة بما إذا كانت المخالفة بالمباينة- بقرينة القطع بصدور المخالف غير المباين عنهم عليهم السّلام كثيرا، و إباء مثل: ما خالف قول ربنا لم أقله، أو زخرف أو باطل عن التخصيص- غير بعيدة، و إن كانت المخالفة بالعموم و الخصوص من وجه، فالظاهر أنها كالمخالفة في الصورة الاولى كما لا يخفى (1)، و أما الترجيح بمثل الاستصحاب، كما وقع في كلام غير

______________________________

الخبر الموافق، او كان الخبر المخالف هو المختار عند تساوي الخبرين- لشمول ادلة الاعتبار له، و بعد ترجيحه او اختياره يتخصص الكتاب.

إلّا انه قد مر من المصنف ان اخبار العرض على الكتاب لا مانع من شمولها للمخالفة و لو بنحو العموم و الخصوص المطلق ... و عليه فيخرج الخبر المخالف للكتاب عن ادلة الاعتبار، و تكون الحال فيه كالحال في المخالف للكتاب على نحو التباين، و يكون عند المعارضة بينه و بين الخبر الموافق للكتاب ترجيح الخبر الموافق عليه من باب ترجيح الحجة على اللاحجة، لا من باب ترجيح احدى الحجتين على الاخرى كما هو مفروض الكلام.

و الى ما ذكرنا- أولا- اشار بقوله: «فقضية القاعدة فيها ... الى آخر الجملة» و اشار الى ما ذكرنا- ثانيا- من كونه من باب ترجيح الحجة على اللاحجة بقوله:

«إلّا ان الاخبار الدالة على اخذ الموافق ... الى آخر الجملة».

(1) حاصله: هو العدول عما ذكره- بقوله: «إلّا ان الاخبار» و هو اختصاص دلالة الاخبار الدالة على طرح ما خالف الكتاب بخصوص المخالفة للكتاب بنحو التباين، و لا تشمل المخالفة بنحو العموم المطلق- لامرين:

الاول: صدور المخالف للكتاب بنحو العموم و الخصوص المطلق منهم عليهم السّلام قطعا، مع ان اخبار العرض تصرح بان المخالف لقول ربنا لم نقله، فمع القطع بصدور هذا النحو من المخالفة عنهم عليهم السّلام لا بد من ان يكون المراد بالمخالف هو

ص: 225

.....

______________________________

المخالف بنحو التباين، و الى هذا اشار بقوله: «بقرينة القطع بصدور المخالف غير المباين عنهم عليهم السّلام» و لعل مرجع هذا الى دعوى انصراف لفظ المخالفة عن المخالفة بنحو العموم المطلق، و ان صدور المخالفة منهم عليهم السّلام بنحو العموم المطلق قرينة على هذا الانصراف.

الثاني: انه مع القطع بصدور المخالف بنحو العموم و الخصوص المطلق منهم عليهم السّلام لا بد من التزام التخصيص للاخبار الدالة على طرح الخبر المخالف و عدم حجيته، و لسانها آب عن التخصيص، فان مثل قولهم عليهم السّلام ما خالف قول ربنا لم نقله او انه زخرف و باطل آب عن التخصيص، فإباء لسان هذه الاخبار عن التخصيص مما يدل على ان المراد بالمخالفة هي المخالفة بنحو التباين لا بنحو العموم المطلق. و الى هذا اشار بقوله: «و آباء مثل ما خالف قول ربنا ... الى آخر الجملة».

و ان كانت النسبة بين الخبر المخالف و بين الكتاب بنحو العموم و الخصوص من وجه، فقد قال المصنف انها كالصورة الاولى- أي القسم الاول و هي ما اذا كانت النسبة بينهما بنحو التباين- و معناه خروج الخبر المخالف لهما عن الحجية. و الوجه في الحاقه بالقسم الاول هو عدم جريان الوجهين السابقين في العموم المطلق هنا، فلا قطع بصدور الخبر الذي كان بينه و بين الكتاب عموم من وجه عنهم عليهم السّلام، و لا تخصيص في العموم من وجه حتى يكون المانع هو الإباء عن التخصيص، لان القاعدة في العموم من وجه هي التساقط. و لذا قال (قدس سره): «فالظاهر انها» أي ما اذا كانت نسبة المخالفة بنحو العموم من وجه هي «كالمخالفة في الصورة الاولى» و هي ما اذا كانت النسبة بنحو التباين.

و ينبغي ان لا يخفى ان الترجيح للخبر الموافق للكتاب في جميع الصور الثلاث المذكورة بناء على لزوم الترجيح للتعدي او للاقتصار على المزايا المنصوصة. نعم بناء على التخيير مطلقا كما هو مبنى الماتن لا يلزم الترجيح به في خصوص ما اذا كان بين المخالف و الكتاب عموم من مطلق. اما في صورة المخالفة بنحو التباين

ص: 226

واحد من الاصحاب، فالظاهر أنه لاجل اعتباره من باب الظن و الطريقية عندهم، و أما بناء على اعتباره تعبدا من باب الاخبار وظيفة للشاك، كما هو المختار، كسائر الاصول العملية التي تكون كذلك عقلا أو نقلا، فلا وجه للترجيح به أصلا، لعدم تقوية مضمون الخبر بموافقته، و لو بملاحظة دليل اعتباره كما لا يخفى (1). هذا آخر ما اردنا إيراده، و الحمد للّه أولا و آخرا و باطنا و ظاهرا.

______________________________

و العموم من وجه- على رأي الماتن- فلا بد من العمل على طبق الخبر الموافق لانه من قبيل الحجة و اللاحجة.

(1) حاصله: انه بناء على حجية الاستصحاب من باب الظن- كما هو رأي بعض المتقدمين- فبناء على التعدي يترجح الخبر الموافق له على الخبر المخالف له عند تعارضهما، لان الخبر الموافق لهذا الظن المعتبر يكون اقرب الى الواقع، او يحصل الظن الشخصي بمطابقته للواقع.

و منه يظهر ما اذا كان الموافق للخبر أي ظن من الظنون المعتبرة. و تعبير المصنف بلفظ مثل الاستصحاب للاشارة الى ذلك.

و اما بناء على كون حجية الاستصحاب ليس من باب الظن و ان افاد الظن اتفاقا- كما هو مبنى حجية الاستصحاب عند المتأخرين- بل حجيته لكونه وظيفة للشاك تعبدا، كسائر الاصول العملية العقلية كقبح العقاب بلا بيان، او النقلية كرفع ما لا يعلمون، فلا تكون موافقته للخبر مفيدة للاقربية و لا للظن الشخصي و ان افاد الظن اتفاقا، لان المراد بترجيح الخبر بالظن- بناء على التعدي- هو الترجيح بما يفيد الظن بمقتضى ذاته: أي بما له اقتضاء افادة الظن بذاته لا بما يفيد الظن اتفاقا، فاذا استفيد الظن منه اتفاقا فالترجيح للظن لا للاستصحاب بما هو استصحاب.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و اما بناء على اعتباره تعبدا ... الى آخر الجملة».

و اشار الى الوجه في عدم صحة الترجيح به بناء على كونه وظيفة من باب التعبد في

ص: 227

.....

______________________________

حال الشك «فلا وجه للترجيح به اصلا لعدم تقوية مضمون الخبر بموافقته و لو بملاحظة دليل اعتباره» لان دليل اعتباره لم يدل على اعتباره بما هو ظن، لعدم افادته للظن الا اتفاقا، بل دل على اعتباره من باب كونه وظيفة للشاك كما هو مبنى المتأخرين في الاستصحاب.

انتهى بحمد اللّه مبحث التعادل و التراجيح، و هو آخر ما يتعلق بعلم الاصول، في يوم الثلاثاء السابع عشر من شهر ذي الحجة الحرام سنة الالف و الواحد و الثمانين بعد الثلاثمائة هجرية، على صاحبها و آله أفضل الصلاة و السلام و التحية.

ص: 228

.....

______________________________

الخاتمة في الاجتهاد و التقليد

ص: 229

ص: 230

و أما الخاتمة: فهي فيما يتعلق بالاجتهاد و التقليد فصل الاجتهاد لغة: تحمل المشقة، و اصطلاحا كما عن الحاجبي و العلامة:

استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي، و عن غيرهما ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الاصل فعلا أو قوة قريبة.

و لا يخفى أن اختلاف عباراتهم في بيان معناه اصطلاحا، ليس من جهة الاختلاف في حقيقته و ماهيته، لوضوح أنهم ليسوا في مقام بيان حده أو رسمه، بل إنما كانوا في مقام شرح اسمه و الاشارة إليه بلفظ آخر و إن لم يكن مساويا له بحسب مفهومه، كاللغوي في بيان معاني الالفاظ بتبديل لفظ بلفظ آخر، و لو كان أخص منه مفهوما أو أعم.

و من هنا انقدح أنه لا وقع للايراد على تعريفاته بعدم الانعكاس أو الاطراد، كما هو الحال في تعريف جل الاشياء لو لا الكل، ضرورة عدم الاحاطة بها بكنهها، أو بخواصها الموجبة لامتيازها عما عداها، لغير علام الغيوب (1)،

______________________________

(1)

الخاتمة: فى الاجتهاد و التقليد

الفصل الاول: تعريف الاجتهاد

و الكلام فيه في مقامات: الاول: ان الاجتهاد لغة هو بذل الجهد، و الجهد بضمّ الجيم- كما عن بعضهم- هو المشقّة و الطاقة، و معنى المشقّة واضح، و الطاقة هي ما يطيقه الفاعل. و الجهد بفتح الجيم هو المشقة كما عن بعض آخر.

و الاجتهاد في الاصطلاح كما عرّفه الحاجبي و العلامة الحلي (قدس سره): انه استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي.

و عن غير الحاجبي و العلامة تعريف الاجتهاد: بانه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الاصل فعلا او قوة قريبة من الفعل، بمعنى انه متى اعمل ملكته حصل على الحكم مستنبطا له من ادلته. فالمراد من قوله فعلا هو الحكم المستنبط بالفعل بسبب تلك الملكة، و المراد من القربية الى الفعل هو الحكم الذي يحصل عند إعمال تلك الملكة.

ص: 231

.....

______________________________

و لا يخفى ان التعريف الاول صريح في كونه ناظرا الى الاجتهاد بمعنى الفعلية، لانه عرّف الاجتهاد بنفس استفراغ الوسع و اعمال ما عنده من قوّة لتحصيل الظن بالحكم، فهو عندهما نفس العمل الذي مصدره هو الملكة و القدرة على تحصيل الحكم. كما ان ظاهر التعريف الثاني هو كونه ناظرا الى الملكة و ان لم يكن معملا لها بالفعل.

ثم لا يخفى- ايضا- ان مراده من قوله فعلا او قوة قريبة من الفعل هي من قيود استنباط الحكم الشرعي الفرعي، لوضوح كون الملكة لا بد من ان تكون بالفعل لا بالقوة، لخروج من كان مقتدرا على تحصيل الملكة على الاستنباط عن كونه مجتهدا بالفعل، و الّا لزم كون العامي الذي له قوّة على تحصيل الملكة مجتهدا فعلا، و هو واضح البطلان.

و على هذا فيكون المعنى ان الاجتهاد هو الملكة الفعلية التي يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي اما فعلا او بالقوة القربية من الفعل، بمعنى انه متى اعملها و رجع الى مدارك الحكم يستنبطه.

كما ان الظاهر من المراد من الاصل هو مطلق الحجة المعتبرة سواء كانت امارة او اصلا ...

المقام الثاني: انه اورد على التعريف الاول بعدم الاطراد أي كون التعريف اعم من المعرّف لصدقه على الظن بالحكم الشرعي من طريق غير معتبر شرعا، و لصدقه على الظن بالحكم الاصولي، و الحكم الاصولي خارج عن الاجتهاد بحسب الاصطلاح، لانه يختصّ بالحكم الفرعي اصطلاحا، و غير ذلك من الموارد التي ذكروها.

و بعدم الانعكاس: و هو كون التعريف اخصّ من المعرّف، لخروج تحصيل القطع بالحكم الفرعي عن التعريف لانه ليس من الظن بالحكم الشرعي، و هو ممّا يعمّه الاجتهاد بحسب الاصطلاح قطعا. و خروج الحكم الذي قامت عليه امارة غير مفيدة

ص: 232

.....

______________________________

للظن فعلا، بناء على ان المراد من الظن في التعريف هو الظن الفعلي بالحكم، لا الظن النوعي و ان لم يكن مفيدا للظن فعلا. و خروج الحكم الذي قام عليه الاصل عن التعريف، مع انهما داخلان في المعرّف، لان تحصيل هذين من الاجتهاد بحسب الاصطلاح.

و يرد على التعريف الثاني عدم الانعكاس، لخروج الظن الانسدادي عنه حيث يقوم الظن الانسدادي- على الحكومة- على سقوط الحكم و عدمه، لا على ثبوت الحكم و وجوده، بناء على ان المراد من الحكم هو ما يخصّ وجود الحكم لا ما يعمّ عدم الحكم.

و لا يخفى ان هذا يرد على التعريف الاول ايضا فانه غير منعكس ايضا لانه ليس من الظن بالحكم بل هو ظن بعدم الحكم. هذا مضافا الى ما يختصّ بالتعريف الثاني من كون نفس الملكة التي يقتدر بها على استنباط الحكم ليست اجتهادا، بل الاجتهاد هو الحكم المستنبط عن الملكة لا نفس الملكة.

المقام الثالث: ان هذه التعاريف بل كلّ التعاريف في رأي المصنف هي تعاريف لفظية لشرح الاسم و ليست تعاريف حقيقية لا حدّا و لا رسما، كما مرّت الاشارة منه الى ذلك في كثير من الموارد في هذا الكتاب.

و اشار الى وجهين يدلان على ذلك: الاول: ان الظاهر من القوم كونهم في مقام الاشارة الى المعنى بوجه من الوجوه لا في صدد بيانه بالحدّ او بالرسم، و ان حال الاصوليين في تعاريفهم حال اللغويين هو بيان المعنى بوجه من الوجوه التي تشير اليه، سواء كان ذلك بما يعمّه و غيره أو كان بما هو اخصّ منه. فلا وجه للايراد عليهم بعدم الاطراد تارة و بعدم الانعكاس اخرى.

الثاني: ان التعريف الحقيقي لا يقدر عليه البشر بل هو مما يخصّ علام الغيوب، لان التعريف الحقيقي لا يكون الّا بماهية الشي ء المركبة من الجنس و الفصل، و الفصول وجودات بسيطة و لا يحيط بالبسائط الّا علام الغيوب، لعدم التركيب فيها.

ص: 233

فافهم (1).

______________________________

و قد اشار الى الوجه الاول بقوله: «لوضوح انهم ليسوا في مقام بيان حدّه او رسمه ... الى آخر الجملة». و اشار الى الوجه الثاني بقوله: «ضرورة عدم الاحاطة بها بكنهها او بخواصها ... الى آخر الجملة».

(1) لعلّه اشارة الى المناقشة في الوجهين: اما في الاول فلوضوح ان ظاهرهم انهم في مقام بيان التعاريف الحقيقة، و لذا أورد بعضهم على بعض بعدم الاطراد و عدم الانعكاس. و اما اللغوي فلان غرضه بيان الاستعمال لا بيان معنى اللفظ حقيقة و ما هو موضوع له.

و اما في الثاني: فأولا ان المراد من التعريف الحقيقي ما كان في قبال معرفة الشي ء بوجه ما و هو معرفة الشي ء بما يتركب منه من جنسه و فصله، لا معرفته بالاحاطة بكنه فصله.

و بعبارة اخرى: ان المراد من التعريف الحقيقي هو تحليل الشي ء بمعرفة ما تركبت ذاته منه على قدر ما تصل اليه معرفة البشر من تركيبه في قبال معرفته بوجه ما، كتعريف الانسان بانه حيوان ناطق في قبال تعريفه بانه موجود من موجودات عالم الكون.

و ثانيا بان الوجه الثاني لازمه انكار التعريف الحقيقي في أي علم من العلوم، و لا يخصّ التعاريف المذكورة للقوم في الفقه او الاصول، و مرجعه الى انكار ما الحقيقية لعدم امكان الجواب بما يدل على حقيقة الشي ء. هذا مضافا الى جعل المصنف التعريف اللفظي في قبال التعريف الحقيقي الذي صرّح فيما تقدّم: بان الاول مفاد ما الشارحة، و الثاني مفاد ما الحقيقية. و قد صرّح المحققون بان الفرق بين ما الشارحة و ما الحقيقية هو ان الغرض في الاولى مطلق الشرح و الاشارة، و في الثانية كون الغرض بيان حقيقة الشي ء، و لا فرق بينهما في نفس التعريف، فيجوز ان يكون

ص: 234

و كيف كان، فالاولى تبديل الظن بالحكم بالحجة عليه، فإن المناط فيه هو تحصيلها قوة أو فعلا لا الظن حتى عند العامة القائلين بحجيته مطلقا، أو بعض الخاصة القائل بها عند انسداد باب العلم بالاحكام، فإنه مطلقا عندهم، أو عند الانسداد عنده من أفراد الحجة، و لذا لا شبهة في كون استفراغ الوسع في تحصيل غيره من أفرادها من العلم بالحكم أو غيره مما اعتبر من الطرق التعبدية غير المفيدة للظن و لو نوعا اجتهادا أيضا (1).

______________________________

الجواب في مقام ما الشارحة بنفس التعريف الحقيقي كما يصح ان يكون بوجه من الوجوه.

و الحاصل: ان الفرق بين ما الشارحة و ما الحقيقية هو كون الغرض في الاولى الشرح و في الثانية بيان الحقيقة، و لا يلزم في ما الشارحة ان يكون التعريف بوجه من الوجوه، بل يجوز ان يكون بالتعريف الحقيقي ايضا. نعم في ما الحقيقية لا بد و ان يكون بما يفيد شرح الحقيقة. و اللّه العالم.

(1) لا يخفى ان هذا مقدّمة لما فرّع عليه من عدم انعكاس التعريف الاول.

و حاصل ذلك انه لا وجه لاخذ الظن في التعريف الاول، لان تحصيل الظن بالحكم بما هو ظن ليس من الاجتهاد، بل الظن بما هو حجة، و اذا كان المناط كونه بما هو حجة فلا خصوصية للظن بما هو ظن. و من الواضح- ايضا- انه اذا كان المناط هو تحصيل الحجة يدخل في التعريف تحصيل العلم القائم على الحكم، و يدخل في التعريف ايضا تحصيل الحكم عن حجة معتبرة و ان لم يفد الظن الفعلي كجملة من الامارات، و يدخل في التعريف الحجة القائمة على الحكم من غير الامارات كالاصول التعبديّة التي لا توجب ظنا بالحكم لا شخصا و لا نوعا، لانها ليست من الطرق الظنية اصلا لا الشخصية منها و لا النوعية.

ص: 235

.....

______________________________

و مما ذكرنا يظهر: انه لو بدّل الظن في التعريف بالحجة لما ورد عليه عدم الانعكاس في الموارد التي اشرنا اليها.

و يدل على ان الظن ليس بما هو ظن دليلا للحكم بل بما هو حجة: ان العامة القائلين بحجية مطلق الظن و بعض الخاصة القائلين باعتبار الظن من باب الانسداد انما يقول الفريقان به العامة و الخاصة لكونه حجة لا لانه ظن بما هو ظن، لوضوح عدم حجية الظن بما هو ظن، بل الاصل الاولي هو عدم حجيته كما تقدّم بيانه في اول مبحث الظن.

و قد اشار الى الوجه في اولوية تبديل الظن بالحكم بالحجة على الحكم بقوله:

«فان المناط فيه» أي ان المناط في تحصيل الحكم الذي هو الاجتهاد «هو تحصيلها» أي تحصيل الحجة على الحكم اما «قوة» و المراد بها هي القوة القريبة «او فعلا لا الظن» بما هو ظن. و اشار الى الدليل على ذلك بقوله: «حتى عند العامة القائلين بحجيّته» أي بحجية الظن «مطلقا او» عند «بعض الخاصة القائل بها» أي بحجيّة الظن «عند انسداد باب العلم بالاحكام فانه مطلقا» أي فان حجية الظن مطلقا «عندهم» أي عند العامة «او» حجيّة الظن «عند الانسداد عنده» أي عند بعض الخاصة انما هو لان الظن «من افراد الحجة» لا لانه بما هو ظن. و اشار الى انه مع تبديل الظن بالحجة لا يرد على التعريف عدم الانعكاس في الموارد التي يشير اليها بقوله: «و لذا لا شبهة في كون استفراغ الوسع في تحصيل غيره» أي غير الظن «من افرادها» أي من افراد الحجة «من العلم بالحكم» هذا بيان لافراد الحجة التي هي غير الظن، لوضوح ان العلم بالحكم ليس هو من الظن بالحكم «او غيره» أي او غير الظن بالحكم «مما اعتبر من الطرق التعبدية غير المفيدة للظن» شخصا كالامارات التي هي من الظنون النوعية او الاصول التعبدية التي هي غير مفيدة للظن «و لو نوعا».

ص: 236

و منه قد انقدح أنه لا وجه لتأبي الاخباري عن الاجتهاد بهذا المعنى، فإنه لا محيص عنه كما لا يخفى، غاية الامر له أن ينازع في حجية بعض ما يقول الاصولي باعتباره و يمنع عنها، و هو غير ضائر بالاتفاق على صحة الاجتهاد بذاك المعنى، ضرورة أنه ربما يقع بين الاخباريين، كما وقع بينهم و بين الاصوليين (1).

______________________________

و قوله (قدس سره): «اجتهادا ايضا» هذا خبر لكون، و التقدير انه لا شبهة في كون هذه الموارد المشار اليها اجتهادا ايضا كما ان الظن بالحكم اجتهاد.

و الحاصل ان الايراد بخروج هذه الموارد انما كان لاخذ الظن في التعريف، و لو بدّل بالحجة لما أورد عليه بذلك. ثم لا يخفى انه مع التبديل بالحجة لا يسلم من ايراد عدم الاطراد لصدق الحجة على الحكم الاصولي مع انه خارج كما عرفت و لا يخفى ايضا انه قال فالاولى و لم يقل فاللازم لاجل ما يراه من كون هذه التعاريف ليست تعاريف حقيقية.

(1) توضيحه: ان بعض الاخباريين انكروا على الاصوليين قولهم بالاجتهاد، مدعين ان قول الاصوليين بالاجتهاد مما لا اساس له في مذهب الخاصة، فهو خروج منهم عن مذهب الخاصة و اخذ بمذهب العامة.

و الظاهر ان السبب في ذلك هو التعريف الاول للاجتهاد: بانه استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم، و الظن لا يغني عن الحق شيئا.

اما على ما ذكرنا من تبديل الظن بالحجة فلا محالة انه لا وجه لانكار الاجتهاد من الاخباريين، لبداهة انه لا بد من الاخذ بالحكم الذي قامت عليه الحجة. و مخالفة الاخباريين للاصوليين في بعض مصاديق الحجة لا يستلزم انكار الاجتهاد.

و بعبارة اخرى: انه بعد كون الكبرى من الامور المسلمة- و هي لزوم الاخذ بما قامت عليه الحجة، و ان الاجتهاد بمعنى استفراغ الوسع لتحصيل الحجة على الحكم مما لا مجال لانكاره- فالاختلاف في بعض صغريات هذه الكبرى لا يستلزم انكار

ص: 237

فصل

ينقسم الاجتهاد إلى مطلق و تجز، فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة، أو أصل معتبر عقلا أو

______________________________

الكبرى من رأس. لانه من الواضح ان الخلاف بين الاصوليين و الاخباريين في بعض مصاديق الحجة ليس هو إلّا كالاختلاف بين الاخباريين انفسهم في بعض مصاديق الحجة ايضا.

و قد اشار الى عدم صحة انكار الاخباريين للاجتهاد حيث يكون الاجتهاد هو استفراغ الوسع لتحصيل الحجة بقوله: «و منه قد انقدح» أي و مما ذكرنا من اولوية تبديل الظن بالحجة ينقدح «انه لا وجه لتأبي الاخباري عن الاجتهاد بهذا المعنى» أي حيث يكون المراد من الاجتهاد هو تحصيل الحجة «فانه لا محيص عنه كما لا يخفى» لعدم امكان تأبي الاخباري عن الاجتهاد بمعنى تحصيل الحجة.

و اشار الى ان مخالفة الاخباريين في بعض مصاديق الحجة لا يستلزم انكار الكبرى و هي اصل الاجتهاد، و انه كالخلاف بين الاخباريين انفسهم في بعض مصاديق الحجة بقوله: «غاية الامر له» أي للاخباري «ان ينازع في حجية بعض ما يقول الاصولي باعتباره» و حجيته، و للاخباري ان لا يرى بعض المصاديق من مصاديق الحجة «و يمنع عنها و هو غير ضائر بالاتفاق على صحة الاجتهاد بذاك المعنى» أي بمعنى تحصيل الحجة «ضرورة انه ربما يقع بين الاخباريين كما وقع بينهم و بين الاصوليين» أي انه من الواضح ان الخلاف كما يقع بين الاخباريين و الاصوليين في بعض مصاديق هذه الكبرى التي لا مناص عن التسليم بها، كذلك يقع الخلاف بين الاخباريين انفسهم في بعض مصاديق هذه الكبرى ايضا.

ص: 238

نقلا في الموارد التي لم يظفر فيها بها، و التجزي هو ما يقتدر به على استنباط بعض الاحكام (1).

ثم إنه لا إشكال في إمكان المطلق و حصوله للاعلام (2)، و عدم التمكن من الترجيح في المسألة و تعيين حكمها و التردد منهم في بعض المسائل إنما

______________________________

(1)

الفصل الثاني: انقسام الاجتهاد الى مطلق و متجز

اشارة

المراد من الاجتهاد المطلق هو السعة و الشمول. فالمجتهد المطلق: هو من كان له ملكة يقتدر بها على استنباط كل حكم من دليله، بان يعرف جميع ما يرجع الى الامارات من الادلة اللفظية و غيرها القائمة على الحكم في مقام دلالتها و مقام تعارضها، و جميع ما يرجع الى الاصول التي هي وظائف للشاك- العقلية منها كقبح العقاب و كالاحتياط الواجب، و النقلية كالبراءة الشرعية و كالاستصحاب- حيث لا تقوم امارة معتبرة على الحكم لا تعيينا و لا تخييرا.

و المتجزي: هو من كان له ملكة يقتدر بها على استنباط بعض الاحكام لا كلها.

و ظهر مما ذكرنا: انه لا بد من كون الملكة موجودة بالفعل، فمن كان له قوة ان تحصل له الملكة ليس بمجتهد مطلق و لا متجز، و إلّا لزم كون جل العوام مجتهدين.

و عبارة المتن واضحة.

(2) لا يخفى انه اذا كان الاجتهاد هو الملكة فلا اشكال في امكان الاجتهاد ذاتا و امكانه وقوعا، بل لا ريب في تحققه خارجا، فان علماءنا الاعلام كلهم لهم ملكة يقتدرون بواسطتها على استنباط جميع الاحكام.

نعم، بناء على كون الاجتهاد هو تحصيل الظن بالحكم الفعلي فهناك مجال لعدم امكانه وقوعا بل لعدم امكانه ذاتا، لاستلزامه الاحاطة بما لا يتناهى تقريبا، و لا سيما مع تحقق عدم الالتفات الى بعض الاحكام لعدم الابتلاء بها مع تحقق مواردها، مضافا الى عدم تحقق موارد بعضها من رأس.

فظهر: ان عدم تحقق الاستنباط للظن الفعلي بجميع الاحكام مما لا ريب فيه.

و لعله لذلك انكر بعضهم الاجتهاد المطلق، فانه مبني على كون الاجتهاد هو تحصيل

ص: 239

هو بالنسبة إلى حكمها الواقعي، لاجل عدم دليل مساعد في كل مسألة عليه، أو عدم الظفر به بعد الفحص عنه بالمقدار اللازم، لا لقلة الاطلاع أو قصور الباع.

و أما بالنسبة إلى حكمها الفعلي، فلا تردد لهم أصلا (1)، كما لا إشكال في جواز العمل بهذا الاجتهاد لمن اتصف

______________________________

الظن الفعلي بالحكم. و لكنه حيث كان الاجتهاد هو الملكة فتحقق الملكة التي يقتدر بها على استنباط جميع الاحكام الفعلية و المقدرة مما لا ينبغي الاشكال فيه.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «ثم انه لا اشكال في امكان المطلق و حصوله للاعلام» و ذلك لما مر تحقيقه من ان الاجتهاد هو الملكة.

(1)

توهم عدم وقوع الاجتهاد المطلق و الجواب عنه

حاصله: الاشارة الى ما يمكن ان يتوهم من عدم وقوع الاجتهاد المطلق حتى للاعلام فكيف في غيرهم، بدعوى ان كتب الاعلام مملوءة بتصريحهم بعدم التمكن من تعيين الحكم الفعلي في بعض المسائل- كالقائلين بالتوقف في بعض المسائل- و تصريحهم بالتردد في الحكم الفعلي في بعض المسائل، و لا يخلو كتاب من كتبهم عن ذلك. و لو كانوا مجتهدين بالاجتهاد المطلق لما صرحوا بعدم التمكن و لا بالتردد. و قد اشار الى هذا التوهم بقوله: «و عدم التمكن من الترجيح ... الى آخر الجملة».

و الجواب عنه: ان تصريحهم بعدم التمكن في بعض المسائل و تصريحهم بالتردد في بعضها انما هو بالنسبة الى الحكم الواقعي، لا بالنسبة الى الحكم الظاهري الذي قامت عليه الحجة فان مقامهم اجل من ذلك. و السبب في تصريحهم بعدم التمكن من تعيين الحكم الواقعي و التردد فيه يرجع: تارة الى عدم مساعدة ادلة كافية على الحكم الواقعي، و اخرى ترجع الى تورعهم لاحتمال وجود دليل لم يظفروا به و ان فحصوا بالمقدار اللازم في مقام الفحص عنه. و اما قدرتهم على استنباط الحكم الظاهري الفعلي لكل مسالة لأعلام العلماء فمما لا ريب فيها.

ص: 240

به (1)، و أما لغيره فكذا لا إشكال فيه، إذا كان المجتهد ممن كان باب العلم أو العلمي بالاحكام مفتوحا له- على ما يأتي من الادلة على جواز

______________________________

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «انما هو» أي ان عدم التمكن من تعيين الحكم و التردد فيه انما هو «بالنسبة الى حكمها الواقعي» لا حكم المسألة الظاهري الفعلي.

و اشار الى الوجهين- لعدم التمكن من الحكم الواقعي او التردد فيه- بقوله: «لاجل عدم دليل مساعد في كل مسألة عليه» أي على الحكم الواقعي و هذا هو الوجه الاول. و الى الوجه الثاني اشار بقوله: «او عدم الظفر به ... الى آخر الجملة».

و اشار الى قدرتهم على الاستنباط للحكم الفعلي الظاهري في كل مسألة بقوله:

«و اما بالنسبة الى حكمها» أي الى حكم المسألة الظاهري «الفعلي فلا تردد لهم اصلا» فيه.

(1) و الوجه في عدم الاشكال في جواز عمل المجتهد في عمل نفسه بما ادى اليه اجتهاده واضح، لانه بعد فرض كونه ذا ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم، و بعد فرض اعمالها و وصوله الى الحكم عن الحجة التي قامت عليه عنده لا مناص عن كون ذلك الحكم هو الحكم الشرعي الفعلي في نظره، و ليس الحكم الشرعي الفعلي في نظره الا نفس ذلك الحكم. و مع فرض انحصار الحكم الفعلي الشرعي بما ادى اليه نظره لا ريب في جواز عمله على طبقه. بل الظاهر ان مراد المصنف من الجواز في المقام هو الجنس العام الشامل للوجوب، لوضوح انه مع الفرض المذكور يجب على المجتهد العمل على طبق ما ادى اليه نظره، او يحتاط و لا يجوز له العمل على غيره، لان عمله على غيره حيث لا يكون موافقا لرأي غيره من المجتهدين هو من العمل على خلاف الحكم الفعلي عند الكل، و حيث يكون غير ما ادى اليه نظره موافقا لرأي غيره، بان يؤدي نظره- مثلا- الى كون الحكم الفعلي هو الوجوب، و يكون رأي غيره قد ادى الى غير الوجوب فيعمل على طبق رأي غيره و هو لا يجوز قطعا ايضا، لانه حيث كان عدم الوجوب في نظره مخالفا لما هو الحكم الفعلي، و لازم ذلك كون

ص: 241

التقليد (1)- بخلاف ما إذا انسد عليه بابهما، فجواز تقليد الغير عنه في غاية الاشكال، فإن رجوعه إليه ليس من رجوع الجاهل إلى العالم بل إلى الجاهل، و أدلة جواز التقليد إنما دلت على جواز رجوع غير العالم إلى العالم كما لا يخفى، و قضية مقدمات الانسداد ليست إلا حجية الظن عليه

______________________________

من يرى عدم الوجوب جاهلا بالحكم الفعلي في نظره، فيكون رجوعه الى الغير من رجوع العالم الى الجاهل. و اما عمله على طبق رأي غيره الموافق لرأيه فهو عمل على طبق رأي نفسه لا على طبق رأي غيره.

(1) بعد ما عرفت من صحة عمل المجتهد على طبق رأيه، بل لزوم عمله على طبقه ..

تعرض لعمل الغير على طبق رأي المجتهد. و المراد من الغير هو الجاهل المقلد، و الغرض هو التعرض للاشكال في جواز رجوع الغير الى المجتهد الذي يرى انسداد باب العلم و العلمي، و يكون الظن بالحكم عنده حجة للانسداد حكومة او كشفا.

و اما رجوع الغير الى المجتهد الذي يرى انفتاح باب العلم و العلمي فلا اشكال فيه، لنهوض ادلة التقليد على جواز رجوع الجاهل بالحكم الى العالم به، و حيث ان من يرى انفتاح باب العلم أو العلمي له علم بالحكم- اما واقعا او ظاهر- فلا محالة يجوز تقليده و رجوع الغير اليه.

و قد اشار الى جواز رجوع الغير الى المجتهد القائل بالانفتاح بقوله: «و اما لغيره» أي جواز العمل على طبق الاجتهاد الذي ادى اليه رأي المجتهد بالنسبة الى غير المجتهد ممن كان له الرجوع الى الغير و هو المقلد غير المجتهد «فكذا لا اشكال فيه» أي انه ايضا لا اشكال في رجوع الغير الى المجتهد و العمل على طبق رأيه، كما كان للمجتهد نفسه العمل على طبق ما ادى اليه نظره فيما «اذا كان المجتهد ممن كان باب العلم أو العلمي بالاحكام مفتوحا له». و اشار الى دلالة ادلة التقليد على ذلك بقوله: «على ما يأتي من الادلة على جواز التقليد».

ص: 242

لا على غيره (1)، فلا بد في حجية اجتهاد مثله على غيره من التماس دليل آخر غير دليل التقليد و غير دليل الانسداد الجاري في حق

______________________________

(1)

للاشكال في رجوع الغير الى المجتهد الذي انسد باب العلم و العلمي عليه

حاصله: التعرض للاشكال في رجوع الغير الى المجتهد الذي انسد باب العلم و العلمي عليه .. و قد اشار في المتن الى اشكالين:

الاول مختص بمن يرى الانسداد من باب الحكومة. و بيانه: ان الانسداد من باب الحكومة هو حجية الظن عقلا، و قد عرفت ان ادلة التقليد انما تدل على رجوع الجاهل بالحكم الى العالم به اما واقعا او ظاهرا، فلا دلالة لها على رجوع الغير الى المجتهد الذي يرى الانسداد من باب الحكومة، لعدم العلم له بالحكم لا واقعا و هو واضح، و لا ظاهرا لعدم جعل حجية الظن شرعا ليستلزم ذلك جعل الحكم الظاهري على طبق ما ادى اليه الظن. و حيث لا علم للمجتهد الذي يرى الانسداد- من باب الحكومة- بالحكم لا واقعا و لا ظاهرا، فلا يكون رجوع الغير اليه من رجوع الجاهل بالحكم الى العالم بالحكم، بل يكون من رجوع الجاهل بالحكم الى الجاهل بالحكم، لما عرفت من عدم علمه بالحكم لا واقعا و لا ظاهرا.

و قد اشار الى هذا الاشكال المختص بالحكومة بقوله: «فان رجوعه اليه ليس من رجوع الجاهل الى العالم» و اشار الى ان الوجه في ذلك هو ان ادلة التقليد لا تشمله لانه من رجوع الجاهل بالحكم الى الجاهل بالحكم، لا الى العالم بالحكم بقوله: «و ادلة جواز التقليد انما دلت ... الى آخر الجملة».

الاشكال الثاني: و هو ما يشمل الانسداد من باب الحكومة و من باب الكشف.

و حاصله: ان ادلة التقليد انما تدل على رجوع الغير الى المجتهد حيث لا يختص موضوع الحجية بخصوص المجتهد، اما في ما اختص بخصوص المجتهد بحيث لا تتعداه الى غيره فلا يجوز رجوع الغير اليه.

و بيان ذلك: ان المجتهد الذي يرى الانفتاح قد قام الدليل عنده على حكم لا يختص موضوعه به، فان من يرى حجية الخبر الواحد فاذا ادى خبر الواحد الى

ص: 243

المجتهد (1)، من إجماع أو جريان مقدمات دليل الانسداد في حقه، بحيث تكون منتجة بحجية الظن الثابت حجيته بمقدماته له أيضا، و لا مجال

______________________________

حكم فقد ادى الى حكم لا يختص موضوعه به، بل موضوعه هو الذي قد ترتب عليه الحكم في الخبر. بخلاف المجتهد الذي يرى الانسداد، فان الانسداد مبني على مقدمات خمس: و هي العلم الاجمالي بالاحكام، و انسداد باب العلم و العلمي اليها، و انه لا يجوز الاهمال، و لا يجوز الاحتياط لاستلزامه الخلل بالنظام أو لا يجب لادلة رفع العسر و الحرج، و لا يجوز الرجوع الى الاصول و لا الى الغير .. فلذلك يتعين الظن اما حكومة او كشفا.

و من الواضح ان جل هذه المقدمات مفقودة بالنسبة الى المقلد، لعدم معرفة العامي بانسداد باب العلم و العلمي، و عدم التفاته الى عدم جواز الاهمال، و لانه يجوز له الرجوع الى الغير اذ المفروض ان هناك من المجتهدين ممن يرى انفتاح باب العلم او العلمي، و كذا فيما اذا كان العامي ممن يمكنه الاحتياط و لا خلل في النظام يلزم من احتياطه، أو لا يكون الاحتياط عسرا بالنسبة اليه، او كان الاحتياط عسرا عليه إلّا انه حيث لا معرفة له بما يرفع العسر فيجب عليه الاحتياط و ان كان عسرا.

و على كل فلا تتم مقدمات الانسداد فيه.

و عليه فلا محالة يختص الانسداد بمن تمت عنده مقدماته، و هو المجتهد الذي يرى الانسداد و لا يجوز تقليد الغير له، لعدم تمامية مقدمات الانسداد في حق غيره، بل تكون المقدمات مما تختص بالمجتهد الذي يرى الانسداد لا غير. و قد اشار الى هذا الاشكال الثاني بقوله: «و قضية مقدمات الانسداد الى آخر الجملة».

(1) هذا اجمال للاشكالين، و حاصله: انه بعد ما عرفت- من ان ادلة التقليد تختص برجوع الجاهل بالحكم الى العالم به، و ان رجوع الغير لمن يرى الانسداد من رجوع الجاهل الى الجاهل لا الى العالم، و ان دليل الانسداد مختص موضوعا بالمجتهد الذي يرى الانسداد و لا يشمل غيره- تعرف ان رجوع الغير لمن يرى الانسداد لا بد له من

ص: 244

لدعوى الاجماع، و مقدماته كذلك غير جارية في حقه، لعدم انحصار المجتهد به، أو عدم لزوم محذور عقلي من عمله بالاحتياط و ان لزم منه العسر، إذا لم يكن له سبيل إلى إثبات عدم وجوبه مع عسره (1).

______________________________

التماس دليل آخر يدل عليه بالخصوص غير ادلة التقليد، لعدم شمولها له، و غير دليل الانسداد لعدم تمامية مقدماته في حق غير المجتهد الذي يرى الانسداد. و لذا قال (قدس سره): «فلا بد في حجية اجتهاد مثله» أي مثل من يرى الانسداد «غير دليل التقليد» لما عرفت من عدم شمول أدلة التقليد لمن يرى الانسداد «على غيره» و هو العامي «من التماس دليل آخر» يدل على جواز تقليد العامي لمن يرى الانسداد «و غير دليل الانسداد الجاري في حق المجتهد» لاختصاصه بخصوص المجتهد الذي يرى الانسداد و لا يشمل غيره من العوام كما عرفت.

(1) و لا وجه لكلا الدعويين: اما دعوى الاجماع فبان يدعى انه قد قام الاجماع على جواز تقليد الجاهل حتى لمن يرى الانسداد، فلبداهة بطلان هذه الدعوى، لان مسألة الانسداد من المسائل المستحدثة الواقعة في الغيبة الكبرى، بل هي بعد انقضاء زمن طويل في هذه الغيبة، لوضوح انه الى زمان علم الهدى (قدس سره) لا اثر لها، لانه (قدس سره) ممن يرى وصول جل الاحكام بما يوجب العلم كالتواتر، أو الظن الاطمئناني المتاخم للعلم بواسطة دلالة الاخبار على ما يوجب الاطمئنان المتاخم للعلم، و ليس للانسداد عند المتقدمين عين و لا اثر.

و اما دعوى جريان انسداد آخر في حق المقلد نفسه- غير دليل الانسداد الجاري في حق المجتهد- فبطلانه يظهر مما مر.

و قد اشار الى بطلان دعوى الاجماع بقوله: «و لا مجال لدعوى الاجماع».

و اشار الى عدم جريان انسداد في حق المقلد- غير الانسداد الجاري في حق المجتهد- بقوله: «و مقدماته» أي و مقدمات الانسداد «كذلك غير جارية في حقه» أي في حق المقلد «لعدم انحصار المجتهد به» أي بمن يرى الانسداد، و عليه فلا ينحصر امر

ص: 245

نعم، لو جرت المقدمات كذلك، بأن انحصر المجتهد، و لزم من الاحتياط المحذور، أو لزم منه العسر مع التمكن من إبطال وجوبه حينئذ، كانت منتجة لحجيته في حقه أيضا (1)، لكن دونه خرط القتاد، هذا على 24]

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 9 ؛ ص246

______________________________

المقلد بتقليد من يرى الانسداد، و حيث لا ينحصر امره بذلك فلا يتم دليل الانسداد في حقه، لشمول ادلة التقليد له في رجوعه الى من يرى الانفتاح «او عدم لزوم محذور عقلي من عمله بالاحتياط» بان لا يلزم من احتياط هذا العامي الخلل بالنظام حتى يدل العقل على المنع عن احتياطه. اما اذا لزم من احتياطه العسر فلا مانع منه لان رفع العسر يحتاج الى معرفة الدليل الدال على رفعه، و حيث فرض انه جاهل لا معرفة له بمثل ذلك فيجب عليه الاحتياط و ان كان عسرا، و حيث يجب عليه الاحتياط فلا تتم مقدمات الانسداد في حقه. و اشار الى هذا بقوله: «و ان لزم منه العسر ... الى آخر الجملة».

(1) حاصله: لو جرى دليل انسداد آخر عند المقلد- غير دليل الانسداد الجاري عند المجتهد- لكان دليلا على جواز رجوع الجاهل الى المجتهد الذي يرى الانسداد، و ذلك بان لا يكون هناك مجتهد يرى الانفتاح و ينحصر المجتهد بمن يرى الانسداد، و حينئذ لا يمكن للجاهل امتثال الحكم لا بالعلم و لا بالعلمي، لعدم علمه بنفسه بالحكم و لا معرفة له بالعلمي المؤدى الى الحكم. و ليس هناك ايضا- على الفرض من عدم وجود المجتهد الذي يرى الانفتاح- من له معرفة بالحكم لا بالعلم و لا بالعلمي، و على هذا ينسد على الجاهل باب الرجوع الى الغير في الحكم الواقعي و الظاهري. و ايضا لا بد في تمامية دليل الانسداد عند الجاهل من عدم تمامية الاحتياط بالنسبة اليه، بان يلزم من احتياطه اما الخلل في النظام او العسر، و يكون الجاهل ملتفتا الى حكم العقل بعدم صحة الاحتياط المستلزم للخلل في النظام، و يكون الجاهل ايضا قادرا على نفي العسر بالادلة النافية له، و حينئذ يتم دليل الانسداد في حق العامي،

ص: 246

تقدير الحكومة (1).

و أما على تقدير الكشف و صحته، فجواز الرجوع إليه في غاية الاشكال لعدم مساعدة أدلة التقليد على جواز الرجوع إلى من اختص حجية ظنه به، و قضية مقدمات الانسداد اختصاص حجية الظن بمن جرت في حقه دون غيره، و لو سلم أن قضيتها كون الظن المطلق معتبرا شرعا، كالظنون الخاصة التي دل الدليل على اعتبارها بالخصوص (2)،

______________________________

و ينحصر امره مع العلم بالاحكام و عدم جواز الاهمال و عدم تمكنه من الاحتياط بانحصار امره في الرجوع الى من يرى الانسداد.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «نعم لو جرت المقدمات» المتوقف عليها الانسداد «كذلك» أي في حق الجاهل كما فرض جريانها في حق المجتهد. ثم اشار الى كيفية جريان مقدمات الانسداد بالنسبة الى الجاهل بقوله: «بان انحصر المجتهد» في من يرى الانسداد «و» ان يحصل للعامي الجاهل المعرفة بعدم وجوب الاحتياط عليه و ذلك بان «لزم من الاحتياط» اما «المحذور» العقلي و هو الخلل في النظام «او لزم منه» أي من الاحتياط «العسر مع» فرض «التمكن» للعامي الجاهل «من ابطال وجوبه» أي ابطال وجوب الاحتياط بأدلة نفي العسر و «حينئذ كانت» تلك المقدمات «منتجة لحجيته» أي منتجة لحجية رأي المجتهد الذي يرى الانسداد «في حقه» أي في حق الجاهل.

(1) توضيحه: ان قد اشكل على الرجوع الى من يرى الانسداد على نحو الحكومة باشكالين: اشكال يخصه، و اشكال مشترك بينه و بين الانسداد على الكشف، و قد اشار اليهما معا.

(2) يشير الى الاشكال الثاني المشترك الورود بين الانسداد على الحكومة و على الكشف، و هو اختصاص حجية الظن- سواء كانت بحكم العقل او كانت بنحو الكشف عن حجية الظن شرعا عند الانسداد- بخصوص المجتهد الذي يرى الانسداد،

ص: 247

فتأمل (1).

______________________________

و لا يصح للجاهل الرجوع اليه، لعدم جريان الانسداد في حق المقلد، و عدم شمول ادلة التقليد له. اما عدم تمامية مقدمات الانسداد في حقه على الكشف فواضح ايضا.

و اما عدم شمول ادلة التقليد له و ان كان نتيجة دليل الانسداد هي جعل الشارع الظن حجة عند الانسداد كما هو مبنى القول بالكشف، فلان الظاهر من ادلة التقليد هو رجوع المقلد الى المجتهد، مع اشتراك المقلد مع المجتهد في ان كلا منهما موضوع للحكم. اما اذا كان الموضوع للحكم مما يختص بالمجتهد فغير مشمول لظاهر ادلة التقليد، مع ان الظاهر من ادلة التقليد كمقبولة ابن حنظلة و غيرها هو معرفة احكامهم مما ورد عنهم من الأحاديث، لا مطلق معرفة الحكم و لو بالانسداد، لظهور قوله عليه السّلام- من نظر في حلالنا و عرف احكامنا- في النظر فيما ورد عنهم، و معرفة الحكم من ذلك الذي ورد عنهم دون مطلق معرفة الحكم و لو بالانسداد، و عليه فمعرفة الحكم بالانسداد مما تختص بخصوص من يرى الانسداد، و لا يكون رأيه حجة في حق المقلد، لعدم شمول ادلة التقليد لمثل ذلك.

و قد اشار الى عدم مساعدة ادلة التقليد على جواز رجوع الغير الى من يرى الانسداد و لو كان بنحو الكشف بقوله: «لعدم مساعدة ادلة التقليد ... الى آخر كلامه». و قوله: «و لو سلم» اشارة الى ان رأيه كون نتيجة الانسداد هي الحكومة دون الكشف.

(1) لعله اشارة الى ان مقدمات الانسداد و ان اقتضت ان حجية الظن- على الحكومة و على الكشف- مختصة بخصوص المجتهد الذي يرى الانسداد- إلّا ان ادلة التقليد و أدلة جواز الافتاء و الاستفتاء تشمل تقليد من يرى الانسداد كما تشمل تقليد من يرى الانفتاح.

و توضيح ذلك: ان المتحصل من ادلة التقليد و جواز الافتاء و الاستفتاء. اما على الانفتاح فبناء على جعل الحكم المماثل هو جعل الحكم الذي ينتهي اليه رأي المجتهد

ص: 248

.....

______________________________

من الخبر، و جعل الحكم الذي ينتهي اليه في مورد الاصول العملية كالاستصحاب و البراءة الشرعية للمقلد ايضا، لدلالة ادلة التقليد و ادلة الافتاء و الاستفتاء على تنزيل المجتهد منزلة المقلد، فالحكم الذي ينتهي اليه رأي المجتهد هو حكم المقلد ايضا.

و اما بناء على جعل الحجية فما كان منجزا عند المجتهد لو اصاب و معذرا له لو خالف هو منجز ايضا عند المقلد و معذر له.

و منه يظهر انه لا مانع من تقليد من يرى الانسداد على الحكومة فضلا عن الكشف، لدلالة ادلة التقليد على التنزيل، فالظن سواء كان حجة بحكم العقل او كان حجة بجعل الشارع كان منجزا للمقلد و معذرا له كما هو كذلك بالنسبة الى المجتهد.

و الحاصل: ان تنزيل رأي المجتهد بمنزلة رأي المقلد بواسطة ادلة التقليد و جواز الافتاء، لازمه كون رأي المجتهد رأي المقلد، سواء كان الدال على حجية رأي المجتهد هو العقل بناء على الحكومة او الشرع كما هو مبنى الكشف، فكل ما كان حجة على الحكم عند المجتهد- سواء كان غير مجعول شرعا كالقطع و الظن على الحكومة، او كان مجعولا شرعا بناء على الظن على الكشف- هو حجة عند المقلد.

و بعبارة اوضح: ان المستفاد من ادلة جواز التقليد هو رجوع المقلد الى المجتهد فيما هو الحجة عند المجتهد، سواء كانت حجيته بحكم العقل او بحكم الشرع، و المستفاد منها ايضا هو تنزيل رأي المجتهد منزلة رأي المقلد بالنسبة الى ما كان حجة عند المجتهد.

و منه يظهر عدم ورود الاشكال الاول على الحكومة، لعدم انحصار ادلة التقليد في رجوع الجاهل بالحكم الى العالم بالحكم، بل المستفاد منها هو كون رأي المجتهد رأي المقلد تنزيلا. و عدم ورود الاشكال الثاني على الحكومة، لان دليل الانسداد و ان لم يجر في حق المقلد، إلّا ان ادلة التقليد تثبت حجية رأي المجتهد للمقلد للتنزيل المستفاد من ادلة التقليد. و عدم ورود الاشكال- ايضا- على الكشف، لان المراد من

ص: 249

إن قلت: حجية الشي ء شرعا مطلقا لا توجب القطع بما أدى إليه من الحكم و لو ظاهرا، كما مر تحقيقه، و أنه ليس أثره إلا تنجز الواقع مع الاصابة، و العذر مع عدمها، فيكون رجوعه إليه مع انفتاح باب العلمي عليه أيضا رجوعا إلى الجاهل، فضلا عما إذا انسد عليه (1).

______________________________

معرفة الحكم هو معرفته المطلقة لا خصوص معرفته مما ورد عنهم من الاحاديث كما هو معرفة من يرى الانفتاح، بل المراد معرفة حكمهم من الحجة. و لعل النكتة في ذكر النظر في احاديثهم و معرفة احكامهم كونها في قبال المعرفة من طريق القياس.

و اللّه العالم.

(1) حاصله: ان ما تقدم في وجه عدم شمول ادلة التقليد لتقليد من يرى الانسداد على نحو الحكومة هو كون الظاهر منها رجوع الجاهل بالحكم الى العالم بالحكم، و لذا كان تقليد من يرى الانسداد على نحو الحكومة غير مشمول لأدلة التقليد، لأن الانسداد على نحو الحكومة هو حجية الظن عقلا، و ليس هناك حكم شرعي لا واقعي و لا ظاهري، بخلاف من يرى الانفتاح فانه له علم بالحكم اما واقعا كما فيما اذا كان الحكم مستفادا من مثل التواتر او قلنا بالموضوعية في الامارات، او ظاهرا كما فيما اذا استفاد الحكم من مثل خبر الواحد، إلّا ان هذا انما يتم حيث نقول بجعل الحكم الظاهري في موارد الامارات ... اما على القول بان المجعول فيها هو الحجية- كما هو رأي المصنف- فليس هناك حكم ظاهري مجعول، و عليه فلا ينبغي ان يكون تقليد من يرى الانفتاح مشمولا لادلة التقليد ايضا في جل الفقه، لأن جل الفقه مما قام عليه الخبر الواحد و المجعول فيه هو الحجية دون الحكم الظاهري، فلا قطع للمجتهد في موارد الامارات بالحكم لا واقعا و هو ظاهر، و لا ظاهرا لعدم كون المجعول فيها هو الحكم الظاهري، بل المجعول فيها نفس الحجية و اثرها تنجيز الواقع لو اصابت و العذر لو خالفت. و حيث لا حكم مقطوعا به لا واقعا و لا ظاهرا للمجتهد- الذي يرى الانفتاح في موارد الامارات- فيكون رجوع

ص: 250

قلت: نعم، إلا أنه عالم بموارد قيام الحجة الشرعية على الاحكام، فيكون من رجوع الجاهل إلى العالم (1).

______________________________

الجاهل اليه في هذه الموارد من رجوع الجاهل بالحكم الى الجاهل بالحكم، لا من رجوع الجاهل بالحكم الى العالم بالحكم اما واقعا او ظاهرا.

و مما ذكرنا يظهر الاشكال ايضا في تقليد من يرى الانسداد من باب الكشف من هذه الناحية، لا من ناحية اختصاص موضوع الانسداد بمن يرى الانسداد- كما هو مبنى الاشكال المشترك بين الحكومة و الكشف- لأن المجعول شرعا بناء على الكشف هو حجية الظن شرعا بمعنى كونه منجزا عند الشارع لو اصاب و معذرا لو خالف، لا جعل الحكم الظاهري على طبق ما ادى اليه الظن.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «ان قلت حجية الشي ء شرعا مطلقا» أي سواء بناء على الانسداد من باب الكشف او بناء على الانفتاح «لا توجب القطع بما ادى اليه من الحكم و لو ظاهرا» لان المجعول هو الحجية لا الحكم الظاهري «كما مر تحقيقه» في مبحث الظن «و انه ليس اثره» أي ليس اثر الجعل في المقامين بناء على كون المجعول فيهما هو الحجية «الا تنجز الواقع مع الاصابة و العذر مع عدمها» أي مع عدم الاصابة و ليس المجعول هو الحكم الظاهري، و على هذا «فيكون رجوعه اليه» أي رجوع الغير الى المجتهد غير مشمول لادلة التقليد حتى «مع انفتاح باب العلمي عليه ايضا» و يكون رجوع الغير حتى الى المجتهد الذي يرى الانفتاح «رجوعا الى الجاهل فضلا عما اذا انسد عليه» باب العلمي.

(1) توضيح الجواب: ان المستفاد من ادلة التقليد ليس هو خصوص رجوع الجاهل بالحكم الى العالم به، بل رجوع الجاهل بالحجة شرعا الى العالم بها شرعا في ما ورد عنهم، و حيث ان في موارد الامارات و الاخبار الواردة عنهم عليهم السّلام جعلا شرعيا غايته انه للحجية فهناك مجعول شرعي لمن يرى الانفتاح. و اما الانسداد فعلى الحكومة لا جعل شرعي و لكن هناك حجة بدليل العقل، و على الكشف فهناك جعل

ص: 251

إن قلت: رجوعه إليه في موارد فقد الامارة المعتبرة عنده التي يكون المرجع فيها الاصول العقلية، ليس إلا الرجوع إلى الجاهل (1).

قلت: رجوعه إليه فيها إنما هو لاجل اطلاعه على عدم الامارة الشرعية فيها، و هو عاجز عن الاطلاع على ذلك، و أما تعيين ما هو

______________________________

شرعي لحجية الظن. و المستفاد من ادلة التقليد هو معرفة الحجة المجعولة في احاديثهم و جعل مطلق الحجة و لو بنحو الانسداد، كما يدل على ذلك قوله عليه السّلام في المقبولة:

(من نظر في حلالنا و حرامنا و عرف احكامنا) فان المراد من معرفة احكامهم هو معرفة الحجة في موارد احاديثهم لا معرفة الحكم الظاهري. و الى هذا اشار بقوله: «قلت نعم إلّا انه عالم بموارد قيام الحجة الشرعية على الاحكام» و على هذا تشمله ادلة التقليد «فيكون» رجوع الغير اليه «من رجوع الجاهل الى العالم».

(1)

الاشكال في رجوع الجاهل الى المجتهد في مورد الاصول العقلية

حاصله الاشكال في رجوع الجاهل الى المجتهد في مورد الاصول العقلية كقبح العقاب بلا بيان و مورد الاحتياط في الشبهة الحاكم به العقل.

و بيان الاشكال: ان في هذه الموارد انه لا علم للمجتهد بالحكم الشرعي لا واقعا و لا ظاهرا، اما واقعا فلأنه فرض الشك في الحكم الواقعي، و اما ظاهرا فلأن المفروض ان لا جعل من الشارع في مورد الاصول العقلية لا للحكم الظاهري في موردها، و لا جعل الشارع ايضا لحجية نفس هذه الاصول العقلية، بل الحاكم بها هو العقل، و لازم ذلك عدم علم المجتهد في موارد هذه الاصول بالحكم لا واقعا و لا ظاهرا، و حيث لا علم له بالحكم كذلك فيكون رجوع الغير اليه من رجوع الجاهل بالحكم الى الجاهل بالحكم، لا من رجوعه الى العالم بالحكم.

و قد اشار الى كون الاشكال في موارد الاصول العقلية بقوله: «التي يكون المرجع فيها» أي في هذه الموارد التي لا امارة شرعية معتبرة فيها بحيث يكون المرجع فيها هي «الاصول العقلية». و اشار الى ان هذا الرجوع هو من رجوع الجاهل الى الجاهل لا الى العالم بقوله: «ليس إلّا الرجوع الى الجاهل».

ص: 252

حكم العقل و أنه مع عدمها هو البراءة أو الاحتياط، فهو إنما يرجع إليه، فالمتبع ما استقل به عقله و لو على خلاف ما ذهب إليه مجتهده (1)،

______________________________

(1) توضيحه: انه ان قلنا انه يجوز التقليد في المسألة الاصولية كما يجوز في المسألة الفرعية، و قلنا بانه لا فرق في التقليد في الرجوع الى الغير بين مورد ثبوت الحكم و مورد ثبوت عدم الحكم في المسألة الاصولية، فلا مانع من التقليد هنا لأنه تقليد في المسألة الاصولية، و موردها ثبوت عدم الحكم الفعلي بحكم العقل.

هذا بالنسبة الى حكم الشك في الحكم الفعلي في مورد الاصول العقلية.

و اما بالنسبة الى حكم العقل في هذه الموارد هل هو ان الاصل عند العقل هو البراءة او الاحتياط؟ .. فلا رجوع للمقلد في ذلك الى المجتهد، بل يرجع الى ما يحكم به عقله من انه هو البراءة او الاحتياط.

و الحاصل: ان هنا مقامين: مقام تعيين كون المورد من موارد الاصول العقلية، و مقام كون الاصل في المقام أي شي ء هو؟ و في المقام الاول لا مانع من جواز التقليد لأنه تقليد في الحكم الاصولي، و في المقام الثاني لا وجه للتقليد بل المقلد يرجع الى حكم عقله.

و اما اذا قلنا بانه لا دلالة لادلة التقليد على جوازه في المسألة الاصولية ...

فنقول: ان المناط في جواز التقليد هو عجز المقلد عن معرفة وظيفته في مقام الشك في الحكم الفعلي، و حيث انه شاك في الحكم الفعلي و عاجز عن رفع شكه فله الرجوع الى القادر على رفع شكه، و لذلك كان له الرجوع الى المجتهد بهذا المقدار و هو انه لا حكم فعلي في المقام، و اما حكم العقل حيث لا تكون للحكم فعلية هل هو البراءة او الاحتياط فلا رجوع فيه من المقلد الى المجتهد، بل اللازم على المقلد رجوعه الى ما يحكم به عقله في المقام و انه هل هو البراءة او الاحتياط؟

و قد اشار المصنف الى تقليد الغير للمجتهد في موارد الاصول العقلية في المقام الاول بقوله: «رجوعه اليه» أي رجوع المقلد الى المجتهد «فيها» أي في موارد

ص: 253

فافهم (1).

______________________________

الاصول العقلية «انما هو لاجل اطلاعه» أي لاجل اطلاع المجتهد «على عدم الامارة الشرعية فيها» و انه من موارد الاصول العقلية «و هو عاجز عن الاطلاع على ذلك» أي ان المقلد عاجز عن معرفة انه لا امارة شرعية في المقام و انه من موارد الاصول العقلية.

و اشار الى انه لا وجه للتقليد في تعيين ما هو الاصل العقلي الجاري في تلك الموارد و انه هل هو البراءة او الاحتياط، و انه لا بد من رجوع المقلد الى ما يراه عقله بقوله: «و اما تعيين ما هو حكم العقل و انه مع عدمها» أي مع عدم الامارة الشرعية ما ذا يحكم العقل به من حيث ان الاصل عنده هل «هو البراءة او الاحتياط فهو انما يرجع اليه» أي انما يرجع الى نفس المقلد «فالمتبع ما استقل به عقله» أي عقل المقلد «و لو» كان «على خلاف ما ذهب اليه مجتهده».

(1) لعله اشارة الى أنه انما يصح للمقلد الرجوع الى ما يحكم به عقله من البراءة او الاحتياط حيث يكون المقلد ممن يعرف قبح العقاب بلا بيان، و يعرف العلم الاجمالي، او شغل الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، و يعرف مواردهما.

و فرض المقلد كذلك فرض كونه مجتهدا بهذا المقدار و هو خلف. و اما العامي الذي لا يعرف شيئا و لم يقرأ و لم يكتب فكيف يعقل له ان يرجع الى ما يحكم به عقله؟

او انه اشارة الى انه بناء على عدم صحة التقليد في المسألة الاصولية، بدعوى ان اثر المسألة الاصولية هو التمكن من الاستنباط، و حيث المفروض عدم قدرة المقلد على الاستنباط فلا اثر للتقليد في المسائل الاصولية.

و اما رجوع المقلد الى المجتهد لعجزه عن رفع شكه في وجود الامارة او الحجة الشرعية و عدمهما فله الرجوع الى المجتهد بمناط ان للمقلد الرجوع الى المجتهد في كل ما يعجز عنه.

ص: 254

و كذلك لا خلاف و لا إشكال في نفوذ حكم المجتهد المطلق إذا كان باب العلم أو العلمي له مفتوحا، و أما إذا انسد عليه بابهما ففيه إشكال على الصحيح من تقرير المقدمات على نحو الحكومة (1)، فإن مثله كما

______________________________

فيرد عليه: ان هذا انما يتم حيث يلتفت المقلد فيشك، اما اذا لم يلتفت فلا شك عنده حتى يحصل له العجز فيرجع الى المجتهد.

فالحق في الجواب ان يقال: ان ادلة التقليد و ادلة جواز الافتاء و الاستفتاء مرجعها الى تنزيل علم المجتهد و ظنه و شكه منزلة علم المقلد و ظنه و شكه، و نتيجة ذلك جواز رجوع المقلد الى المجتهد في كل ما يراه، سواء كان انفتاحيا او انسداديا، و سواء كان في الاصول العقلية او في الاصول الشرعية، من غير فرق اصلا، كما تقدمت الاشارة الى ذلك في شرح قوله فتأمل السابق. و اللّه العالم.

(1)

نفوذ قضاء المجتهد المطلق الانفتاحي

لا يخفى انه يريد ان يتكلم في ثبوت منصب القضاء، هل هو للمجتهد المطلق او يشمل المتجزى؟ و لما كان دليل ذلك هو الاخبار لا غير ... فلذا لا بد من التكلم فيها و انها هل لها دلالة على الشمول ام لا؟

و اما التقليد فحيث انه لا ينحصر دليله بالاخبار فلذا كان خارجا عن المقام.

و يتكلم ايضا بعد ثبوت الجعل لمنصب القضاء لمن يرى الانفتاح، فهل يشمل الجعل من يرى الانسداد ام لا؟

ثم لا يخفى ان الاصل عدم ثبوت منصب القضاء للمجتهد، و الاصل عدم نفوذ رأيه على غيره في القضاء. و الاصل و ان كان كذلك في التقليد: أي ان الاصل عدم صحة رجوع الجاهل الى المجتهد المطلق، و الاصل عدم نفوذ رأي المجتهد المطلق على الجاهل، إلّا ان أدلة جواز التقليد غير منحصرة في الاخبار كما سيأتي الاشارة اليها ان شاء اللّه تعالى. بخلاف ثبوت منصب القضاء للمجتهد فانه منحصر في الاخبار، كصحيح ابي خديجة الذي ورد فيه: (انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا

ص: 255

.....

______________________________

فاجعلوه بينكم فاني قد جعلته قاضيا)(1) و روايته الاخرى- و هي حسنة- و فيها (اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا و حرامنا فاني قد جعلته عليكم قاضيا)(2) و مقبولة عمر بن حنظلة و فيها (ينظر الى رجل منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف احكامنا فليرضوا به حكما، فاني قد جعلته عليكم حاكما، فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل فانما بحكم اللّه استخف ...) الى آخر الحديث.

و لا اشكال بحسب هذه الروايات في ثبوت منصب القضاء و نفوذ حكم المجتهد المطلق الذي يرى الانفتاح. اما المجتهد المطلق فلوضوح ان المراد من معرفة احكامهم هو معرفتها بالقوة لتحقق الملكة عنده القادر بها على معرفة كل حكم اراد استنباطه و اراد معرفته بالفعل، فجعل منصب القضاء للمجتهد المطلق الذي يرى الانفتاح مما لا اشكال فيه، لصراحة قوله عليه السّلام- (فلينظر الى رجل منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا)- على جعل الحاكم الذي اخذ حكمه من النظر فيما ورد عنهم من الحلال و الحرام و هو المجتهد المطلق .. و اما المتجزئ فسيأتي الكلام فيه ان شاء اللّه تعالى.

و لكن الاشكال في ثبوت منصب القضاء للمجتهد المطلق الذي يرى الانسداد من باب الحكومة.

و اما من يراه على نحو الكشف، فان قلنا ان الظاهر من قوله عليه السّلام من عرف احكامنا هو معرفة الحكم المجعول منهم مطلقا- سواء الحكم الفرعي او الاصولي- فلا اشكال في شمول الروايات له و ثبوت منصب القضاء له و نفوذ حكمه. و ان قلنا بان المنصرف من قوله عليه السّلام من عرف احكامنا هو معرفة خصوص الحكم الفرعي

ص: 256


1- 25. ( 1) من لا يحضره الفقيه ج 3- ح 3216.
2- 26. ( 2) وسائل الشيعة ج 18، باب 11 من ابواب صفات القاضي حديث 6.

أشرت آنفا ليس ممن يعرف الاحكام، مع أن معرفتها معتبرة في الحاكم، كما في المقبولة (1)، إلا أن يدعى عدم القول بالفصل، و هو و إن كان غير

______________________________

ففي ثبوت منصب القضاء له و نفوذ حكمه اشكال، كالاشكال في ثبوت المنصب لمن يرى الانسداد على نحو الحكومة. و حيث كان الانسداد على نحو الحكومة هو القدر المتيقن في الاشكال لذلك خصه بالذكر.

و قد اشار الى ثبوت المنصب للمجتهد المطلق الذي يرى الانفتاح بقوله:

«و كذلك لا خلاف و لا اشكال في نفوذ حكم المجتهد المطلق اذا كان باب العلم و العلمي له مفتوحا». و اشار الى الاشكال في ثبوت المنصب لمن يرى الانسداد على نحو الحكومة بقوله: «و اما اذا انسد عليه بابهما» أي باب العلم و العلمي «ففيه اشكال» أي ان الاشكال في ثبوت المنصب لمن يرى الانسداد «على الصحيح من تقرير المقدمات على نحو الحكومة» و الوجه في قوله على الصحيح ظاهر، لان رأيه (قدس سره) هو كون نتيجة مقدمات الانسداد هي الحكومة دون الكشف.

(1)

الاشكال في نفوذ قضاء المجتهد الانسدادي على الحكومة

حاصل الاشكال في ثبوت منصب القضاء لمن يرى الانسداد على نحو الحكومة:

ان الظاهر من المقبولة و غيرها من الروايات الدالة على جعل منصب القضاء للمجتهد هو معرفة احكامهم، اما بجعل الحكم على طبق ما ورد عنهم من الروايات الحاكية لكلامهم، او بجعل الحجية المنجزة و المعذرة، و لا جعل من الشارع في مورد الانسداد على نحو الحكومة لا للحكم على طبق الظن و لا للظن في التنجيز و التعذير، لأن حجية الظن الانسدادي من باب الحكومة انما هو لحكم العقل بحجيته و لا دخل للشارع في جعله اصلا، و على هذا فلا يكون مشمولا للروايات الدالة على جعل منصب القضاء لمن يرى الانسداد من باب الحكومة.

و الى هذا اشار بقوله: «فان مثله» أي ان مثل من يرى الانسداد من باب الحكومة «كما اشرت آنفا» أي في مقام الاشكال في تقليده من حيث عدم شمول الروايات له لانه «ليس ممن يعرف الاحكام» كما عرفت «مع ان معرفتها» أي مع

ص: 257

بعيد، إلا أنه ليس بمثابة يكون حجة على عدم الفصل (1)، إلا أن يقال بكفاية انفتاح باب العلم في موارد الاجماعات و الضروريات من الدين

______________________________

ان معرفة الاحكام- اما بنحو التنجيز، او بنحو جعل الحكم على طبق الامارة مما قد دل عليها الروايات، كظاهر قوله عليه السّلام في المقبولة و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف احكامنا و مثل ذلك في غير المقبولة- يدل على جعل المنصب لمن عرف الاحكام باحد النحوين على الخلاف في الحجية. و على كل فالمعرفة المذكورة «معتبرة في الحاكم كما في المقبولة» و غيرها من الروايات.

(1) حاصله: ان دعوى عدم القول بالفصل عندهم بين المجتهد الذي يرى الانفتاح و المجتهد الذي يرى الانسداد- و لو بنحو الحكومة- غير بعيدة، لانه لم يظهر من احد استثناء المجتهد الذي يرى الانسداد بنحو الحكومة عن منصب القضاء. إلّا ان دعوى عدم القول بالفصل لا تفيد، لان عدم القول بالفصل ليس من دعوى الاجماع، بل المفيد هو دعوى القول بعدم الفصل التي مرجعها الى دعوى الاجماع على عدم الفصل، و الفرق بينهما واضح. و من الواضح ايضا ان عدم القول ليس هو قولا بالعدم و لا يستلزمه.

و ينبغي ان لا يخفى انه انما لم يستبعد في المقام دعوى الاجماع كما استبعده في مقام التقليد لمن يرى الانسداد على نحو الحكومة، هو ان الموضوع في التقليد هو العالم بالحكم، و الانسدادي على الحكومة لا علم له بالحكم لا واقعا و لا ظاهرا لا في الحكم الفرعي و لا في الحكم الاصولي، لان حجيته من باب حكم العقل، و حيث ان المسألة مستحدثة فلا وجه لدعوى الاجماع فيها. و هذا بخلاف المقام و هو القضاء فان موضوعه من عرف احكامهم أي جملة منها، و هذا المقدار هو الموضوع لنفوذ قضاء المجتهد و ان كان الحكم الذي يحكم به لم يستنبطه من حجة مجعولة، بل كان مستنبطا مما قام العقل على حجيته كالقطع. فدعوى الاجماع في المقام ترجع الى الاجماع على ان الموضوع لنفوذ حكم المجتهد هو معرفة جملة من الاحكام، و ان لم يكن الحكم

ص: 258

أو المذهب، و المتواترات إذا كانت جملة يعتد بها، و إن انسد باب العلم بمعظم الفقه، فإنه يصدق عليه حينئذ أنه ممن روى حديثهم (عليهم السلام) و نظر في حلالهم (عليهم السلام) و حرامهم (عليهم السلام): و عرف أحكامهم عرفا حقيقة (1).

______________________________

الذي يحكم به مستنبطا عن حجة مجعولة. فكون المسألة من المسائل المستحدثة لا تضر بعد ان كان مرجع الاجماع هو ان الموضوع للنفوذ هو معرفة جملة من الاحكام، و لذلك لم يستبعد دعوى الاجماع في المقام كما نفاها في مقام التقليد .. و الحاصل: ان التقليد رجوع الجاهل بالحكم الى العالم بالحكم، و القاضي هو جعله قاضيا لقيام الحجة عنده بالحكم. و سيأتي التنظر منا في ما قاله (قدس سره).

و قد اشار (قدس سره) الى عدم البعد في دعوى عدم القول بالفصل بقوله:

«و هو» أي ادعاء عدم القول بالفصل «و ان كان غير بعيد». و اشار الى انه غير مقيد لعدم كونه اجماعا بقوله: «إلّا انه ليس بمثابة يكون حجة على عدم الفصل» أي انه ليس هو قولا بعدم الفصل، و النافع هو القول بعدم الفصل، لا عدم القول بالفصل.

إلّا ان يقال: ان دعوى كون الموضوع للقضاء هو معرفة جملة من الاحكام، و ان لم يكن الحكم الذي يحكم به مستنبطا عن حجة، لا تخلو عن اشكال، لان السبب في الارجاع الى الناظر هو كونه ممن يعرف الحجة الواردة عنهم على الحكم لا انه له الموضوعية.

(1) حاصله: ان من يرى الانسداد انما يراه في معظم الاحكام، و إلّا فجملة من الاحكام لا انسداد فيها قطعا، كالاحكام التي دلت عليها الاخبار المتواترة، و الاحكام التي كانت من ضروريات الدين كوجوب الصلاة و الصوم، او من ضروريات المذهب كمتعة النكاح و الحج، و الاحكام التي قامت عليها الاجماعات القطعية. و هذه الاحكام المستفادة من الادلة الثلاثة المذكورة بها يحصل الموضوع في

ص: 259

و أما قوله (عليه السّلام) في المقبولة فإذا حكم بحكمنا فالمراد أن مثله إذا حكم كان بحكمهم حكم، حيث كان منصوبا منهم، كيف و حكمه غالبا يكون في الموضوعات الخارجية، و ليس مثل ملكية دار لزيد أو زوجية

______________________________

جعل منصب القضاء لمن يرى الانسداد، لانه بمعرفته لهذه الاحكام يصدق عليه انه عرف احكامنا، لوضوح ان المراد من معرفة احكامهم ليس معرفة جميع احكامهم، لعدم حصول ذلك لاحد اصلا لا من المجتهدين الذين يرون الانفتاح و لا غيرهم من اهل الانسداد، فلا بد و ان يكون المراد بمعرفة احكامهم معرفة جملة منها. و اذا تحقق الموضوع لمن يرى الانسداد كان حاكما بجعل الشارع، و كان حكمه نافذا لشمول الروايات له بعد تحقق موضوعها فيه، فله الحكم و القضاء و ان كان حكمه في مورد القضاء مستندا الى الظن الانسدادي.

و الحاصل: ان الموضوع في الروايات لجعل منصب القضاء للمجتهد هو ان يصدق عليه انه ممن روى حديثهم كما في بعض الروايات، و ان يصدق عليه انه ممن نظر في حلالهم و حرامهم، و ان يصدق عليه انه ممن عرف احكامهم. و لا اشكال ان من حصل جملة من احكامهم من الطرق الثلاثة المذكورة يصدق عليه العناوين المزبورة صدقا حقيقيا عند العرف، فيكون مشمولا للروايات و ان كان يرى الانسداد في معظم الفقه.

إلّا ان يدعى ان الظاهر من الجعل انه يعرف احكامهم و حلالهم و حرامهم مما ورد عنهم لا من الانسداد، فليست معرفة احكامهم من باب الموضوعية. و اما ان معرفة جميع احكامهم لا تحصل لاحد حتى المجتهدين الذين يرون الانفتاح لا يوجب الموضوعية، لقدرة المجتهد الانفتاحي على معرفة الحكم من ما ورد عنهم عليهم السّلام متى اراده بخلاف الانسدادي. و عبارة المتن واضحة.

ص: 260

امرأة له من أحكامهم (عليهم السلام) فصحة إسناد حكمه إليهم (عليهم السلام) إنما هو لاجل كونه من المنصوب من قبلهم (1).

______________________________

(1) حاصله: الاشارة الى ما يمكن ان يكون منافيا لما ادعاه من صدق الموضوع على من يرى الانسداد .. و توضيح ذلك: ان ما ذكرت من ان من حصّل جملة من الاحكام بالطرق الثلاثة و هي المتواترات و الاجماعات القطعية و الضروريات، يصدق عليه انه عرف احكامهم و نظر في حلالهم و حرامهم، الّا انه ينافيه قوله عليه السّلام في المقبولة- فاذا حكم بحكمنا- فان ظاهره كون ما يحكم به بين المتنازعين هو حكمهم، و لازم ذلك كون الحكم الذي يحكم به بينهم مجعولا اما بنفسه بناء على جعل الحكم على طبق مؤدّى الامارات، او كون المجعول ما ينجّزه بناء على كون المجعول هو الحجية. و على هذا فتكون هذه الفقرة مبيّنة للموضوع الذي به تكون الروايات صادقة على من له منصب القضاء، و حينئذ لا بد من خروج من يرى الانسداد عن منصب القضاء حيث يكون قضاؤه مستندا الى ظنه الانسدادي، و هذا هو محل الاشكال في المقام لا حكم من يرى الانسداد- على غير الحكومة- المستند حكمه الى المتواترات او الاجماعات أو الضروريات.

و الحاصل: انه بموجب هذه الفقرة و هي قوله عليه السّلام: فاذا حكم بحكمنا، يكون الموضوع تعبّدا بذلك، فالموضوع على هذا هو من عرف احكامهم بحيث يكون حكمه في مورد القضاء حكمهم، و لازم ذلك خروج من يرى الانسداد عن الروايات، لوضوح عدم كون حكمه المستند الى ظنه الانسدادي على الحكومة(1) هو

ص: 261


1- 27. ( 1) المتحصّل من هذا الاشكال: هو ان الظاهر من حكمهم هو حكمهم المجعول اما هو او حجيته، و الانسداد على الكشف المجعول هو الظن في حال الانسداد، كالحجية للخبر بناء على ان المجعول الحجية. اما الانسداد على نحو الحكومة فلا جعل فيه من الشارع، فالاشكال يختصّ بخصوص الانسداد على نحو الحكومة، فان ظاهر حكمنا في المقبولة يقتضي خروجه عن منصب القضاء( منه قدّس سره).

.....

______________________________

حكمهم عليهم السّلام، لوضوح عدم جعل الشارع لذلك الحكم، و لا للحجة القائمة عليه.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و اما قوله عليه السّلام في المقبولة فاذا حكم بحكمنا» بان يدعى منافاته لما مرّ من تحقق موضوع منصب القضاء لمن يرى الانسداد بنحو الحكومة.

و الجواب عنه: ان المراد من كون حكمه حكمهم عليهم السّلام ليس كون الحكم الذي يحكم به مستندا اليهم عليهم السّلام، بل المراد من نسبة حكمه اليهم عليهم السّلام لأنّه حكم من جعلوه قاضيا و حاكما، فان جعله حاكما و قاضيا معناه جعل النيابة له عنهم عليهم السّلام في القضاء، و من الواضح ان النائب المجعول من قبل من له الامر يصح نسبة جميع احكامه الى من جعله حاكما و قاضيا بالنيابة عنه.

و يدل على كون المراد من نسبة حكم الحاكم اليهم هو ما ذكرناه، من ان مورد المنازعات كلها او جلّها موضوعات خارجية جزئية، و حكم الشارع انما هو في الشبهات الحكمية الكلية لا في الموضوعات الخارجية الجزئية، لبداهة ان حكم الحاكم- في كون هذه الدار المتنازع فيها هي لزيد، او الزوجة المتنازع فيها هي زوجة عمر- ليس هذا هو حكم الامام عليه السّلام حتى لو كان المجتهد الحاكم ممن يرى الانفتاح، و لا اشكال ان حكم هذا الحاكم مشمول لقوله عليه السّلام حكم بحكمنا، و انما تصحّ نسبة هذا الحكم اليهم عليهم السّلام لما ذكرنا: و هو كونه حكم من جعلوه نائبا عنهم عليهم السّلام.

ينبغي ان لا يخفى ان كون المتنازع فيه غالبا من الشبهات الموضوعية لا يقتضي ما ذكره من الجواب، لانه لا بد للقاضي من معرفة المدعي و المدعى عليه، و معرفة من عليه اليمين و كيفية اليمين و مقدار ما يلزم به من كيفية اليمين.

و الحاصل: ان كون المراد من نسبة الحكم اليهم هو كون الحاكم مجعولا منهم خلاف الظاهر من قوله عليه السّلام حكم بحكمنا، و ما استدل له يكون الحكم غالبا في الشبهات الموضوعية، فان معرفة الشبهة الموضوعية- من كون الدار لزيد أو الزوجة لعمرو- بعد معرفة الحاكم بموازين القضاء، و انه من المدعي و من المدعى عليه، و ما

ص: 262

و أما التجزي في الاجتهاد ففيه مواضع من الكلام (1):

______________________________

هو مورد التداعي، و نحو ذلك من موارد انطباق الشبهة الحكمية .. فلا يتم الاستدلال المزبور.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «فالمراد ان مثله اذا حكم كان بحكمهم» عليهم السّلام قد «حكم حيث كان منصوبا منهم» لا لان نفس حكمه حكمهم عليهم السّلام، بل هو من باب كون حكم النائب هو حكم المنوب عنه. و اشار الى الدليل على ذلك بقوله:

«كيف» أي كيف يكون المراد من نسبة حكمه اليهم هو كون نفس حكمه حكمهم «و» الحال ان «حكمه غالبا يكون في الموضوعات الخارجية» الجزئية و ليس للشارع حكم في الموضوعات الخارجية الجزئية «و» ذلك لوضوح انه «ليس مثل» حكمه في المنازعة في ملكية دار انها مملوكة لاي المتنازعين هو من احكامهم عليهم السّلام، فحكم الحاكم ب «ملكية دار لزيد» لا لعمرو «أو» حكمه في «زوجية امرأة له» لا لعمرو ليس هو «من احكامهم عليهم السّلام».

فظهر ان الوجه في نسبة حكم الحاكم اليهم عليهم السّلام هو ما ذكرنا من كونه نائبا عنهم و منصوبا منهم، لا كون الحكم الذي يحكم به هو بنفسه من احكامهم عليهم السّلام، و لذا قال (قدس سره): «فصحة اسناد حكمه» أي صحة اسناد حكم الحاكم «اليهم عليهم السّلام انما هو لاجل كونه من المنصوب من قبلهم» و على هذا فلا تكون الفقرة المذكورة مقيدة للموضوع، فلا تكون منافية لما ذكرنا من تحقق الموضوع لمن يرى الانسداد بمعرفته جملة من احكامهم بواسطة المتواترات و الضروريات و الاجماعات القطعية.

(1)

التجزي في الاجتهاد

لا يخفى ان المواضع التي مرت في الاجتهاد المطلق اربعة: امكانه، و حجية رأي المجتهد المطلق على نفسه، و حجية رأيه بالنسبة الى غيره أي جواز تقليده، و كونه له منصب القضاء و فصل الخصومات.

ص: 263

الاول: في إمكانه، و هو و إن كان محل الخلاف بين الاعلام إلا أنه لا ينبغي الارتياب فيه، حيث كانت أبواب الفقه مختلفة مدركا، و المدارك متفاوتة سهولة و صعوبة، عقلية و نقلية، مع اختلاف الاشخاص في الاطلاع عليها، و في طول الباع و قصوره بالنسبة إليها، فرب شخص كثير الاطلاع و طويل الباع في مدرك باب بمهارته في النقليات أو العقليات، و ليس كذلك في آخر لعدم مهارته فيها و ابتنائه عليها، و هذا بالضرورة ربما يوجب حصول القدرة على الاستنباط في بعضها لسهولة مدركه أو لمهارة الشخص فيه مع صعوبته، مع عدم القدرة على ما ليس كذلك (1)، بل يستحيل حصول اجتهاد مطلق عادة

______________________________

و هذه المواضع الاربعة- أيضا- موجودة في تجزي الاجتهاد: الاول: في امكانه.

الثاني: في حجية رأيه بالنسبة الى نفسه. الثالث: في جواز تقليده. الرابع: في قضائه و نفوذ حكمه.

(1)

استدلال المصنف (قده) على إمكانه

وقع الكلام في امكان التجزي، و هذا على العكس من الكلام في امكان المطلق، فان دعوى عدم امكان المطلق مرجعها الى ان الممكن هو التجزي دون المطلق، و على خلافه دعوى عدم امكان التجزي فان مرجعها الى ان الممكن هو الاجتهاد المطلق دون التجزي. فان امكان الاجتهاد- بما هو- مما لا ريب فيه و لم يقع خلاف في أصله، و انما الخلاف في امكان المطلق منه- كما مر فيه، و في امكان التجزي كما هو محل الكلام هنا.

و قد استدل المصنف على امكانه بوجهين:

الاول: شهادة الوجدان بان الاجتهاد- و هو القدرة على استنباط الحكم من مدركه- مختلف بحسب اختلاف المدارك من حيث السهولة او الصعوبة لفظية او عقلية.

اما المدرك اللفظي السهل فمثل استنباط الحكم من الكتاب، فانه لا يتوقف على اكثر من معرفة حجية الظواهر و معرفة ظاهر الكتاب. و اما المدرك اللفظي الصعب

ص: 264

.....

______________________________

فمثل استنباط حكم الكر الذي كانت الاخبار فيه مختلفة، فانه مع توقفه زيادة على معرفة حجية الظواهر يتوقف على معرفة حجية الخبر، و معرفة التعارض بين الاخبار، و معرفة أحكام التعارض، و بعض الجهات الأخر كالرطل العراقي و الرطل المدني، فكون حكم الكر من المسائل الصعبة واضح لمن اراد استنباط حكم الكر.

و اما المدرك العقلي السهل فمثل دوران الامر بين المحذورين، فان كون حكم العقل فيه هو التخيير مما يدركه العقل بسهولة. و اما المدرك العقلي الصعب فمثل استنباط حكم صحة الصلاة في المكان المغصوب او بطلانها المتوقف على معرفة مسألة اجتماع الامر و النهي في الواحد ذي الوجهين، و هي من المسائل العويصة التي لا تزال محل الخلاف بين الاعلام.

هذا من ناحية الاختلاف في نفس استنباط الحكم عن مدركه من حيث السهولة و الصعوبة.

و اما الاختلاف من ناحية المستنبط فهو من حيث اختلافهم في سعة الاطلاع و قلته و اختلافهم من ناحية عمق النظر و عدم عمقه.

و الحاصل: ان الوجدان شاهد- ايضا- على اختلاف الاشخاص من جهة طول الباع و قصره، و اختلافهم في العقليات و النقليات، فرب شخص طويل الباع في العقليات قصير الباع في النقليات و بالعكس.

و بعد شهادة الوجدان باختلاف المسائل المستنبطة، و اختلاف المستنبطين انفسهم، يظهر واضحا امكان تجزي الاجتهاد لسهولة الاحكام المستنبطة من المدارك الواضحة، و سهولة الاستنباط لبعض الاحكام عند من كان له سعة الاطلاع في النقليات، او بعد الغور في المسائل العقلية.

و مما ذكرنا يظهر انه ربما يكون لبعض القدرة على استنباط بعض الاحكام دون بعضها، و هذا هو معنى تجزي الاجتهاد.

ص: 265

غير مسبوق بالتجزي، للزوم الطفرة (1). و بساطة الملكة و عدم قبولها التجزئة، لا تمنع من حصولها بالنسبة إلى بعض الابواب، بحيث يتمكن

______________________________

و المتحصل من هذا الدليل هو ان الاجتهاد عبارة عن مدارك متعددة مختلفة، و يختلف ايضا من ناحية المستنبط من حيث سعة الاطلاع و من حيث عمق النظر، و اذا كان كذلك فلا محالة يكون تجزي الاجتهاد موجودا بالفعل.

و قد اشار الى اختلاف المسائل نفسها- سهولة و صعوبة- بقوله: «حيث كانت ابواب الفقه مختلفة مدركا و المدارك متفاوته سهولة و صعوبة عقلية و نقلية». و اشار الى الاختلاف من ناحية الاشخاص بقوله: «مع اختلاف الاشخاص في الاطلاع ...

الى آخر الجملة». و اشار الى ان هذا الاختلاف من هاتين الجهتين يستلزم التجزي في الاجتهاد بقوله: «و هذا بالضرورة ربما يوجب حصول القدرة على الاستنباط في بعضها لسهولة مدركه ... الى آخر الجملة».

(1) هذا هو الوجه الثاني على امكان التجزي. و حاصله: ان الاجتهاد المطلق امر تدريجي الحصول، و اذا ثبتت تدريجيته فالعقل يحكم بضرورة التجزي في الاجتهاد، لحكم العقل باستحالة الطفرة في كل امر تدريجي. و لا فرق بين حكمه باستحالة الطفرة في المسافة الخارجية و بين الطفرة في الاجتهاد في ابواب الفقه، و كما ان الطفرة في المسافات محال لاستلزامها الخلف، من ناحية فرض كون الحصول في المكان الاخير متوقفا على الحصول قبله في المكان المتقدم عليه، أو لزوم حصول المعلول من دون بعض ما تتوقف عليه علته، فان الحصول في المكان المتقدم من بعض ما يتوقف عليه الحصول في المكان المتأخر، و الحال كذلك في كل امر تدريجي.

و مما ذكرنا يظهر: ان الطفرة محال في حصول الاجتهاد المطلق من دون حصول التجزي قبله لكون كل منهما امرا تدريجيا.

و اما كون الاجتهاد تدريجيا فلما اشرنا اليه من ان استنباط بعض الاحكام يتوقف على مسائل تتوقف بعضها على بعض، فان استنباط حكم الكر يتوقف على معرفة

ص: 266

.....

______________________________

أحكام التعارض المتوقفة على حجية الظواهر اولا و حجية الخبر ثانيا. و مثل تعارض الاخبار الظاهر بعضها في وجوب الظهر و بعضها في وجوب الجمعة في زمان الغيبة، فانه يتوقف معرفة الحكم في مثل هذه المسألة على حجية الظواهر أولا، و كون الامر ظاهره الوجوب ثانيا، و معرفة أحكام التعارض ثالثا. و من الواضح ان الامور المتوقف بعضها على بعض تدريجية. و بعد ثبوت كون الاجتهاد المطلق امرا تدريجيا يستحيل حصوله من دون حصول التجزي قبله، و إلّا لزم الطفرة و هي محال.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «بل يستحيل حصول اجتهاد مطلق عادة غير مسبوق بالتجزي للزوم الطفرة» و لا يخفى انه لا منافاة بين قوله عادة و بين كونه برهانا عقليا يستلزم الطفرة التي هي محال بحكم العقل، لان المراد من قوله عادة هو طبيعة الانسان التي تكون معرفتها للاشياء على نحو التدريج.

و ينبغي ايضا التنبيه على امر: و هو ان الاجتهاد بناء على كونه هو الملكة هل ان التدريجية فيها من جهة اختلاف المطلق من الاجتهاد للتجزي من ناحية الشدة و الضعف او الكثرة و القلة.

و بعبارة اخرى: ان الاجتهاد المطلق هل هو عبارة عن ملكة واحدة قوية و التجزي هو الملكة الضعيفة؟ او ان الاجتهاد المطلق هو عبارة عن ملكات متعددة كثيرة و التجزي عبارة عن ملكات قليلة؟

و الحاصل: ان التشكيك في الاجتهاد هل هو من التشكيك في الشدة و الضعف؟

او انه من التشكيك في الزيادة و النقص؟

و ربما يكون الظاهر من المصنف هو الاول، و لكن الوجدان شاهد بانه من الثاني، لبداهة كون الاجتهاد المطلق ملكات متعددة، لان معرفة المدارك اللفظية غير معرفة المدارك العقلية، و لا ينافي تعدد الملكات بساطة الملكة و هو واضح، لعدم المانع من تعدد الامور البسيطة، و قولهم ان البسيط لا يتثنى و لا يتكرر لازمه كون كل واحدة

ص: 267

بها من الاحاطة بمداركه، كما إذا كانت هناك ملكة الاستنباط في جميعها، و يقطع بعدم دخل ما في سائرها به أصلا، أو لا يعتني باحتماله لاجل الفحص بالمقدار اللازم الموجب للاطمئنان بعدم دخله، كما في الملكة المطلقة، بداهة أنه لا يعتبر في استنباط مسألة معها من الاطلاع فعلا على مدارك جميع المسائل، كما لا يخفى (1).

______________________________

من هذه الملكات لانها بسيطة لا تتثنى و لا تتكرر، و إلّا فتعدد البسائط كالمجردات مما لا ريب فيه.

(1) ظاهر عبارة المتن الاشارة الى اشكال واحد، إلّا انه يمكن ارجاعها الى اشكالين:

الاول: من ناحية بساطة الملكة، بدعوى ان الاجتهاد هو ملكة يقتدر بها على استنباط الاحكام، و حيث ان الملكة من البسائط و البسيط لا يعقل ان يتجزى، لوضوح ملازمة التجزية للتركيب، و لا يتثنى لان الثاني اما ان يكون مما يرتبط بالاول فيكون لازمه التركيب، و اما ان لا يرتبط به فهو بسيط آخر في قباله، و اما الارتباط بنحو الشرطية فغير مناف للبساطة، لبداهة ان الشرط خارج عما به قوام الذات، فلذا كان غير مناف للبساطة. فان حصلت هذه الملكة فلا بد و ان تكون هي الاجتهاد المطلق و هي التي يقتدر بها على استنباط جميع الاحكام، و لازم هذا عدم امكان تجزي الاجتهاد، لان لازم تجزيه تجزي الملكة، و قد عرفت انها بسيطة لا تتجزى، لبداهة انه لو تجزى الاجتهاد لكانت الملكة مركبة مما يقتدر به على استنباط بعض الاحكام و مما يقتدر به على اكثر من ذلك و هو استنباط جميع الاحكام، بل لو كان التجزي ممكنا للزم تركب الملكة من اجزاء عددها بقدر ابواب الفقه بل بقدر احكامه.

فاتضح عدم امكان تجزي الاجتهاد، لأن لازم امكانه امكان تجزي الملكة، و حيث انها من البسائط لا يعقل تجزيها، فلا يعقل امكان تجزي الاجتهاد لأن ما يستلزم المحال محال.

ص: 268

.....

______________________________

و الجواب عنه- بناء على وحدة الملكة- فهي و ان كانت من الكيف النفساني و هو عرض، و الاعراض بسائط لانها ليس لها مادة و صورة و لا جنس و فصل، بل مادتها و جنسها من نحو ذاتها، فان البياض الشديد ليس بمركب من مادة و صورة، و إلّا لزم تركب البياض من البياض و غير البياض، فالبياض الشديد هو بياض بمرتبة قوية.

و الحاصل: انه لا مانع من التشكيك في بعض البسائط، و كونها مختلفة من حيث الشدة و الضعف، لضرورة كون البياض من الاعراض لانه من مقولة الكيف المبصر، و هو مختلف من ناحية الشدة و الضعف، و لا ينافي هذا التشكيك بساطته لعدم التركيب في ذات الشي ء اذا كان له حدود مختلفة، لان البياض الضعيف هو واجد لتمام حقيقة البياض، و البياض الشديد ليست حقيقته مركبة من مرتبة الضعف و مرتبة الشدة، بل ليس هناك في البياض الشديد الا حقيقة واحدة للبياض ايضا، و ليست المرتبة الضعيفة تكون جنسا فصله المرتبة الشديدة، بل هي حد يزول و يحل محله حد آخر، لان المرتبة الضعيفة هي انتهاء الوجود الى حد خاص يرتفع ذلك الحد بوجود المرتبة القوية، و هو انتهاء الوجود بحد أعلى من الحد الضعيف قد حل محله، و تفصيل الكلام في هذا موكول الى محله.

و على كل فلا منافاة بين بساطة الملكة و كونها مختلفة من ناحية الضعف و الشدة، و هي ما يقتدر بها على استنباط بعض الاحكام و ما يقتدر بها على استنباط جميع الاحكام.

و المراد من التجزي في الاجتهاد هو التبعيض من ناحية حدوده لا تركبه و التبعيض من ناحية ذاته.

و الحاصل: ان الاجتهاد ملكة بسيطة لها حدود مختلفة: حدها الضعيف هو التجزي، وحدها الشديد هو المطلق. هذا بناء على كون الاجتهاد ملكة واحدة بسيطة.

ص: 269

.....

______________________________

و اما بناء على كونه مجموعة ملكات كل واحدة منها يقتدر بها على استنباط الاحكام المرتبطة بها، فلا وجه لهذا الاشكال، لان كل واحدة من هذه الملكات بسيطة و بعض منها هو التجزي و مجموعها هو المطلق، فلا يكون التجزي مستلزما لتجزي البسيط و هو واضح.

و قد اشار الى الاشكال في تجزي الاجتهاد من ناحية بساطة الملكة بقوله:

«و بساطة الملكة و عدم قبولها التجزية». و اشار الى الجواب بقوله: «لا تمنع من حصولها بالنسبة الى بعض الابواب» اما لعدم المنافاة بين بساطة الشي ء و كونه مشككا له مراتب مختلفة من ناحية القوة و الضعف، و اما لكونها عبارة من مجموعة ملكات. و على كل فلا منافاة بين البساطة و التجزي في الاجتهاد الذي هو ملكة بالنسبة الى بعض الابواب «بحيث يتمكن بها» أي يتمكن بواسطة تلك الملكة التي هي مرتبطة ببعض الابواب «من الاحاطة بمداركه» أي من الاحاطة بمدارك ذلك البعض من الابواب «كما اذا كانت له هناك ملكة» الاجتهاد المطلق و هي ملكة «الاستنباط في جميعها» أي في جميع الابواب.

الاشكال الثاني، و حاصله: ان الاجتهاد الذي يكون الحكم المستنبط بواسطته يجوز العمل به للمستنبط منوط بالفحص، لانه انما تتم حجيته له حيث لا يحتمل المجتهد ان هناك ما ينافي ما استنبط من الحكم و لم يطلع عليه، و حيث ان المفروض في التجزي هو استنباط الحكم المرتبط ببعض ابواب الفقه مع عدم معرفة المستنبط الأبواب الأخر فلا يكون التجزي ممكنا، لانه لا ريب في احتمال وجود ما ينافي ما استنبطه من الحكم في الأبواب الاخرى من الفقه، و عليه فلا يعقل تجزي الاجتهاد لان ما استنبطه المتجزي لا يكون حجة الا حيث يقتدر على معرفة الابواب الأخر كلها، و اقتداره على معرفة جميع الابواب لازمه الاجتهاد المطلق، ففرض امكان تجزي الاجتهاد مستلزم للخلف، لان فرض القدرة على استنباط بعض الابواب لازمه القدرة على الابواب الأخر و هو فرض الاجتهاد المطلق لا التجزي.

ص: 270

.....

______________________________

و الحاصل: ان الاجتهاد في بعض الابواب بحيث لا يكون مرتبطا بالاجتهاد في الابواب الأخر ليس من التجزي في الاجتهاد، و الاجتهاد في بعض الابواب المرتبط بالاجتهاد في الابواب الأخر ليس من تجزي الاجتهاد بل هو الاجتهاد المطلق، لما عرفت من ان كون الحكم الذي يجوز العمل به منوطا بالفحص، بحيث لا يحتمل الفاحص ان هناك ما ينافي الحكم الذي استنبطه، و حيث يحتمل وجود المنافي في الابواب الاخرى فلا يكون الحكم المستنبط الذي لم يفحص عما ينافيه في الابواب الأخر مما يجوز العمل به، و حيث لا يجوز العمل به فلا يكون فرض التجزي من الاجتهاد. و الحكم الذي يجوز العمل به في بعض الابواب الذي بحيث يكون المجتهد قادرا على الفحص عنه في الابواب الأخر هو من الاجتهاد المطلق، لا من تجزي الاجتهاد.

و الجواب عنه: ان استنباط الحكم ببعض الابواب و ان كان مرتبطا بالفحص، إلّا ان الفحص لا يستلزم الاحاطة بجميع الابواب الأخر، فان الفحص اللازم هو ان لا يحتمل احتمالا عقلائيا وجود ما ينافي ما استنبطه و لم يطلع عليه. و ربما يكون المستنبط مطمئنا ان لم يكن قاطعا- بعض الاحيان- بانه لا يوجد في الابواب الأخر ما ينافي ما استنبطه و ان لم يكن له احاطة بها، و لا سيما بعد تبويب الفقهاء للابواب و البحث عن كل باب و ذكر كل ما يمكن ان يكون مرتبطا به. و مع الاطمئنان فاحتمال وجود المنافي ليس من الاحتمال المعتد به عند العقلاء، لان الاطمئنان له حكم القطع عند العقلاء، و الاحتمال معه موهون جدا عندهم غير معتد به في نظرهم اصلا. و يدل على ذلك ان المجتهد المطلق اذا حصل له الاطمئنان في الحكم- في باب من الابواب- بان لا يوجد ما ينافيه في الابواب الأخر لا يلزمه الفحص في الابواب الأخر مع فرض قدرته على الفحص و ليس ذلك إلّا للاطمئنان الذي به يتم الفحص اللازم عندهم.

ص: 271

.....

______________________________

فظهر مما ذكرنا عدم توقف الاجتهاد في بعض الابواب على الاجتهاد في الابواب الأخر حتى يكون فرض التجزي مستلزما للخلف، بل يمكن ان ينقض- ايضا- بان المجتهد المطلق الذي يقدر على استنباط جميع الاحكام لا يمكنه ان يستنبط حكما من الاحكام حتى يحيط بابواب الفقه جميعا، لاحتمال ان يكون الحكم الذي استنبطه مربوطا بباب منها، و لازمه كون المجتهد المطلق محيطا فعلا بجميع ابواب الفقه، و هذا لا يمكن الالتزام به، و شهادة الوجدان على خلافه، لان جل المجتهدين لا احاطة لهم فعلية بجميع ابواب الفقه، بل المحيط بجميع ابواب الفقه مخلوق نادر جدا ان لم يكن لا وجود له.

و لا يخفى ان المصنف اشار الى الجواب عن هذا الاشكال الثاني، من دون تعرض صريح منه لنفس الاشكال، بل ظاهره بدوا انه مما يتعلق بالاشكال الاول، و ان كان في تعرضه للجواب عنه تلويح اليه. و على كل فقد اشار الى الجواب عنه بقوله: «و يقطع بعدم دخل ما في سائرها به» أي و يقطع بعدم دخل ما في ساير ابواب الفقه بالباب الذي استنبط حكمها «اصلا أو» ان لم نقل بحصول القطع بعدم الدخل فلا اقل من حصول الاطمئنان بذلك، و مع الاطمئنان «لا يعتنى باحتماله» أي لا يعتنى باحتمال وجود المنافي في الابواب الأخر حيث يحصل للمستنبط الاطمئنان بعدم وجود المنافي فيها لما استنبطه في هذا الباب.

و اشار الى ان الوجه في عدم الاعتناء بالاحتمال مع الاطمئنان- هو لان الفحص اللازم هو الفحص بالمقدار المعتد به في عرف العقلاء- بقوله: «لاجل» تحقق «الفحص بالمقدار اللازم» و هو الفحص «الموجب للاطمئنان بعدم دخله» أي الاطمئنان بعدم دخل ما في ساير الابواب في هذا الباب الذي استنبط الحكم فيه.

و اشار الى الدليل على الاكتفاء في التجزي بالاطمئنان بعدم الدخل هو كفاية هذا الاطمئنان في الاجتهاد المطلق من غير لزوم الفحص في الابواب الأخر بقوله: «كما في الملكة المطلقة» أي يقتدر بها على استنباط جميع الاحكام فانه من الواضح

ص: 272

الثاني: في حجية ما يؤدي إليه على المتصف به، و هو أيضا محل الخلاف، إلا أن قضية أدلة المدارك حجيته، لعدم اختصاصها بالمتصف بالاجتهاد المطلق، ضرورة أن بناء العقلاء على حجية الظواهر مطلقا، و كذا ما دل على حجية الخبر الواحد، غايته تقييده بما إذا تمكن من دفع معارضاته كما هو المفروض (1).

______________________________

«بداهة انه لا يعتبر في استنباط مسألة معها» أي انه لا يعتبر مع تحقق الملكة المطلقة في استنباط ما يتعلق ببعض الابواب «من الاطلاع فعلا على مدارك جميع المسائل».

(1)

حجية رأي المتجزي لعمل نفسه

بعد الفراغ من الكلام في الموضع الاول- و هو امكان تجزي الاجتهاد- اشار الى الموضع الثاني: و هو كون رأي المتجزي حجة عليه ام لا؟ ... و قد وقع الخلاف فيه، إلّا ان الصحيح هو حجية رأي المتجزي عليه فيما ادى اليه نظره.

و بيان ذلك: ان الاصل و ان كان عدم الحجية في غير مورد القطع بالحكم، إلّا ان أدلة المدارك مختلفة: منها بناء العقلاء، و منها الجعل الشرعي المستفاد من الادلة القطعية، و كلها تدل على حجية رأي المتجزي بالنسبة الى نفسه. اما ما كانت حجيته ببناء العقلاء كحجية الظواهر فان بناء العقلاء قد تم على الاخذ بالظاهر غير مقيد بقيد اصلا، فان الظاهر كما هو حجة عندهم للمتصف بالاجتهاد المطلق، كذلك هو حجة عند العقلاء للمتصف بالتجزي، و لا فرق عندهم في حجية الظاهر بين شخص و شخص، و انه كما لا فرق عندهم بين ظاهر و ظاهر كذلك لا فرق عندهم فيمن قام عنده الظاهر، سواء كان مجتهدا مطلقا او متجزيا.

و اما ما كان حجة بالجعل من الشارع كحجية الخبر الواحد فانه ايضا لا تقييد فيه، بل هو مطلق من حيث الاجتهاد المطلق و المتجزي، فان آية النبأ تدل على حجية الخبر لمن جاءه النبأ مطلقا غير مقيد بقيد من حيث اطلاق الاجتهاد و تجزيه. نعم حيث ان ادلة حجية الخبر خرج عنها مورد التعارض فان القاعدة الاولى في المتعارضين هي عدم حجيتهما في مدلولهما المطابقي، و القاعدة الثانية في الخبرين المتعارضين من

ص: 273

الثالث: في جواز رجوع غير المتصف به إليه في كل مسألة اجتهد فيها، و هو أيضا محل الاشكال، من أنه من رجوع الجاهل إلى العالم، فتعمه أدلة جواز التقليد، و من دعوى عدم إطلاق فيها، و عدم إحراز أن بناء العقلاء أو سيرة المتشرعة على الرجوع إلى مثله أيضا، و ستعرف إن شاء اللّه تعالى ما هو قضية الادلة (1).

______________________________

الترجيح او التخيير تتوقف على معرفة ما به الترجيح ثم التخيير او التخيير مطلقا.

و على كل فحجية الخبر بالفعل تتوقف على دفع ما يعارضه، فلا بد من فرض قدرة المتجزي على دفع ما يعارض الخبر في مقام كونه حجة بالفعل.

و الحاصل: ان ادلة حجية الخبر الاولية الدالة على حجية الخبر لمن جاءه النبأ و ان كانت مطلقة، إلّا انها مقيدة بان حجية الخبر بالفعل تتوقف على دفع ما يعارض حجيته، فلا بد من فرض قدرة المتجزي على دفع ما يعارض حجيته. و قد اشار الى ان بناء العقلاء قائم على ما يشمل المتجزي بقوله: «ضرورة ان بناء العقلاء ... الى آخر الجملة» و اشار الى دلالة الادلة اللفظية على ما يشمله ايضا بقوله: «و كذا ما دل على حجية الخبر الواحد» و اشار الى ان حجية الخبر الخارج عنها التعارض لا بد للمتجزئ عند وجود المعارض للخبر من القدرة على دفع ما يعارض حجيته بالفعل بقوله: «غايته تقييده بما اذا تمكن ... الى آخر الجملة».

(1)

جواز تقليد المتجزي و رجوع الغير اليه

هذا هو الموضع الثالث: و هو جواز تقليد المتجزئ و رجوع غيره اليه. و لا يخفى ان الكلام في جواز تقليد المتجزئ و عدمه انما هو بحسب ما تقتضيه الادلة.

اما تقليد الجاهل له العاجز عن معرفة ما تقتضيه الادلة فسيأتي الكلام فيه في مباحث التقليد و ان اللازم على الجاهل العاجز في تقليده، ابتداء هو الرجوع الى الاعلم فضلا عن المتجزئ، لان التقليد لا يكون بالتقليد، و حيث ان المقلد عاجز عن معرفة حكمه في التقليد فعليه ان يعمل بالاحتياط، و امره في المقام دائر بين التخيير و التعيين. و لما كان الاعلم مما يجوز تقليده قطعا بخلاف غيره حيث يحتمل عدم

ص: 274

.....

______________________________

جواز تقليده مع وجود الاعلم، كان ملزما من ناحية العقل احتياطا بتقليد الاعلم، نعم لو كان الاعلم ممن يرى جواز تقليد غير الاعلم مع وجود الاعلم او جواز تقليد المتجزئ، فيجوز للمقلد ان يقلد الاعلم اولا ثم يقلد غيره بحسب فتوى الاعلم.

و على أي حال فالكلام في جواز تقليد المتجزئ بدوا- هنا- كلام علمي بين المجتهدين لا يفيد المقلد الجاهل العاجز عن النظر في الادلة.

و على كل فقد وقع الخلاف في جواز رجوع الغير الى المتجزئ و عدم جوازه، و تفصيل الكلام فيه سيأتي في مبحث التقليد .. اما مجملا: فمن يقول بجواز الرجوع اليه يرى شمول ادلة التقليد لذلك، كالفطرة القاضية برجوع الجاهل الى العالم، و حيث ان المفروض كون المتجزئ عالما بالحكم الذي استنبطه عن دليله فلا مانع من رجوع الجاهل اليه في ما استنبطه من الحكم. او نقول ان المستفاد من ادلة التقليد هو الموضوعية دون الطريقية لرأي المجتهد، و على الموضوعية لا فرق بين الاعلم و غير الاعلم و المتجزئ. نعم بناء على الطريقية حيث ان الاعلم اوصل الى معرفة الحكم الواقعي يشكل تقليد غيره ابتداء، و الى هذا اشار بقوله: «من انه من رجوع الجاهل الى العالم فتعمه ادلة جواز التقليد».

و من يقول بعدم جواز تقليده فالوجه فيه ان الفطرة دليل لبي لا اطلاق فيه يشمل المتجزئ، و بعد فرض وجود المجتهد المطلق يكون رجوع الغير الى المتجزئ مشكوكا و الاصل عدم حجية رأيه بالنسبة الى غيره، و مثله بناء العقلاء و سيرة المتشرعة فان من جملة ادلة التقليد هو بناء العقلاء و سيرة المتشرعة على رجوع الجاهل الى العالم و لكنه ايضا لا اطلاق لهما يشمل المتجزئ، فلم يثبت بناء من العقلاء بالخصوص على الرجوع الى المتجزئ مع وجود المجتهد المطلق، و لم تقم سيرة المتشرعة ايضا على الرجوع الى المتجزئ مع وجود المجتهد المطلق.

و اما الادلة اللفظية فسيأتي مفصل الكلام فيها. و على الاجمال ان كونها لها اطلاق بحيث يشمل المتجزئ لا يخلو عن الاشكال، لان الموضوع فيها العلماء

ص: 275

و أما جواز حكومته و نفوذ فصل خصومته فأشكل، نعم لا يبعد نفوذه فيما إذا عرف جملة معتدا بها و اجتهد فيها، بحيث يصح أن يقال في حقه عرفا أنه ممن عرف أحكامهم، كما مر في المجتهد المطلق المنسد عليه باب العلم و العلمي في معظم الاحكام (1).

______________________________

و العارف بالاحكام و الفقيه، و شمول هذه العناوين للمتجزئ محل اشكال. و قد اشار الى الوجه في عدم جواز تقليد المتجزئ ان ادلة التقليد اللفظية لا اطلاق فيها يشمل تقليد المتجزئ، و غير اللفظية لم يحرز قيامها بالخصوص على الرجوع الى المتجزئ، لان شمول بناء العقلاء و السيرة غير معلوم ايضا بقوله: «و من دعوى عدم اطلاق فيها» أي في ادلة التقليد، و ظاهره منع الاطلاق في الادلة اللفظية.

و اشار الى عدم قيام بناء العقلاء و لا سيرة المتشرعة على الرجوع الى المتجزئ بقوله:

«و عدم احراز ان بناء العقلاء او سيرة المتشرعة على الرجوع الى مثله».

و اما الفطرة فالمناقشة فيها من جهات: اولا: انه لا دليل على إمضائها بما هي فطرة. و ثانيا: ان الفطرة ليست هي إلّا السيرة. و ثالثا: يجري فيها ما ذكرنا من المناقشة في سيرة المتشرعة و بناء العقلاء، و لعله لذلك لم يشر اليها في المتن.

(1)

نفوذ قضاء المتجزي

هذا هو الموضع الرابع: و هو حكومة المتجزئ و نفوذ قضائه على المتنازعين.

و لا يخفى ان الوجه في كونه اشكل من جواز تقليده، لان ادلة التقليد غير منحصرة بالادلة اللفظية كما اشرنا اليها- و سيأتي ذكرها ان شاء اللّه تعالى- بخلاف حكومته و نفوذ قضائه فانها منحصرة بالادلة اللفظية كالمقبولة و امثالها، و قد عرفت المناقشة فيها من حيث ان الموضوع للحكومة فيها هو عنوان العلماء و عنوان العارف و الفقيه، و لا اطلاق لها بحيث يشمل المتجزئ مطلقا حتى من استنبط بابا او بعض باب من ابواب الفقه. نعم يمكن ان يقال: ان بعض افراد المتجزئ له منصب القضاء و هو من استنبط حكم جملة من ابواب الفقه، بحيث يصدق عليه عرفا انه من العلماء

ص: 276

فصل لا يخفى احتياج الاجتهاد إلى معرفة العلوم العربية في الجملة و لو بأن يقدر على معرفة ما يبتني عليه الاجتهاد في المسألة، بالرجوع إلى ما دون فيه، و معرفة التفسير كذلك و عمدة ما يحتاج إليه هو علم الاصول، ضرورة أنه ما من مسألة الا و يحتاج في استنباط حكمها إلى قاعدة أو قواعد برهن عليها في الاصول، أو برهن عليها مقدمة في نفس المسألة الفرعية، كما هو طريقة الاخباري (1)، و تدوين تلك القواعد المحتاج إليها

______________________________

و انه عارف باحكامهم، و يكون حاله حال المجتهد المنسد عليه باب العلم فيما اذا كان عارفا بجملة من الاحكام.

و الى هذا اشار بقوله: «نعم لا يبعد ... الى آخر كلامه» و قد مر الكلام و الاشكال فيه، و لكنه ينبغي ان لا يخفى ان المتجزئ الذي عرف الاحكام التي يتعلق بها القضاء لا ينبغي الاشكال في صحة حكومته، لما مر من ان الظاهر انه من باب الطريقية، و العارف بالاحكام التي يتعلق بها القضاء مشمول للادلة اللفظية، لان اطلاق العارف بالاحكام يشمل العارف بالاحكام التي يتعلق بها القضاء. و الحاصل انه اذا كان الامر من باب الموضوعية و ان المدار على صدق معرفته بجملة من الاحكام، فالعارف بجملة الاحكام التي يتعلق بها القضاء يصدق عليه انه عارف باحكامهم، و ان كان من باب الطريقية فمعرفة الاحكام التي يتعلق بها القضاء مما تشمله الادلة الدالة على جعل من له حق فصل الخصومات.

(1)

الفصل الثالث: مبادئ الاجتهاد

هذا الفصل لبيان ما يحتاج اليه الاجتهاد من العلوم.

و احتياجه الى علم النحو واضح، لان معرفة معنى الكلام العربي موقوف على معرفة حركات أواخر الكلمة من كون الفاعل مرفوعا و المفعول منصوبا، و حيث لا تظهر الحركة على آخر الكلمة كما اذا كانت مقصورة او مبنية لا بد- مثلا- من تقديم الفاعل و تأخير المفعول.

ص: 277

.....

______________________________

و احتياجه الى علم الصرف في الجملة واضح ايضا خصوصا بناء على وجوب القلب مثلا كقلب النون ميما اذا وقعت ساكنة متصلة بالباء، و كالقلب و الادغام في حروف يرملون، و كتمييز المنقوص من المقصور لاختلافهما في الاعراب من ظهور بعض الحركات على المنقوص في مقام و حذف آخره في مقام آخر، و غير ذلك من مباحث الصرف المتوقف عليها معنى الكلام العربي.

و احتياجه الى علم اللغة مما لا يحتاج الى بيان.

و مثله احتياجه الى علم التفسير ايضا، لوضوح العلم الاجمالي بارادة خلاف الظاهر في بعض الآيات، و لا ينحل الامر الا بمراجعة التفسير لآيات الاحكام و لوجود الاجمال في بعض الآيات، و قد علم اجمالا بانه قد ورد لها من التفسير ما تكون به ظاهرة لا اجمال فيها.

و اما احتياجه الى بعض علوم العربية الاخرى كعلم المعاني و البيان كمعرفة الفصاحة و البلاغة منه قد انكر بعض الاعلام الحاجة اليه. و الحق الحاجة اليه فانه ربما يحصل الاطمئنان في بعض افراد التعارض بان احدهما هو كلام الامام عليه السّلام، و ربما يشير اليه ما ورد في بعض الاخبار من ان لكلامنا نورا، فان نور كلامهم عليهم السّلام مما يساعد على معرفته الاحاطة بالفصاحة و البلاغة، و احتياج الاجتهاد الى معرفة الحقيقة و المجاز و الكناية مما لا اشكال فيه.

و اعظم ما يحتاج اليه الاجتهاد هو معرفة علم الاصول، فان كل مسألة من مسائل الفقه يتوقف استنباط الحكم فيها عليه في غير الضروريات و المتواترات، لبداهة توقف استنباط الحكم على الدليل الدال عليه، و الدليل اما لفظي او غير لفظي، و الدليل اللفظي هو كحجية الظواهر و حجية الخبر الواحد، و غير اللفظي فهو الاجماع و العقل، و تحرير هذه الادلة كلها في الاصول، و لا يخلو استنباط حكم فرعي من التوقف على أحد هذين الامرين: أي اما الدليل اللفظي او العقلي.

ص: 278

على حدة لا يوجب كونها بدعة، و عدم تدوينها في زمانهم (عليهم السلام) لا يوجب ذلك، و إلا كان تدوين الفقه و النحو و الصرف بدعة (1).

______________________________

و قد اشار الى توقف الاجتهاد على معرفة النحو و الصرف و المعاني و البيان و اللغة من العلوم العربية بقوله: «لا يخفى احتياج الاجتهاد الى معرفة العلوم العربية في الجملة ... الى آخر الجملة». و اشار الى احتياجه الى علم التفسير بقوله: «و معرفة التفسير كذلك». و اشار الى ان عمدة ما يحتاج اليه الاجتهاد هو علم الاصول بقوله: «و عمدة ما يحتاج اليه هو علم الاصول». و اشار الى الوجه في كونه هو عمدة ما يحتاج اليه الاجتهاد بقوله: «ضرورة انه ما من مسألة الا و يحتاج في استنباط حكمها الى قاعدة ... الى آخر كلامه».

(1) لا يخفى ان الاجتهاد يتوقف على معرفة علم الاصول، اما ذكر المسائل الاصولية على حدة او في نفس علم الفقه- بان يذكر في كل مسألة فقهية المسألة الاصولية التي تتوقف عليها- فمما لا ربط له بما يتوقف عليه الاجتهاد، لبداهة ان المتوقف عليه الاجتهاد هو العلم، و الاحاطة بالمسائل الاصولية اينما ذكرت اما كونها مذكورة على حدة او في نفس ابواب الفقه فلا تعلق له بما يتوقف عليه الاجتهاد. و لاجل ذلك خالف الاخباريون في تدوين علم الاصول على حدة، و ذهب بعضهم الى حرمة تدوينه على حدة بدعوى انه بدعة. و قد اشار الى هذه الدعوى و الجواب عنها حلا بقوله: «و تدوين تلك القواعد المحتاج اليها على حدة لا يوجب كونها بدعة» و الظاهر ان المراد من دعوى البدعة هو انه لم يكن على عهد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الائمة عليهم السّلام.

و لا يخفى ان مثل هذه التوهمات لا ينبغي ذكرها و الجواب عنها لانها اشبه بالخرافات ... و على كل فقد اجاب المصنف عنها بجوابين حلا و نقضا:

اما الجواب الحلي: فان البدعة هي ادخال ما ليس من الدين و احداثه في الدين بعنوان كونه امرا دينيا، و ليس ذكر كل ما ليس بمذكور سابقا هو بدعة، فكون

ص: 279

و بالجملة لا محيص لأحد في استنباط الاحكام الفرعية من أدلتها إلا الرجوع إلى ما بنى عليه في المسائل الاصولية، و بدونه لا يكاد يتمكن من استنباط و اجتهاد، مجتهدا كان أو أخباريا (1).

نعم يختلف الاحتياج إليها بحسب اختلاف المسائل و الازمنة و الاشخاص، ضرورة خفة مئونة الاجتهاد في الصدر الاول، و عدم

______________________________

تدوين علم الاصول لم يكن سابقا لا يكون ذكره و تدوينه على حدة بدعة، فان تدوينه على حدة ليس إلّا لكونه محتاجا الى معرفته، و تدوينه على حدة اسهل للاطلاع عليه من ذكر كل مسألة منه مع ما يناسبها من ابواب الفقه، و ليس تدوينه على حدة بعنوان كونه امرا دينيا حتى يكون بدعة.

و بقوله: «لا يوجب كونها بدعة» اشار الى الجواب الحلي.

و اما الجواب النقضي: فبأنه لو كان تدوين الاصول على حدة بدعة لانه احداث ما لم يكن في الدين لكان تدوين علم الفقه و علم النحو و الصرف ايضا بدعة، لان الفقه و ان كان موجودا على عهد النبوة إلّا انه لم يكن مدونا، فتدوينه يقتضي ان يكون بدعة على مذاق هؤلاء، لانها لم تكن على عهد النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قد اشار الى ذلك بقوله: «و إلّا كان تدوين الفقه و النحو و الصرف بدعة».

(1) حاصله: انه لا خلاف بين المجتهدين و الاخباريين في الحاجة الى علم الاصول، لضرورة توقف استنباط الحكم الفرعي عليه، و انما الخلاف منهم في تدوينه على حدة، فكل مستنبط للحكم محسوس له الاحتياج الى علم الاصول سواء كان من المجتهدين او من الاخباريين، و لذلك كان لا محيص عن الاحاطة به و معرفته معرفة تامة على نحو يكون على يقين مما تقتضيه المسائل الاصولية في مقام الاستنباط او التطبيق. و قد اشار الى ضرورة الحاجة الى علم الاصول و انه لا خلاف في اصل الحاجة اليه بقوله: «و بالجملة لا محيص لأحد في استنباط الاحكام الفرعية ... الى آخر كلامه».

ص: 280

حاجته إلى كثير مما يحتاج إليه في الازمنة اللاحقة، مما لا يكاد يحقق و يختار عادة إلا بالرجوع إلى ما دون فيه من الكتب الاصولية (1).

______________________________

(1) حاصله: ان الحاجة الى علم الاصول مختلفة من نواح ثلاث: من حيث نفس المسائل، و من حيث الازمنة، و من حيث الاشخاص.

اما اختلاف الحاجة الى علم الاصول من ناحية نفس المسائل، فلوضوح ان بعض المسائل واضحة لسهولة المدرك فيها، كالمسائل التي فيها- مثلا- اخبار من دون معارض فانها لا تحتاج الى اكثر من حجية الظواهر و حجية الخبر الواحد، و بعضها غامضة لصعوبة المدرك فيها كالمسائل الفرعية المبتنية على بعض المسائل الاصولية الدقيقة، كالفروع المبتنية على مسألة جواز اجتماع الامر و النهي و عدم جوازه، و على صحة الترتب و عدم صحته.

و اما الاختلاف من حيث الازمنة فلان تطور البحث- مثلا- في بعض المسائل في الازمنة اللاحقة مما اوجب صعوبة الاجتهاد، بخلافه في الازمنة السابقة حيث ان البحث فيها كان خفيفا في تلك الازمنة، فان مثل مسألة الاستصحاب المدرك فيها في الزمن السابق كان اما بناء العقلاء او الظن، اما في الازمنة اللاحقة فان المدرك فيها هي الاخبار، و لذلك تشعبت الاقوال فيه، مضافا الى تنقيح المتأخرين لمورد مجراه و اختلافهم فيه. و كمسألة مقدمة الواجب فان الظاهر من صاحب المعالم كونها لفظية، و عند المتأخرين من المسائل العقلية، و ان المدرك لوجوبها و عدم وجوبها هو حكم العقل بالملازمة بين وجوب الشي ء و وجوب مقدمته، و عدم حكمه بالملازمة بينهما.

و اما الاختلاف من حيث الاشخاص، فلبداهة اختلاف الاشخاص من ناحية سرعة الالتفات و بطئه، و من ناحية سرعة الجزم بالشي ء و عدمه، و من ناحية بعد النظر و عمقه و قصره و بساطته.

ص: 281

فصل اتفقت الكلمة على التخطئة في العقليات، و اختلفت في الشرعيات، فقال أصحابنا بالتخطئة فيها أيضا، و أن له تبارك و تعالى في كل مسألة حكما يؤدي إليه الاجتهاد تارة و إلى غيره أخرى. و قال مخالفونا بالتصويب، و أن له تعالى أحكاما بعدد آراء المجتهدين، فما يؤدي إليه الاجتهاد هو حكمه تبارك و تعالى (1)، و لا يخفى أنه لا يكاد يعقل

______________________________

و قد اشار المصنف الى جهة الاختلاف في الحاجة الى الاصول من ناحية الموارد الثلاثة بقوله: «نعم يختلف الاحتياج اليها» أي ان ادلة الاحكام الفرعية و هي المسائل الاصولية «بحسب اختلاف المسائل و الازمنة و الاشخاص» كما عرفت.

و اشار الى الوجه في الحاجة الى الاصول من حيث الازمنة بقوله: «ضرورة خفة مئونة الاجتهاد في الصدر الاول ... الى آخر كلامه».

(1)

الفصل الرابع: التخطئة و التصويب

هذا الفصل للبحث في التخطئة و التصويب. و المراد من التخطئة هو انه هناك واقع يصيبه من يصيبه و يخطئه من يخطئه، و المراد من التصويب انه ليس هناك واقع غير ما ادى اليه النظر، و لذلك وقع الاتفاق على التخطئة في العقليات، لوضوح ان المسائل العقلية ككون الممكن محتاجا الى العلة فانها مسألة لها واقع يصيبه من يصيبه و يخطئه من يخطئه، و مثلها كل المسائل العقلية، و لم يتوهم احد التصويب فيها، و إلّا لانسد باب البرهان من رأس، و كانت العلوم العقلية المحضة لغوا، و كذلك ساير العلوم المحتاجة الى البرهان كالرياضيات و غيرها من العلوم، و على كل فالتخطئة فيها من المسلمات بل من البديهيات.

و انما الخلاف في خصوص الحكم الشرعي .. فذهب اصحابنا و هم علماء الشيعة قاطبة الى التخطئة، و ان هناك حكما شرعيا واحدا واقعيا يشترك فيه الجاهل و العالم، يصيبه من يصيبه من المجتهدين و يخطئه من يخطئه منهم.

ص: 282

الاجتهاد في حكم المسألة إلا إذا كان لها حكم واقعا، حتى صار المجتهد بصدد استنباطه من أدلته، و تعيينه بحسبها ظاهرا (1)، فلو كان غرضهم

______________________________

و قال علماء العامة بالتصويب 28] و انه ليس هناك حكم واحد مشترك في الواقع، بل الحكم الواقعي هو ما ادى اليه نظر المجتهد، و عليه فكل مجتهد مصيب، اذ لا واقع هناك الا ما ادى اليه نظره، و لازم ذلك ان يكون للّه تعالى أحكام واقعية بقدر آراء المجتهدين متناقضة تارة و متضادة اخرى.

و قد اشار الى الاتفاق على التخطئة في العقليات بقوله: «اتفقت الكلمة على التخطئة في العقليات» و اشار الى ان محل الخلاف في التخطئة و التصويب هو الحكم الشرعي بقوله: «و اختلفت في الشرعيات» و اشار الى ان مذهب الشيعة هو التخطئة بقوله: «فقال اصحابنا بالتخطئة فيها» أي في الشرعيات «و» معناه هو «ان له تبارك و تعالى في كل مسألة حكما» واحدا واقعيا مشتركا بين الجاهل و العالم يصيبه «و يؤدي اليه الاجتهاد تارة» و يخطئه «و» يؤدي «الى غيره اخرى».

و اشار الى مذهب العامة القائلين بالتصويب بقوله: «و قال مخالفونا بالتصويب». و الى لازمه اشار بقوله: «و ان له تعالى احكاما» واقعية متعددة «بعدد آراء المجتهدين فما يؤدي اليه الاجتهاد هو حكمه تبارك و تعالى» واقعا.

(1) توضيحه: ان التصويب الذي ذهب اليه العامة فيه احتمالان، و جامعهما ان يكون للّه أحكام واقعية بقدر آراء المجتهدين:

الاول: ان لا يكون للّه في الواقعة حكم قبل اداء نظر المجتهد، و انما يكون له تعالى الحكم في الواقعة بعد أداء نظر المجتهد الى الحكم، و هذا محال من جهات:

ص: 283

.....

______________________________

الاولى: انه مستلزم للدور، لتوقف ظن المجتهد بالحكم او قطعه به على الحكم، لبداهة توقف كل متعلق على ما يتعلق به، فالظن بالحكم او القطع بالحكم مما يتوقف وجوده على الحكم لانه مما يتعلق بالحكم. فاذا فرض عدم تقدم الحكم على ما ادى اليه نظر المجتهد و انما يكون بعده متفرعا عليه، فلازم ذلك توقف حكم اللّه على ظن المجتهد به او قطعه به، لفرض كون وجوده بعد اداء نظر المجتهد الى الحكم، و لا معنى لأداء نظر المجتهد الى الحكم الا ظنه او قطعه به. و نتيجة ذلك الدور لتوقف الظن بالحكم على الحكم، من باب توقف كل متعلق على ما يتعلق به، و توقف الحكم على الظن به، لفرض كونه متأخرا عنه و متوقفا عليه لتفرعه عليه، و على هذا فيكون الظن بالحكم متوقفا على نفسه، لتوقفه على الحكم الذي فرض توقفه عليه.

و مما ذكرنا يظهر المحال من الجهة الثانية و هي الخلف، فان كون الظن متعلقا بالحكم فرض تقدم الحكم عليه طبعا، لان كل متعلق متقدم على ما تعلق به بالتقدم الطبعي، و فرض كون الحكم متوقفا على الظن به او القطع به لتفرعه عليه فرض تأخر الحكم طبعا عما تفرع عليه، و فرض كون الحكم متوقفا على الظن به فرض تأخر الحكم طبعا عنه، فيكون لازم التصويب بالمعنى المذكور الخلف، و هو فرض ما كان متقدما متأخرا.

الجهة الثالثة: لزوم التناقض، و بيانه: انه كيف يعقل حصول الظن بالحكم او القطع به ممن يعلم انه لا حكم واقعي قبل الظن به او القطع به، ففرض الظن بالحكم ممن يعلم انه لا حكم فرض وجود الحكم و عدم وجوده، لان فرض الظن بالحكم فرض وجود الحكم قبل الظن به لانه متعلق للظن به، و فرض العلم بعدم الحكم قبل الظن به فرض العلم بعدم وجود الحكم قبل الظن به.

فاتضح ان لازم التصويب المذكور فرض التنافي بنحو التناقض، لما عرفت من ان فرض الظن بالحكم فرض وجود الحكم، و فرض العلم بعدم الحكم قبل الظن فرض عدم وجود الحكم، و لازم ذلك الجمع بين المتناقضين.

ص: 284

من التصويب هو الالتزام بإنشاء أحكام في الواقع بعدد الآراء بأن تكون الاحكام المؤدي إليها الاجتهادات أحكاما واقعية كما هي ظاهرية فهو و إن كان خطأ من جهة تواتر الاخبار، و إجماع أصحابنا الاخيار على أن له تبارك و تعالى في كل واقعة حكما يشترك فيه الكل، إلا أنه غير محال، و لو كان غرضهم منه الالتزام بإنشاء الاحكام على وفق آراء الاعلام بعد الاجتهاد، فهو مما لا يكاد يعقل، فكيف يتفحص عما لا يكون له عين و لا أثر، أو يستظهر من الآية أو الخبر (1)، إلا أن يراد التصويب بالنسبة

______________________________

و قد اشار الى محالية التصويب بالمعنى المذكور اما من حيث الجهات الثلاث او من حيث بعضها بقوله: «و لا يخفى انه لا يكاد يعقل الاجتهاد» و هو حصول الظن للمجتهد او القطع «في حكم المسألة إلّا اذا كان لها حكم واقعا» متقدم على الظن به او القطع به، لبداهة انه لا بد و ان يكون هناك حكم واقعي معلوم اصل تحققه للمجتهد، فيكون بصدد الوصول اليه و استنباطه حتى يمكن ان يحصل له الظن او القطع به، و ما ذكرنا هو معنى قوله (قدس سره): «حتى صار المجتهد بصدد استنباطه من ادلته و تعيينه بحسبها» أي بحسب ادلته «ظاهرا» حيث يكون ظانا به و واقعا بحسب نظره حيث يكون قاطعا به.

(1) هذا هو الاحتمال الثاني للتصويب، و حاصله: ان يكون المراد بالتصويب هو تقدم الحكم على الظن من المجتهد به، و حينئذ يكون لازم قولهم كل مجتهد مصيب هو انشاء أحكام واقعية بعدد آراء المجتهدين. و لا يخفى ان التصويب بهذا المعنى لا يستلزم محالا من المحالات المتقدمة، لانها انما تلزم حيث يفرض تأخر الحكم الواقعي عن رأي المجتهد. إلّا انه باطل لتواتر الاخبار و قيام الاجماع القطعي على ان الحكم الواقعي واحد و هو مشترك بين الكل.

و لازم التصويب بهذا المعنى تعدد الحكم و عدم اشتراكه بين الكل، بل لكل واحد حكم واقعي. و لا يخفى ان لازمه جعل أحكام واقعية متضادة تارة كما اذا

ص: 285

.....

______________________________

ادى رأي احد المجتهدين الى الوجوب و الآخر الى الحرمة و الثالث الى الاستحباب و الرابع الى الكراهة و الخامس الى الاباحة، و متناقضة اخرى بان يؤدي رأي احد المجتهدين الى الوجوب و الآخر لمحض عدم الوجوب من دون تعيين منه لاحد الاحكام الأخر. و مثله الحال في الحكم الوضعي كما اذا ادى رأي احدهم الى طهارة شي ء و الآخر الى نجاسته، أو أدى رأي احدهم الى صحة عقد و الآخر الى عدم صحته.

و قد اشار الى بطلان التصويب بهذا المعنى- و انه باطل لقيام الاجماع القطعي و تواتر الاخبار بخلافه- بقوله: «فلو كان غرضهم من التصويب هو الالتزام بانشاء أحكام في الواقع بعدد الآراء» و بقوله بانشاء أحكام في الواقع اشار الى تقدم الحكم على الاجتهاد كما سيشير الى ذلك في ذيل عبارته ايضا، و على كل اذا كان غرضهم من التصويب هذا المعنى الثاني «بان تكون الاحكام المؤدي اليها الاجتهادات» كلها «أحكاما واقعية كما هي ظاهرية». و لا يخفى ان مراده من كونها ظاهرية هو كون المفروض تعلق الظن بها، و هو غير خال عن الاشكال، لان لازم التصويب بهذا المعنى هو قطع المجتهد بالحكم، لفرض قوله بانه هناك أحكام واقعية بعدد ما يؤدي اليها آراء المجتهدين، فلازم تعلق الظن بالحكم مع القطع بان هناك أحكاما واقعية بعدد آراء المجتهدين هو اجتماع الظن بالشي ء و القطع به، و لا بد من الالتزام بكون متعلق ظن المجتهد ليس هو الحكم بل هو ظاهر الكلام، مثلا بان نظن بان الظاهر من قوله صلى اللّه عليه و آله و سلم افعل كذا هو الوجوب، فهو بما هو مستعمل في الوجوب متعلق الظن، و بعد تعلق الظن بان المستعمل فيه هو الوجوب يكون الوجوب مقطوعا به.

و على كل فالوجه في بطلان هذا التصويب ما اشار اليه بقوله: «فهو و ان كان خطأ من جهة تواتر الاخبار ... الى آخر الجملة». و اشار الى عدم محاليته بقوله:

«إلّا انه غير محال» كما عرفت. و اشار الى ان الوجه محالية التصويب بالمعنى الاول هو تأخر الحكم الواقعي عن ظن المجتهد، بخلاف التصويب بالمعنى الثاني بقوله:

«و لو كان غرضهم منه» أي من التصويب هو «الالتزام بانشاء الاحكام على وفق

ص: 286

إلى الحكم الفعلي، و أن المجتهد و إن كان يتفحص عما هو الحكم واقعا و إنشاء، إلا أن ما أدى إليه اجتهاده يكون هو حكمه الفعلي حقيقة، و هو مما يختلف باختلاف الآراء ضرورة، و لا يشترك فيه الجاهل و العالم بداهة، و ما يشتركان فيه ليس بحكم حقيقة بل إنشاء، فلا استحالة في التصويب بهذا المعنى، بل لا محيص عنه في الجملة بناء على اعتبار الاخبار من باب السبية و الموضوعية كما لا يخفى (1)، و ربما يشير إليه ما

______________________________

آراء الاعلام بعد الاجتهاد» كما عرفت في الاحتمال الاول «فهو مما لا يكاد يعقل ... الى آخر الجملة».

(1) هذا المعنى الثالث من التصويب، و هو ليس في الحكم الواقعي بل هو في الحكم الظاهري الفعلي. و بيانه: انه هناك حكم واقعي واحد منبعث عن المصلحة الواقعية الداعية له و هو الذي يشترك فيه الجاهل و العالم، و بعد التفحص عنه و اداء نظر المجتهد اليه بحسب الطريق الذي يراه فيؤدي اجتهاده الى الظن بالحكم الواقعي.

و ينسب الى المشهور ان المستفاد من ادلة اعتبار بعض الظنون هو جعل الشارع لحكم ظاهري على طبق ما أدى اليه ظن المجتهد، و كون هذا تصويبا انما هو لاجل ان في مرحلة الظاهر احكاما متعددة على قدر آراء المجتهدين لا في مرحلة الواقع، بل في مرحلة الواقع ليس هناك إلّا حكم واحد مشترك. نعم الاحكام الظاهرية ليست احكاما مشتركة لفرض تعددها بتعدد آراء المجتهدين. و حيث كان الالتزام بالحكم الظاهري المتعدد و الحكم الواقعي الواحد المشترك يلزمه ان يكون لكل واقعة حكمان حكم واقعي و حكم ظاهري، و اجتماع الحكمين في موضوع واحد لازمه اجتماع المثلين ان كانا من طبيعة واحدة كوجوبين، و اجتماع الضدين ان كانا من طبيعتين كوجوب و حرمة .. فلذا كان لهم مسلكان في دفع هذا المحذور، و هو محذور الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري، و قد تقدم الكلام فيه في مبحث الظن ايضا:

ص: 287

.....

______________________________

أولهما: ما هو ظاهر المصنف هنا و في مبحث الاجزاء، و هو الالتزام بكون الحكم الواقعي انشائيا و الحكم الظاهري فعليا، و حيث ان الحكم بمرتبته الانشائية لا يترتب عليه الاثر المترقب منه- و هو كونه باعثا و زاجرا و جاعلا للداعي بالفعل، و انما يترتب عليه الاثر في مرتبته الفعلية- اشار في طي عبارته هناك الى ان الحكم بمرتبته الانشائية ليس بحكم حقيقة بل هو انشاء حكم، فلا يكون تناف بين الحكم الواقعي و الحكم الظاهري، فلا يكون بينهما كسر و انكسار، و الحكم الواقعي محفوظ في مرتبته الانشائية و هو المشترك بين العالم و الجاهل.

ثانيهما: ما سلكه المصنف (قدس سره) في مبحث الظن، بالالتزام بان الحكم الواقعي فعلي من جهة لا من جميع الجهات، و هو الفعلي من قبل المولى، و مع ذلك لا تنافي بين الحكم الواقعي و الظاهري و لا كسر و لا انكسار. و معنى كونه فعليا من قبل المولى هو اكتساب الحكم كل ما يكون به حكما من جهة المولى عدا كونه باعثا و زاجرا و محركا للعبد بالفعل، فان هذه الخصوصيات للحكم منوطة- عقلا- بوصوله لا بكونه حكما من قبل المولى، فالفعلية من قبل المولى قد اكتسبها، إلّا ان الفعلية من جهة كونه محركا و باعثا و زاجرا بالفعل لا ترجع الى المولى، بل هي منوطة بالوصول، و حيث المفروض عدم وصوله فلا يكون محركا بالفعل، و التنافي بين الحكمين انما هو من حيث المحركية و الباعثية الفعلية، و حيث كان المفروض انه لا محركية و لا باعثية بالفعل للحكم الواقعي حيث لا وصول له، فلا تنافي بين فعلية الحكم الواقعي بهذا المقدار من الفعلية و بين فعلية الحكم الظاهري من جميع الجهات، لفرض وصوله دون الحكم الواقعي، فالمحركية و الباعثية الفعلية إنما هي للحكم الظاهري فقط، و حيث لا تنافي بينهما فلا كسر و لا انكسار بينهما ايضا، لان الكسر و الانكسار فرع المزاحمة بينهما، و لما كان التأثير لاحدهما و هو الحكم الظاهري دون الواقعي فلا مزاحمة بينهما فلا كسر و لا انكسار. هذا كله بناء على ما نسب الى المشهور من المستفاد من ادلة اعتبار الطرق هو السببية و الموضوعية لجعل الحكم الظاهري على

ص: 288

.....

______________________________

طبق ما أدى اليه الطريق كرأي المجتهد بالنسبة الى المقلد، او على طبق الخبر الواحد بالنسبة الى المجتهد.

و من الواضح انه لا محالية في هذا التصويب للالتزام بالحكم الواقعي، فلا دور و لا خلف و لا لزوم اجتماع النقيضين، و ليس ايضا مما قام الاجماع و الاخبار المتواترة على بطلانه للالتزام بالحكم الواحد المشترك بين العالم و الجاهل، غايته انه على مسلك انشائي، و على مسلك فعلي لكن من بعض الجهات.

و قد اشار الى التصويب بهذا المعنى الثالث- و هو تعدد الحكم الظاهري بعدد آراء المجتهدين- بقوله: «إلّا ان يراد بالتصويب بالنسبة الى الحكم الفعلي» و هو الحكم الظاهري لانه لما كان- هنا- مسلكه هو الجمع بحمل الحكم الواقعي على الانشائية، لذا كان الحكم الفعلي هو الحكم الظاهري. و لما كان التصويب بهذا المعنى لا بد من الالتزام فيه بالحكم الواقعي المشترك فلا ترد المحاذير التي اوردت على التصويب بالمعنى الاول، و الى ذلك اشار بقوله: «و ان المجتهد و ان كان يتفحص عما هو الحكم واقعا و إنشاء». و اشار الى ان هذا المعنى الثالث تصويب بمعنى انه التزام بتعدد الحكم بتعدد آراء المجتهدين، و انه ليس من الحكم المشترك بين العالم و الجاهل بقوله: «إلّا ان ما ادى اليه اجتهاده يكون هو حكمه الفعلي» الظاهري «حقيقة». و الوجه في تعدده ما اشار اليه بقوله: «و هو مما يختلف باختلاف الآراء ضرورة». و الى عدم كونه من الحكم المشترك بقوله: «و لا يشترك فيه الجاهل و العالم بداهة». و اشار الى ان الحكم المشترك حيث كان هو الحكم الواقعي الانشائي فلا منافاة بينه و بين الحكم الفعلي الظاهري بقوله: «و ما يشتركان فيه» و هو الحكم الواقعي «ليس بحكم حقيقة» كما عرفت «بل» حكم «إنشاء».

و اشار الى ان الالتزام بهذا المعنى ليس من التصويب المحال عقلا بقوله: «فلا استحالة في التصويب بهذا المعنى» كما مر بيانه. و اشار الى انه ايضا ليس هو مما قام الاجماع و الاخبار على بطلانه بقوله: «بل لا محيص عنه في الجملة». و اشار الى

ص: 289

اشتهرت بيننا أن ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم (1).

______________________________

الوجه في قوله في الجملة- هو انه بناء على ما نسب الى المشهور من السببية و الموضوعية في الطرق لا مناص من الالتزام بكون الحكم الواقعي الإنشائي هو الحكم الواحد المشترك، و بتعدد الحكم الفعلي غير المشترك بتعدد آراء المجتهدين- بقوله:

«بناء على اعتبار الاخبار من باب السببية و الموضوعية».

(1) توضيحه: ان العبارة المعروفة عنهم- و هي ان ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم- يحتمل فيها معنيان:

الاول: ما ينسب الى المشهور من جعل الحكم الفعلي على طبق ما ادى اليه الطريق، بان يكون المراد من الحكم ظاهره، و على هذا يكون معنى العبارة: ان كون الظن المتعلق بالحكم الواقعي ظنيا لا ينافي القطع بالحكم، و هو الحكم الفعلي المجعول على طبق ما ادى اليه الطريق، و لازمه ما ذكرنا من تعدد الاحكام الفعلية الظاهرية بعدد الطرق و آراء المجتهدين.

الثاني: ان يكون المراد بالحكم هو الحجة و الوظيفة الفعلية، و يكون المراد من العبارة المذكورة هو ان ظنية الطريق المتعلق بالحكم الواقعي لا ينافي القطع بان الوظيفة الفعلية هو العمل على طبق الطريق و رأي المجتهد.

و ربما يكون المعنى الاول اظهر من الثاني، لظهور لفظ الحكم في الحكم لا في الوظيفة و الحجية، و لان لازم التفسير الثاني هو القطع بجعل الطريق، و لا مجال لتوهم المنافاة بين كون الطريق ظنيا و كونه مقطوعا بجعله و اعتبار طريقيته، بل لا بد من القطع بجعله و اعتباره، لان الظن بما هو ظن ليس بحجة ما لم يقطع باعتباره، و لا يعقل ثبوت اعتباره بالظن للزوم التسلسل لان حكم الامثال على السواء، بخلافه على المعنى الاول فان وجه التوهم هو كون الطريق المتعلق بالحكم ظنيا فكيف يكون الحكم قطعيا؟

ص: 290

نعم بناء على اعتبارها من باب الطريقية، كما هو كذلك، فمؤديات الطرق و الامارات المعتبرة ليست بأحكام حقيقة نفسية، و لو قيل بكونها أحكاما طريقية، و قد مر غير مرة إمكان منع كونها أحكاما كذلك أيضا، و أن قضية حجيتها ليس إلا تنجيز مؤدياتها عند إصابتها، و العذر عند خطئها، فلا يكون حكم أصلا إلا الحكم الواقعي، فيصير منجزا فيما قام عليه حجة من علم أو طريق معتبر، و يكون غير منجز بل غير فعلي فيما لم تكن هناك حجة مصيبة، فتأمل جيدا (1).

______________________________

و الجواب عنه: ان ظنية الطريق المتعلق بالحكم الواقعي لا تنافي قطعية الحكم المجعول على طبق مؤدى الطريق. و اللّه العالم.

و على كل فحيث لا صراحة في العبارة المذكورة في احد المعنيين، لذا قال (قدس سره): «ربما يشير اليه» أي ربما يشير الى ما ذكره من المعنى الثالث للتصويب الذي لا بد منه بناء على السببية و الموضوعية في الطرق «ما اشتهرت بيننا» و هي العبارة المعروفة المشهورة «ان ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم».

(1) قد عرفت التصويب بالمعنى الثالث، و انه لا بد من الالتزام به بناء على الجعل في الطرق من باب السببية، و انه مع الحكم الواقعي الانشائي تكون هناك أحكام فعلية ظاهرية متعددة بعدد آراء المجتهدين.

و لكنه لما كان المختار للمصنف في جعل الطرق هو جعل الحجية- لا جعل الحكم النفسي الثانوي الموضوعي على طبق مؤدى الطريق كما نسب الى المشهور، و لا جعل الحكم الطريقي- فلا يكون هناك حكم غير الحكم الواقعي الواحد المشترك بين العالم و الجاهل لا نفسي و لا طريقي، فلا يكون مجال للتصويب بالمعنى الثالث، و ان كان ليس بمحال و لا باطل، لكنه حيث لا حكم في مرحلة الظاهر و ليس هناك غير الحكم الواقعي حكم اصلا فلا وجه للالتزام بالتصويب المذكور، لعدم الحكم المتعدد لا في الواقع و لا في الظاهر، بل ليس هناك- بناء على ان المجعول هو الحجية-

ص: 291

.....

______________________________

إلّا جعل المنجزية عند الاصابة و المعذرية عند المخالفة، و هذا معنى قولهم ان الجعل في الطرق و الامارات من باب الطريقية، لان المجعول- كما صرح به في مبحث الظن و هنا- هو آثار القطع و هو المنجزية و المعذرية، و عليه فليس هناك غرض الا الطريقية الى الحكم الواقعي، غايته انه عند المخالفة و عدم الاصابة يكون الجاري في عمله على طبق الطريق معذورا، فبناء على هذا المبنى لا حكم غير الحكم الواقعي اصلا، فلا موجب للالتزام بالتصويب بالمعنى الثالث، و ان كان ليس بمحال و لا باطل كما عرفت.

و قد عرفت- ايضا- انه بناء على السببية لا محيص من الالتزام به. و اما بناء على جعل الحكم الطريقي و هو ايصال الواقع بعنوان غير عنوانه كعنوان ما قامت عليه الطرق، كمن اراد اكرام زيد فقال لعبده اكرم جاري، فانه ايضا لا حكم هناك غير الحكم الواقعي، لانه عند الاصابة فالواصل هو الحكم الواقعي، غايته انه بعنوان آخر، و عند الخطأ لا حكم طريقي، فلا داعي للالتزام بالتصويب ايضا لعدم تعدد الحكم الفعلي في مرحلة الظاهر.

فاتضح: انه بناء على الطريقية لا حكم في مرحلة الظاهر سواء كان المجعول هو الحكم الطريقي او كان المجعول نفس الحجية.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «نعم بناء على اعتبارها» أي اعتبار الامارات «من باب الطريقية كما هو كذلك» لان مختاره (قدس سره) ان جعل الامارات من باب الطريقية، و عليه «فمؤديات الطرق و الامارات المعتبرة ليست باحكام حقيقية نفسية و لو قيل بكونها احكاما طريقية» كما عرفت من انه لا يكون هناك حكم غير الحكم الواقعي بناء على جعل الحكم الطريقي.

ثم اشار الى رأيه في جعل الطريقية للامارات- و ان المجعول فيها هو الحجية و لا حكم هناك حتى الحكم الطريقي- بقوله: «و قد مر غير مرة امكان منع كونها احكاما كذلك ايضا» أي احكاما طريقية «و ان قضية حجيتها» أي قضية حجية

ص: 292

فصل إذا اضمحل الاجتهاد السابق بتبدل الرأي الاول بالآخر أو بزواله بدونه، فلا شبهة في عدم العبرة به في الاعمال اللاحقة، و لزوم اتباع الاجتهاد اللاحق مطلقا أو الاحتياط فيها (1)، و أما الاعمال السابقة

______________________________

الامارات «ليست إلّا تنجيز مؤدّياتها عند اصابتها و العذر عند خطئها فلا يكون» هناك «حكم اصلا الا الحكم الواقعي فيصير» الحكم الواقعي «منجزا فيما قام عليه حجة من علم او طريق معتبر» لان المجعول في الطريق المعتبر هو آثار العلم «و يكون» الحكم الواقعي «غير منجز بل غير فعلي» لقوله هنا بكون الحكم الواقعي انشائيا «فيما» اذا اخطأه الطريق و «لم تكن هناك حجية مصيبة» للواقع.

(1)

الفصل الخامس: تبدّل رأي المجتهد

اشارة

لا يخفى انه قد توهم عدم الفرق بين هذه المسألة و مسألة الاجزاء، و ان الكلام في هذه المسألة بعد الكلام في مسألة الاجزاء هو من التكرار.

و لعل منشأ التوهم ان اضمحلال الرأي السابق مع تبدله برأي آخر او مع عدم تبدله بل بمجرد زوال الرأي السابق مرجعه الى انكشاف الخلاف، فانه في الاجزاء في الامر الظاهري بعد انكشاف الخلاف و اضمحلال الرأي السابق هما متفقان، لان في كل منهما انكشاف الخلاف.

و لكنه توهم فاسد، لوضوح ان الكلام في مسألة الاجزاء في بعض مقاماته بفرض عدم اضمحلال الرأي السابق، كما في اجزاء الامر الاضطراري بعد ارتفاع الاضطرار في الوقت او في خارجه. هذا أولا.

و ثانيا: ان النسبة بين العنوانين عموم من وجه، لصدق مسألة الاجزاء في مسألة اجزاء الامر الاضطراري عن الامر الواقعي من دون اضمحلال الرأي بل من جهة ارتفاع الاضطرار، و صدق هذه المسألة في العقود و الايقاعات لان موضوع مسألة الاجزاء في الامر التكليفي لا فيما يعم الوضع، و تصادقهما في الامر الظاهري بعد انكشاف الخلاف، فان انكشاف الخلاف في الامر الظاهري لازمه تبدل

ص: 293

.....

______________________________

الرأي السابق. و من فرض عنوان التبدل يظهر ان الكلام مختص بما لا يعم انكشاف الخلاف من ناحية الامور الخارجية، لانه ليس من التبدل و هو واضح.

و بعبارة اخرى: ان مفروض الكلام هو الشبهة الحكمية دون الموضوعية. فظهر ان محل الكلام هو ما اذا ادى نظر المجتهد الى حكم ثم تبدل رأيه، سواء كان مع اداء نظره الى حكم آخر كما لو كان رأيه السابق وجوب شي ء- مثلا- ثم تبدل رأيه الى استحبابه، او مع عدم اداء نظره الى حكم آخر بل كان محض عدم الحكم السابق، كما لو كان رأيه السابق وجوب الجمعة تعيينا ثم تبدل الى محض عدم وجوب الجمعة تعيينا، من دون اداء نظره الى وجوبها تخييرا او حرمتها او استحبابها، بان يكون من المتوقفين في ذلك.

و على كل حال فاذا زال رأيه السابق فلا اشكال في عدم العبرة به في العمل اللاحق، لوضوح ارتفاع الحجة بالنسبة الى العمل في الزمان اللاحق، فالعمل في اللاحق على طبق رأيه السابق من العمل من دون حجة، لانه اذا تبدل الى القطع بعدم ما كان عليه رأيه السابق فمع القطع ببطلان الرأي السابق و مخالفته للواقع قطعا لا مجال لاحتمال العبرة به في اللاحق، سواء كان رأيه السابق قطعا او ظنا. و اذا تبدل رأيه الى قيام الحجة تعبدا على خلافه، كما اذا كان تبدل رأيه- مثلا- الى الظن المعتبر على خلاف رأيه السابق، فان كان رأيه السابق قطعا فمع فرض انتقاضه بالظن لا بقاء له حتى يكون حجة في اللاحق، و اذا كان رأيه السابق ظنا فلا مجال لحجيته بعد انتقاضه بالظن المعتبر على خلافه. هذا اذا تبدل رأيه الى القطع او الظن بالحكم المخالف للحكم الذي كان في السابق.

و اما اذا تبدل رأيه الى محض عدم الحكم السابق فهو و ان لم يكن له حجة على الحكم في اللاحق، إلّا انه لا وجه لحجية الرأي السابق بعد ارتفاعه، فقد يكون حكمه بعد تبدل الرأي هو الاحتياط، كما لو كان رأيه سابقا حرمة الجمعة ثم تبدل رأيه الى عدم حرمتها و كان متوقفا لاحقا من حيث وجوبها التعييني او التخييري،

ص: 294

الواقعة على وفقه المختل فيها ما اعتبر في صحتها بحسب هذا الاجتهاد، فلا بد من معاملة البطلان معها (1) فيما لم ينهض دليل على صحة العمل

______________________________

فانه مع فرض التوقف فعلا في التعيينية و التخييرية لا بد من الاحتياط باتيان الجمعة لاحتمال وجوبها التعييني، بناء على لزوم الاحتياط فيما اذا دار الامر بين التعيين و التخيير.

و قد اشار الى عدم الاشكال- في عدم الاعتناء بالرأي السابق بعد التبدل بالنسبة الى الاعمال اللاحقة- بقوله: «فلا شبهة في عدم العبرة به» أي بعدم العبرة بالرأي السابق بعد التبدل «في الاعمال اللاحقة» و هو واضح كما عرفت. و اشار الى لزوم اتباع الرأي اللاحق- فيما اذا تبدل رأيه الى حكم في اللاحق مخالف للحكم السابق سواء كان الرأي قطعيا او ظنيا، و سواء كان الرأي اللاحق ايضا قطعيا أو ظنيا- بقوله: «و لزوم اتباع الاجتهاد اللاحق مطلقا» و قد عرفت وجه الاطلاق. و اشار الى عدم اتباع الرأي السابق- فيما اذا تبدل رأيه الى محض ارتفاع الحكم السابق مع التوقف في اللاحق بحيث حكمه الاحتياط لاحقا فلا بد من العمل بالاحتياط في اللاحق- بقوله: «او الاحتياط فيها» أي في الاعمال اللاحقة.

(1) قد عرفت عدم العبرة بالرأي السابق بالنسبة الى الاعمال اللاحقة بعد تبدل الرأي. و لكن في الاعمال السابقة بعد تبدل رأي المجتهد فيها فهل يحكم ببطلانها و لزوم الاعادة او القضاء في العبادات؟ او يحكم بصحتها و مضيها و ان تبدل الرأي فيها؟

و مثلها المعاملات فهل يحكم ببطلانها و عدم ترتب الاثر ام لا؟

ففيما اذا كان رأيه السابق- مثلا- عدم وجوب السورة فصلى من غير سورة هو او مقلدوه، ثم تبدل رأيه الى وجوبها، فهل تجب الاعادة في الوقت و القضاء في خارجة ام لا؟ و فيما اذا كان رأيه صحة العقد بالفارسية، فعقد عقدا بالفارسية بان زوج او تزوج بالعقد الفارسي ثم تبدل رأيه الى بطلان العقد بالفارسي و لزوم كونه

ص: 295

.....

______________________________

بالعربية، فهل اللازم بطلان الزوجية التي كان عقدها سابقا بالفارسية؟ او صحتها و عدم بطلانها؟ و انما اللازم كون العقد في المعاملات اللاحقة بالعربية.

و تفصيل الكلام في ذلك: انه لا ينبغي الاشكال في الحكم بالبطلان و لزوم الاعادة او القضاء في العبادات، و الحكم بالبطلان في المعاملات، فيما اذا كان رأيه اللاحق قطعيا حتى و لو كان رأيه السابق قطعيا ايضا، فضلا عما اذا كان رأيه السابق رأيه ظنيا، لبداهة ان القطع اللاحق بالخلاف معناه انه لم يكن في السابق حكم قطعا، و مع القطع بعدم الحكم و ان اعماله السابقة لم تكن على وفق الحكم لا تكليفا و لا وضعا، فلا مناص عن بطلان الاعمال السابقة عبادة كانت او معاملة. و اما اذا كان رأيه اللاحق ظنيا فسواء كان رأيه السابق قطعيا او ظنيا فقد يتوهم مضي الاعمال السابقة و عدم تأتي النقض فيها، لعدم انكشاف الخلاف فيها انكشافا حقيقيا. لكنه لا وجه له، لفرض زوال القطع السابق و تبدله بالظن المعتبر على خلافه المقتضي لكون الحكم السابق لم يكن هو الحكم، بل الحكم في السابق بموجب قيام الحجة المعتبرة هو الحكم اللاحق، فلا وجه لتوهم عدم نقض الحكم السابق من حيث كون الحجة اللاحقة ظنية تعبدية .. هذا بالنسبة الى ما تقتضيه القاعدة في تبدل الرأي.

و اما بالنسبة الى ما يقتضي الدليل فالكلام فيه في مقامات ثلاثة:

الاول: فيما يقتضيه جعل الامارات.

الثاني: فيما يقتضيه جعل الاصول.

الثالث: فيما يقتضيه الدليل الخارجي، و قد ذكر المصنف ما يقتضيه الدليل الخارجي في ضمن كلامه في المقام الاول، و هو ما يقتضيه الجعل في الامارات.

اذا عرفت هذا ... فنقول: ان جعل الامارات بناء على الطريقية- سواء كان بناء على جعل الحكم الطريقي، او بناء على جعل المنجزية و المعذرية- فانه بعد تبدل الرأي و انكشاف خلاف الحكم السابق لا بد من معاملة البطلان مع الحكم السابق، فان جعل الامارات من باب الطريقية حتى بناء على جعل الحكم الطريقي

ص: 296

فيما إذا اختل فيه لعذر، كما نهض في الصلاة و غيرها، مثل لا تعاد،

______________________________

فان الحكم الطريقي معناه اما انشاء الطلب بداعي تنجيز الواقع، او انه انشاء الطلب بداعي جعل الحكم بعنوان انه ايصال الواقع، فان اصاب الطريق الواقع فهناك حكم و ان اخطأ الطريق الواقع فلا حكم، و حيث ان المفروض قيام الامارة المعتبرة على خلاف الحكم السابق فلازمه انه لا حكم في السابق تعبدا، و حيث لا حكم للعمل السابق فلا بد من بطلانه و الاعادة او القضاء في العبادات، و لا بد من ترتيب عدم الاثر في المعاملات.

لا يقال: ان الامارة انما قامت في الزمان اللاحق و حيث لم تكن الامارة قطعا فالعمل السابق محتمل الصحة، فكيف يحكم ببطلانه؟

فانه يقال: ان لسان الامارة على الطريقية كون الحكم الواقعي هو ما قامت عليه الامارة، و لا فرق فيه بين الزمان السابق و اللاحق، فالامارة و ان كان قيامها في الزمان اللاحق إلّا ان لسانها كون ما قامت عليه هو الحكم الواقعي، و لا فرق في الحكم الواقعي بين الزمان السابق و اللاحق. و مثله الحال بناء على جعل الحجية، فان لازمه كون الحجة المنجزة و المعذرة هي الحجة اللاحقة، و اما السابقة فقد انكشف خلافها و انها لا منجزة و لا معذرة، و لازم ذلك البطلان في الاعمال السابقة عبادة او معاملة. هذا فيما كان تبدل الرأي لقيام الامارة المعتبرة. و اما اذا كان تبدل الرأي بالقطع في اللاحق فقد عرفت ان لازمه القطع بعدم الحكم السابق، و حيث لا حكم للعمل السابق فلا بد من البطلان، و لذا قال (قدس سره): «فلا بد من معاملة البطلان معها» أي مع الاعمال السابقة بعد اضمحلال الاجتهاد الاول و تبدل الاجتهاد بما يقتضي الاختلال في الاعمال السابقة، و سيأتي منه الاشارة الى الوجه في البطلان حيث يكون تبدل الرأي بالقطع او قيام الامارة المعتبرة على اختلال الاعمال السابقة على الطريقية سواء على الحكم الطريقي او جعل الحجية.

ص: 297

و حديث الرفع، بل الاجماع على الاجزاء في العبادات على ما ادعي (1).

و ذلك فيما كان بحسب الاجتهاد الاول قد حصل القطع بالحكم و قد اضمحل واضح، بداهة أنه لا حكم معه شرعا، غايته المعذورية في المخالفة عقلا، و كذلك فيما كان هناك طريق معتبر شرعا عليه بحسبه، و قد ظهر خلافه بالظفر بالمقيد أو المخصص أو قرينة المجاز أو المعارض، بناء على ما هو التحقيق من اعتبار الامارة من باب الطريقية، قيل بأن قضية اعتبارها إنشاء أحكام طريقية، أم لا على ما مر منا غير مرة (2)،

______________________________

(1) هذا هو المقام الثالث و هو قيام الدليل الخارجي على صحة العمل السابق الواقع لعذر اما لقيام الاجتهاد عليه او للنسيان.

و اما الادلة الخارجية التي اشار اليها فهي ثلاثة:

دليل لا تعاد الصلاة الا من خمس، بناء على اطلاقه و شموله للجهل لا اختصاصه بالنسيان، فانه يدل على مضي الصلاة السابقة و ان كانت مختلفة من غير الركوع و السجود و القبلة و الوقت و الطهور جهلا او نسيانا.

و دليل الرفع و هي فقرة رفع ما لا يعلمون، بناء على ان المرفوع الاثر في حال الجهل لا المؤاخذة فقط، فان الاثر للعمل العبادي المختل هو الاعادة و القضاء.

فبواسطة دليل الرفع لا قضاء و لا اعادة اذا اضمحل الاجتهاد السابق مع قيام الاجتهاد اللاحق على خلافه، لانه قد تبين ان الاجتهاد السابق كان جهلا.

و الاجماع المدعى على الاجزاء في خصوص العبادات فيما اذا كان اختلالها لاجل الاجتهاد السابق.

(2) هذا هو الوجه لقوله فلا بد من معاملة البطلان معها، و قد مر ان الوجه في بطلان الاعمال السابقة فيما اذا كان السبب في الاجتهاد السابق هو القطع بالحكم السابق، ثم اضمحل و تبدل في اللاحق، سواء تبدل الى محض عدم القطع السابق أو تبدل بالقطع ايضا على خلاف السابق او بالظن المعتبر على خلافه، و ان الوجه في بطلان

ص: 298

.....

______________________________

العمل السابق هو انه حيث كان بالقطع و القطع حجة عقلا بمعنى كونه منجزا لو اصاب و معذرا لو خالف عقلا، و حيث ان المفروض اضمحلال القطع السابق فقد انكشف انه لا منجزية و لا معذرية. اما فيما لو كان التبدل بالقطع ايضا فقد انكشف عدم الحكم السابق. و اما لو تبدل بالظن المعتبر القائم على خلاف الحكم السابق فقد اضمحلت الحجة العقلية السابقة و قامت الامارة الشرعية على خلافها. و مثله ما لو اضمحل القطع السابق فقط من دون حصول القطع في اللاحق و لا الامارة الشرعية، بل كان رأيه التوقف و عمله في اللاحق على الاحتياط، لما عرفت من ان العمل السابق حيث كان بحجة عقلا و قد انكشف ان العمل السابق لم يكن عن الحجة.

و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «و ذلك» أي ما قلنا من انه لا بد من معاملة البطلان مع الاعمال السابقة «فيما كان» العمل السابق «بحسب الاجتهاد الاول قد حصل» ب «القطع بالحكم و قد اضمحل واضح» أي ان الوجه في البطلان واضح «بداهة انه لا حكم معه» أي لا حكم مع القطع «شرعا» لان حجيته ليست بجعل جاعل و انما «غايته» أي غاية القطع هي «المعذورية في المخالفة عقلا» و لا اقتضاء للمعذرية العقلية لا جزاء الاعمال السابقة.

و اما الوجه في معاملة البطلان مع الاعمال السابقة التي كانت عن اجتهاد ظني، بان كان الاجتهاد السابق لقيام امارة معتبرة في نظر المجتهد على الحكم السابق، و بعد ذلك ظهر خلافها في رأيه و تبدل رأيه الى الخلاف، كما لو كان الحكم السابق لاجل عموم معتبر، ثم ظفر المجتهد بما يدل على تقييده او تخصيصه فتبدل رأيه في اللاحق على خلاف الحكم العمومي السابق. و من الواضح انه بناء على جعل الطريقية لازمه بطلان الاعمال السابقة لان حجتها هي الامارة، و حجية الامارة لانها طريق الى الواقع اما بجعل الحكم الطريقي او بجعل نفس الحجية، و بعد انكشاف الخلاف ظهر انه لم يكن هناك حكم طريقي على طبق الامارة أو لا حجية لها، و عليه فلا بد من معاملة البطلان مع الاعمال السابقة حيث انكشف انها كانت من غير حجة.

ص: 299

من غير فرق بين تعلقه بالاحكام أو بمتعلقاتها، ضرورة أن كيفية اعتبارها فيهما على نهج واحد (1)، و لم يعلم وجه للتفصيل بينهما، كما في

______________________________

و قد اشار الى ما ذكرنا- من البطلان حيث يكون الاجتهاد السابق عن امارة- بقوله: «و كذلك فيما كان هناك» أي في الاجتهاد السابق «طريق معتبر شرعا عليه» أي على الحكم السابق «بحسبه» أي بحسب الطريق المعتبر «و قد» اضمحل لانه «ظهر خلافه بالظفر بالمقيد او المخصص او قرينة المجاز او» لاجل الظفر ب «المعارض» الاقوى في الحجية. و اشار الى ان الوجه في البطلان هو لاجل كون الجعل في الامارات من باب الطريقية سواء كان بجعل الحكم الطريقي او جعل الحجية بقوله: «بناء على ما هو التحقيق من اعتبار الامارة من باب الطريقية» سواء «قيل بان قضية اعتبارها انشاء أحكام طريقية ام لا على ما مر منا غير مرة» من ان المجعول فيها هي الحجية.

(1) حاصله: ان الامارة: تارة تقوم على الحكم، كقيام الامارة على وجوب شي ء مثلا، و اخرى على متعلق الحكم، كقيامها على ان الصلاة- مثلا- التي هي متعلق الوجوب ليس جزؤها السورة، او ان الارانب و الثعالب مما يجوز تذكيتها و اثرها طهارة لحمها و جلدها بعد التذكية دون حلية أكلها. و على كل فلا فرق في لزوم معاملة البطلان مع الاعمال السابقة عند انكشاف الخلاف، سواء كان الاجتهاد السابق كان في الحكم او في متعلقه، فلو صلى الجمعة ثم انكشف عدم وجوبها فالقاعدة تقتضي الاتيان بالظهر مثلا في الوقت، و قضاءه في خارجه ما لم يقم دليل على الاجزاء. و كذا لو صلى مع ملامسته للحم الارنب المذكى او صلى في جلد الارنب المذكى ثم انكشف الخلاف و انه لا يقبل التذكية مثلا، فانه ايضا لا بد من الاعادة او القضاء. و السبب في عدم الفرق واضح، و هو ان جعل الامارة على الطريقية لا فرق فيه بين كون الامارة قائمة على الحكم او على متعلقه.

ص: 300

الفصول (1)، و أن المتعلّقات لا تتحمّل اجتهادين بخلاف الاحكام، إلّا حسبان أن الاحكام قابلة للتغيير و التبدّل، بخلاف المتعلقات

______________________________

و الى هذا اشار بقوله: «ضرورة ان كيفية اعتبارها» أي كيفية اعتبار الامارة على الطريقية «فيهما» أي في الاحكام في متعلقاتها «على نهج واحد».

(1)

تفصيل صاحب الفصول بين تعلق الاجتهاد في نفس الحكم و بين كونه في متعلق الحكم

لقد ذكر صاحب الفصول تفصيلا في المقام، و استظهر المصنف من كلامه انه تفصيل بين كون التبدّل في الرأي في نفس الحكم و بين كونه في متعلّق الحكم، فقال بالبطلان في الاول دون الثاني. و استظهر منه بعض الاعلام التفصيل بين الواجبات و العقود و الايقاعات، و بين الاحكام التي هي القسم الرابع من ابواب الفقه، مثل طهارة عرق الجنب من الحرام و كون حيوان قابلا للتذكية، و بنى على البطلان في الثاني دون الاول.

و لا يخفى ان عنوان صاحب الفصول ظاهره كون التفصيل كما استظهره المصنف، و الامثلة التي ذكرها لطرفي التفصيل ظاهرها ما استظهره بعض الاعلام، لان العنوان المذكور في كلام صاحب الفصول في بيان التفصيل هو الفرق بين ما يتعيّن في وقوعه شرعا اخذه بمقتضى الفتوى، و بين ما لا يتعيّن في وقوعه شرعا اخذه بمقتضى الفتوى.

و ذكر الوجه في عدم معاملة البطلان في الاجتهاد السابق بعد تبدّل الرأي في الاول، بان الواقعة الواحدة لا تتحمل اجتهادين و لو في زمانين. و الوجه في بطلان الاجتهاد في الثاني بعد تبدّل الرأي: هو ان رجوع المجتهد عن رأيه هو رجوع عن حكم الموضوع.

و مثّل للاول بما اذا بنى على عدم جزئية شي ء او عدم شرطيته للعبادة، ثم رجع و بنى على جزئيته او شرطيته للعبادة، و بما اذا بنى على صحة الصلاة في وبر الارانب و الثعالب ثم رجع، و بما اذا بنى على طهارة شي ء ثم صلى في ملاقيه ثم رجع، و بما

ص: 301

و الموضوعات (1)، و أنت خبير أن الواقع واحد فيهما، و قد عيّن أولا بما

______________________________

اذا تطهر بما يراه طاهرا او طهورا ثم رجع، و بما اذا عقد عقدا او أوقع ايقاعا بصيغة يرى صحتها ثم رجع.

و مثل للثاني بما اذا بنى على حلية حيوان ثم ذكّاه ثم رجع و بنى على تحريم المذكى منه و غير المذكى منه، و بما اذا بنى على طهارة العرق من المجنب بالحرام فلاقاه ثم رجع و بنى على نجاسته او نجاسة ملاقيه، و بما اذا بنى على عدم تحريم الرضعات العشر فتزوج من ارضعته، ثم رجع و بنى على تحريم الرضعات العشر و انها تنشر الحرمة.

و مما ذكرنا اتضح: ان العنوان في كلام صاحب الفصول يساعد على استظهار المصنف، لظهور قوله في مقام التعليل للبطلان في الثاني بانه رجوع عن حكم الموضوع في ذلك، و لكن الأمثلة التي ذكرها تنافي ذلك، فان الرجوع عن طهارة عرق الجنب هو من الرجوع عن حكم الموضوع، مع انه جعله مثالا للقسم الاول الذي هو الحكم بحسب استظهار المصنف، و ما ذكره بعض الاعلام مستظهرا له من كلام الفصول تساعده الامثلة، لان أمثلة القسم الاول بعضها واجبات عبادية، و صرّح بان العقود و الايقاع بالصيغة منه، و امثلة القسم الثاني من الاحكام التي هي القسم الرابع من ابواب الفقه.

و لكن العنوان قد استظهر منه شيخنا الاجل- اعلى اللّه مقامه- في حاشيته على هذا الكتاب في المقام معنى آخر غير الاستظهارين المذكورين، و به يرتفع التدافع بين عنوان صاحب الفصول و امثلته فراجع ...

(1) بعد ان استظهر المصنف من كلام الفصول هو التفصيل بين المتعلقات و الاحكام، و انه يقول بان تبدّل الرأي في المتعلّقات لا يقتضي بطلان الاعمال السابقة، بخلاف تبدّل الرأي في الاحكام فانه يقتضي البطلان في الاعمال السابقة، و حمل قول الفصول على ان المتعلقات لا تتحمل اجتهادين بخلاف الاحكام، لاجل ان المتعلقات

ص: 302

ظهر خطؤه ثانيا (1)، و لزوم العسر و الحرج و الهرج و المرج المخلّ بالنظام و الموجب للمخاصمة بين الانام، لو قيل بعدم صحة العقود و الايقاعات و العبادات الواقعة على طبق الاجتهاد الاول الفاسدة بحسب الاجتهاد الثاني، و وجوب العمل على طبق الثاني، من عدم ترتيب الاثر على المعاملة و إعادة العبادة، لا يكون إلا أحيانا (2)، و أدلة نفي العسر لا تنفي

______________________________

امور خارجية فهي لا تقبل التغيير بخلاف الاحكام فانها قابلة للتغيير، و لذلك كان لا بد من صحة الاعمال السابقة بالنسبة الى المتعلقات و الموضوعات، لانها حيث لا تقبل التغيير فهي لا تتحمل اجتهادين، فلا يكون تبدّل الرأي موجبا لفساد الاعمال السابقة في المتعلقات. و اما الاحكام فلانها تقبل التغيير و حيث انكشف الخلاف و تبدّل الرأي بالاجتهاد اللاحق، فلا بد من تغيير احكامها و فساد الاعمال السابقة بالنسبة اليها. و قد اشار الى هذا بقوله: «الّا حسبان ان الكلام قابلة للتغيير ... الى آخر الجملة».

(1)

الفرق بين الاحكام و الموضوعات

حاصله: انه لا وجه للفرق بين الاحكام و الموضوعات فان التبدّل يكون دائما في الحكم، لوضوح ان التبدّل في الموضوعات هو التبدل في احكامها لا في نفسها فانه لا معنى له، و على كلّ فقد ظهر ان الواقع واحد فيهما معا فلا وجه للفرق بينهما، و لم يظهر محصل لقوله ان الواقعة الواحدة لا تتحمل اجتهادين بعد ما عرفت من ان التبدّل فيهما في الحكم من دون فرق بينهما، و حيث انكشف خلافه فلا بد من معاملة البطلان مع الاعمال السابقة سواء كان التبدّل في الحكم أو في الموضوع.

و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «و انت خبير بان الواقع واحد فيهما» أي في الاحكام و المتعلّقات «و قد عيّن» الحال فيه «اولا بما ظهر خطؤه ثانيا» كما هو المفروض باضمحلال الاجتهاد الاول و تبدله ثانيا بالاجتهاد الثاني على خلافه.

(2) لقد استدل صاحب الفصول على لزوم عدم البطلان في المتعلقات: بان الالتزام ببطلان الاعمال السابقة فيها موجب للعسر و الحرج و الهرج و المرج المخل بالنظام

ص: 303

.....

______________________________

و موجب لعود المخاصمات التي قد انتهى فصلها بالاجتهاد الاول، فان تبدل الرأي في العقود و الايقاعات السابقة لو قيل ببطلان الاعمال فيها لاستلزم ذلك من الفساد ما يوجب العسر و الحرج، فانه- مثلا- لو عقد أو أوقع بالفارسية ثم بنى على فساد العقد و الايقاع بها و كان المجتهد أو مقلدوه قد عقد عقودا كثيرة و حصلت معاوضات متعددة بالاموال و وقع نكاحات كثيرة، فان الالتزام بالبطلان فيها موجب للعسر و الحرج، بل قد يوجب الهرج و المرج المخل بالنظام. و مثله الحال فيما لو حكم الحاكم و فصل الخصومة بالبناء على صحة العقد و الايقاع الواقع بالصيغة الفارسية، فان رجوعه عنه ثانيا يوجب عود المخاصمات، و هو ما يوجب العسر و الحرج بل قد يوجب الهرج و المرج. و الى هذا اشار بقوله: «و لزوم العسر و الحرج» ... الى آخر الجملة، و هي لفظ الايقاعات.

و استدل في الفصول بان تبدل الرأي في الاحكام لا يوجب شيئا من ذلك لو كان التبدل في الاحكام، فان العبادات الواقعة على طبق الاجتهاد الاول كما لو بنى أولا على عدم مانعية شي ء او على عدم جزئيته فصلى في وبر الارانب- مثلا- او صلى من غير سورة ثم بنى على مانعيته و كون السورة جزءا من الصلاة، و كذا لو بنى على ان بعض الحيوان يقبل التذكية فذكاه ثم بنى على عدم قبوله للتذكية، فان اعادة الصلاة الواقعة بلا سورة و البناء على نجاسة الحيوان الذي ذكاه لا يوجب شيئا لا من العسر و الحرج و لا الهرج و المرج، و لا وجه لعود الخصومة لعدم تعقل الخصومة في الاحكام. و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «و العبادات الواقعة على طبق الاجتهاد الاول الفاسدة بحسب الاجتهاد الثاني» كما هو المفروض «و» لازمه «وجوب العمل على طبق الثاني» و معاملة البطلان مع الاعمال السابقة، و عليه لا بد «من عدم ترتيب الاثر على المعاملة» و المراد بالمعاملة هو مثل حرمة الحيوان الذي لا يقبل التذكية بحسب الاجتهاد الثاني «و» لزوم «اعادة العبادة» التي كانت بلا سورة، و مثل هذه الامور لا يكون إلّا احيانا.

ص: 304

إلا خصوص ما لزم منه العسر فعلا، مع عدم اختصاص ذلك بالمتعلقات، و لزوم العسر في الاحكام كذلك أيضا لو قيل بلزوم ترتيب الاثر على طبق الاجتهاد الثاني في الاعمال السابقة، و باب الهرج و المرج ينسد بالحكومة و فصل الخصومة.

و بالجملة لا يكون التفاوت بين الاحكام و متعلقاتها، بتحمل الاجتهادين و عدم التحمل بينا و لا مبينا، بما يرجع إلى محصل في كلامه زيد في علو مقامه فراجع و تأمل (1).

______________________________

(1) هذا هو الجواب عن استدلال صاحب الفصول، و قد اجاب عنه باجوبة اربعة:

الاول: ان ما يستلزم العسر و الحرج و ان كان منفيا بادلة نفي العسر و الحرج، إلّا ان اللازم استثناء ما لا يلزم منه ذلك في المتعلقات، لا صحة الاعمال بالنسبة الى المتعلقات مطلقا. و الى هذا اشار بقوله: «و ادلة نفي العسر لا تنفي الا خصوص ما لزم منه العسر فعلا» لا مطلق الاعمال بالنسبة الى الموضوعات مطلقا.

الثاني: ان لزوم العسر و الحرج لا يختص بالمتعلقات و الموضوعات، فانه يكون في الاحكام ايضا، فان من صلى مدة من السنين هو و مقلدوه بلا سورة- مثلا- لازمه العسر و الحرج في قضاء هذه الصلاة كلها. و الى هذا اشار بقوله: «مع عدم اختصاص ذلك» أي لزوم العسر و الحرج لا يختص «بالمتعلقات و» ان «لزوم العسر» يكون «في الاحكام كذلك ايضا لو قيل بلزوم ترتيب الاثر على طبق الاجتهاد الثاني في الاعمال السابقة».

الثالث: ان ما ذكره من لزوم الهرج و المرج لو قيل بمعاملة البطلان مع الاعمال السابقة انما يلزم لاجل عود الخصومات، و لكنه مع فصل الخصومة على طبق الاجتهاد الثاني لا يكون هرج و مرج. و الى هذا اشار بقوله: «و باب الهرج و المرج ينسد بالحكومة و فصل الخصومة» على ما يقتضيه الاجتهاد الثاني.

ص: 305

و أما بناء على اعتبارها من باب السببية و الموضوعية، فلا محيص عن القول بصحة العمل على طبق الاجتهاد الاول، عبادة كان أو معاملة، و كون مؤداه- ما لم يضمحل- حكما حقيقة (1)، و كذلك الحال إذا كان

______________________________

الرابع: ان ما ذكره من عدم تحمل الواقعة لاجتهادين في زمانين بالنسبة الى خصوص المتعلقات دون الاحكام لا محصل له، بعد ما عرفت من ان التبدل في المتعلقات انما هو في حكمها ايضا. و قد اشار الى ذلك بقوله: «و بالجملة لا يكون التفاوت بين الاحكام و متعلقاتها بتحمل الاجتهادين» في الاحكام «و عدم التحمل» في المتعلقات «بينا و لا مبينا بما يرجع الى» وجه «محصل في كلامه زيد في علو مقامه».

و لا يخفى ان كلام صاحب الفصول في غاية الاغلاق، و قد نقل عن الشيخ الاعظم انه لم يحصل على وجه واضح لكلام الفصول في هذا التفصيل، فبعث اليه احد اجلاء تلامذته و سأل صاحب الفصول عن معنى كلامه، فذكر ايضا في تفسيره بما لم يرتفع به اجمال كلامه (قدس سره). و لكنه قد اشرنا الى ان شيخنا الاجل في حاشيته على الكتاب في كتابه نهاية الدراية قد ذكر وجها محصلا لكلام الفصول، فراجع 29].

(1) حاصله: ان ما ذكرناه من لزوم معاملة البطلان مع الاعمال السابقة عند تبدل الرأي انما هو بناء على ان الجعل في الطرق و الامارات من باب الطريقية.

و اما بناء على القول بالجعل في الطرق و الامارات بنحو السببية و الموضوعية، بان يكون قيام الطريق على حكم واقعي موجبا لجعل حكم فعلي على طبق مؤدى الطريق، فان الحكم الفعلي المجعول على طبق المؤدى هو حكم واقعي ثانوي، و ان اطلق عليه لفظ الحكم الظاهري لاجل كونه حكما في مورد الشك في الحكم الواقعي،

ص: 306

بحسب الاجتهاد الاول مجرى الاستصحاب أو البراءة النقلية، و قد ظفر في الاجتهاد الثاني بدليل على الخلاف، فإنه عمل بما هو وظيفته على تلك الحال، و قد مر في مبحث الاجزاء تحقيق المقال، فراجع هناك (1).

______________________________

و اذا كان حكما واقعيا ثانويا لا انكشاف للخلاف فيه مع تبدل الرأي، لانه مع تبدل الرأي يحصل حكم آخر ثانوي، و مع عدم انكشاف الخلاف لا وجه لكون تبدل الرأي موجبا لفساد الاعمال السابقة، فان تبدل الرأي بناء على السببية يكون من باب ارتفاع الموضوع، فالاعمال السابقة كانت مطابقة للواقع الثانوي، و مع مطابقتها للواقع الثانوي لا وجه لفسادها بعد تبدل الراي، لما عرفت من ان تبدل الرأي يكون- بناء على السببية- من باب ارتفاع الموضوع و حدوث حكم واقعي آخر.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و اما بناء على اعتبارها من باب السببية و الموضوعية» ايضا لا وجه للتفصيل، بل لا بد من صحة الاعمال السابقة سواء كان التبدل في عبادة او معاملة، و لذا قال (قدس سره): «فلا محيص عن القول بصحة العمل» الواقع «على طبق الاجتهاد الاول عبادة كان أو معاملة». و اشار الى انه بناء على السببية يكون مؤدى الطريق حكما واقعيا حقيقيا، و لذا كان لا وجه للفساد و البطلان بقوله: «و كون مؤداه ما لم يضمحل» و يتبدل بالاجتهاد الثاني يكون «حكما حقيقة» و مع كون الاجتهاد الاول حكما حقيقة لا وجه لمعاملة البطلان مع الاعمال الموافقة للاجتهاد الاول.

(1) قد مر في مبحث الاجزاء ان مثل قاعدة الطهارة و قاعدة الاستصحاب الجارية في احراز الطهارة تقتضي الاجزاء، لدلالة قاعدة الطهارة على ان الشرطية الواقعية للصلاة اعم من الطهارة الواقعية و الظاهرية، و قاعدة الطهارة تدل على جعل الحكم الظاهري النفسي في ظرف الشك. و اما الاستصحاب فبناء على جعل الحكم النفسي على طبق اليقين السابق للمستصحب- لا جعل المنجزية لليقين السابق في ظرف الشك- فان الحال فيه يكون حال السببية في الامارات.

ص: 307

.....

______________________________

و قد مر من المصنف ان اضمحلال الاجتهاد السابق من تبدل الموضوع لازمه كون الاجتهاد الاول واجدا للصحة حقيقة في حال عدم انكشاف الخلاف، و حيث يكون واجدا للصحة حقيقة فلا بد من الاجزاء فيها و معاملة الصحة معها بعد الانكشاف، و من الواضح ان الاجزاء- بناء على السببية- هو من خصائص جعل الحكم النفسي على طبق مؤدى الطرق، و حيث كان المجعول في الاستصحاب هو الحكم الظاهري النفسي للمستصحب فلازمه الاجزاء في الاعمال السابقة، و لا بد من معاملة الصحة مع الاعمال السابقة بعد الظفر بالدليل على ان الحكم على خلاف الاستصحاب.

و لا يخفى ان المصنف هنا اضاف الى الاستصحاب البراءة النقلية، بناء على دلالتها على جعل الحكم الظاهري الترخيصي في موردها، لا محض دلالتها على عدم المؤاخذة. و الحاصل: ان دليل الاصل حيث يدل على جعل الحكم الظاهري فحاله حال السببية و الموضوعية في الطرق، و لازمه الاجزاء لأن تبدل الرأي من تبدل الموضوع.

و الحاصل: ان المصنف في مبحث الاجزاء ذكر قاعدة الطهارة و قال بالاجزاء فيها، ثم قال بما حاصله ان الاستصحاب كقاعدة الطهارة في وجه قوي. و مراده من الوجه القوي هو مختاره في كون المستفاد من دليل الاستصحاب هو جعل الحكم الظاهري، كما مر منه ذلك في مبحث الاستصحاب، و هنا لم يذكر قاعدة الطهارة لان المقام من الشبهة الحكمية، و لكنه اضاف هنا الى الاستصحاب البراءة النقلية.

و على كل فجعل الحكم الظاهري لازمه الاجزاء، و لذا قال (قدس سره):

«و كذلك الحال» أي و مثل البناء على السببية في الطرق- من كون لازمها الاجزاء و صحة الاعمال السابقة بعد انكشاف الخلاف- هو الحال في ما «اذا كان العمل» في السابق «بحسب الاجتهاد الاول» لاجل «مجرى الاستصحاب او البراءة النقلية و قد ظفر في الاجتهاد الثاني بدليل على الخلاف» مما يقتضيه الاستصحاب او البراءة النقلية «فانه» لا بد من الالتزام بصحة الاعمال السابقة لانه «عمل بما هو وظيفته

ص: 308

فصل في التقليد و هو أخذ قول الغير و رأيه للعمل به في الفرعيات، أو للالتزام به في الاعتقاديات تعبدا، بلا مطالبة دليل على رأيه، و لا يخفى أنه لا وجه لتفسيره بنفس العمل، ضرورة سبقه عليه، و إلا كان بلا تقليد (1)،

______________________________

على تلك الحال و قد مر في مبحث الاجزاء تحقيق المقال» و الذي مر هناك هو الالتزام بصحة الاعمال السابقة بعد انكشاف الخلاف.

(1)

الفصل السادس التقليد و بعض احكامه

المقام الاول: في معنى التقليد

الكلام في التقليد في مقامين: الاول: في معنى التقليد- الذي هو رجوع الجاهل الى العالم- من حيث مناسبته لمعنى التقليد لغة و عرفا ... و انه هل هو نفس العمل المطابق لرأي المجتهد مع الاستناد الى رأيه؟ و مرجعه الى كون التقليد من الجاهل للمجتهد العالم هو عمل المقلد مستندا في عمله الى رأي المجتهد.

او انه نفس الالتزام و البناء على اتباع قول المجتهد و رأيه؟ و لو من دون ان يعرف ما هو رأي المجتهد في المسائل الفرعية فضلا عن ان يعمل على طبق رأيه.

او انه اخذ قول الغير و رأيه للعمل به في المسائل؟ و مرجعه الى كون التقليد تعلم فتوى المجتهد بقصد العمل على طبقه.

و الحاصل: انه هل هو العمل بما انه مستند الى رأي الغير؟ او انه نفس البناء و النية على الاخذ بقول الغير؟ او انه تعلم رأي الغير و البناء على الاخذ به؟

فالفرق بين الثاني و الثالث هو ان الثاني محض النية من دون تعلم و معرفة لرأي الغير، بخلاف الثالث فانه تعلم رأي الغير مع النية.

المقام الثاني في الدليل على التقليد.

و الكلام الآن في المقام الاول. و لا يخفى ان التقليد في اللغة هو جعل القلادة في عنق الغير، و منه قلد الهدى. و في الاصطلاح هو اخذ قول الغير و اتباع رأيه لاجل العمل به في الفرعيات، او لاجل الالتزام به في الاعتقاديات تعبدا بمعنى انه اتباع لرأيه من دون مطالبته ببرهان: أي ان التقليد هو الاخذ بقول الغير من دون مطالبته

ص: 309

.....

______________________________

بالبرهان على رأيه، و ليس معناه هو نفس الاخذ بلا برهان، بل معناه ان ما فيه الاخذ و هو رأي المجتهد في المسائل الفرعية و الاعتقادية يكون بلا برهان.

و بيان ذلك و توضيحه: ان نفس اخذ قول الغير ربما يكون عن دليل كما في تقليد الجاهل للمجتهد فانه قد قام الدليل عليه كما سيأتي بيانه، و ربما يكون بلا دليل كما في اخذ قول الغير في الاعتقاديات فانه لم يقم دليل على جواز التقليد في الاعتقاديات، بل قام الدليل على عدم جوازه في بعض الامور الاعتقادية كمعرفة الواجب و النبوة. و حيث كان معناه في الاصطلاح لا بد و ان يكون مما ينطبق على التقليد الذي قام الدليل عليه، فيتعين ان يكون قيد عدم المطالبة بالبرهان راجعا لمتعلق الاخذ لا لنفس الاخذ، كما بيناه من ان المراد به هو اخذ رأي الغير من غير مطالبة له بالبرهان على رأيه.

اذا عرفت هذا ... فنقول: ان مختار المصنف ان التقليد هو بالمعنى الثالث و هو تعلم رأي المجتهد للعمل لا نفس العمل، كما صرح به بقوله انه لا وجه لتفسيره بنفس العمل، و لا نفس الالتزام من دون دخل للعمل، لقوله هو اخذ قول الغير للعمل.

اما انه ليس هو نفس الالتزام من دون دخل للعمل فيه، فلوضوح ان التقليد في الاصطلاح هو بمناسبة المعنى اللغوي، و نفس الالتزام من دون دخل فيه للعمل لا يناسب معناه اللغوي، لان نفس الالتزام برأي الغير لا يكون قلادة في عنقه، فنفس الالتزام برأي المجتهد لا يجعل المجتهد ذا قلادة، و انما يكون المجتهد ذا قلادة حيث يعرف المقلد و يتعلم رأي المجتهد لاجل العمل به، و هو المراد من الاخذ في قوله اخذ قول الغير و رأيه للعمل به في الفرعيات.

و اما انه ليس نفس العمل، فعبارة المصنف يمكن ان تشير الى وجهين:

الاول: ان التقليد بازاء الاجتهاد، و من الواضح ان الاجتهاد سابق على العمل، فان المجتهد يجتهد أولا في الحكم ثم يعمل، فلا بد و ان يكون التقليد مثله بان يحصل

ص: 310

فافهم (1).

______________________________

التقليد أولا ثم يكون العمل، و حيث ان التقليد ليس هو نفس الالتزام فيتعين ان يكون هو اخذ قول الغير و تعلمه لاجل العمل.

الثاني: ان الاجتهاد و التقليد متضادان و المتضادان لا بد من اتحادهما في الرتبة، و حيث ان الاجتهاد سابق على العمل فلا بد و ان يكون التقليد سابقا على العمل ايضا.

و مما ذكر يظهر: ان نفس العمل من دون سبقه بالاخذ ليس من التقليد، و لازمه كونه عملا من غير تقليد. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و لا يخفى انه لا وجه لتفسيره» أي لا وجه لتفسير التقليد «بنفس العمل ضرورة سبقه عليه» أي سبق التقليد على العمل «و إلّا كان» العمل- غير المسبوق بما يتحقق به التقليد- عملا «بلا تقليد».

(1) يمكن ان يكون اشارة الى ان المناسب للمعنى اللغوي هو العمل، لان المجتهد انما يكون ذا قلادة بجعل عمل المقلد على طبق رأيه كقلادة في عنقه. و اما بالالتزام برأيه فقط فلا يكون ذا قلادة، لبداهة ان المجتهد انما يتقلد بما كان مطابقا للحكم الذي أدى اليه رأيه، و نفس الالتزام من الغير ليس هو المطابق لما ادى اليه رأيه من الحكم، و انما المطابق له هو العمل الذي يعمله الغير مستندا فيه الى رأي المجتهد. و اما انه ليس هو نفس تعلم رأي المجتهد لاجل العمل، فلانه ايضا ليس نفس التعلم لراي المجتهد هو قلادة، و ليس هو المطابق للحكم الذي أدى اليه، بل المطابق لراي المجتهد هو العمل الذي يكون من المقلد على طبق رأي المجتهد.

و اما ما ذكره من الوجهين .. فيرد على الوجه الاول: انه لا موجب لكون التقليد كالاجتهاد في السبق على العمل، لان السبب في تقدم الاجتهاد في اجتهاد المجتهد على عمل نفسه انما هو لاجل كون عمله لا بد و ان يكون مطابقا للحجة، لذا كان معرفة المجتهد للحجة متقدمة على عمله، و حيث ان التقليد هو جعل المجتهد ذا قلادة

ص: 311

ثم إنه لا يذهب عليك أن جواز التقليد و رجوع الجاهل إلى العالم في الجملة، يكون بديهيا جبليا فطريا لا يحتاج إلى دليل، و إلا لزم سد باب العلم به على العامي مطلقا غالبا، لعجزه عن معرفة ما دل عليه كتابا و سنة (1)، و لا يجوز التقليد فيه أيضا، و إلا لدار أو

______________________________

فلذا كان نفس عمل المقلد- بما انه مستند فيه لرأي المجتهد- هو تقليده له، فلا يلزم في التقليد الالتزام بسبق التقليد على العمل.

و اما الوجه الثاني .. فيرد عليه: ان التقليد من المقلد ليس ضدا للاجتهاد الذي هو معرفة الحجة، و انما هو ضد لعمل المجتهد، و يدل على ذلك ان التقليد ضد ايضا للاحتياط و الاحتياط انما هو في العمل لا في غيره.

و بعبارة اخرى: ان العمل المبرئ للذمة: اما ان يكون عن اجتهاد، و اما ان يكون عن تقليد، و اما ان يكون للاحتياط.

فاتضح ان الاجتهاد و التقليد متقابلان بتقابل التضاد في نفس العمل لا في المعرفة، كما هو الحال في تقابله للاحتياط فانه من البديهي ان تقابلهما في نفس العمل.

و اللّه العالم.

(1)

المقام الثاني، و هو الدليل على جواز التقليد و رجوع الجاهل الى العالم

هذا هو الكلام في المقام الثاني، و هو الدليل على جواز التقليد و رجوع الجاهل الى العالم، و قول المصنف: «في الجملة» للاشارة الى ان التقليد الصحيح المبرئ للذمة هو خصوص رجوع الجاهل الى العالم الجامع للشرائط، و ليس هو مطلق رجوع الجاهل الى العالم، لبداهة ان رجوع الجاهل الى العالم غير الجامع للشرائط غير مبرئ للذمة فلا يكون تقليدا صحيحا.

و قد استدل عليه بأدلة: الاول: كون التقليد بديهيا جبليا فطريا، و هو عمدة الادلة على جواز التقليد عند المصنف.

و توضيحه: ان الفطري بحسب الاصطلاح هي الامور التي قياساتها معها ككون الاربعة زوجا، و الجبلي هو الذي تدعو اليه جبلة ذي الادراك كهرب الحيوان من

ص: 312

.....

______________________________

المخيف. و من الواضح ان التقليد ليس هو مثل كون الاربعة زوجا، و ليس هو من الامور التي تدعو اليه جبلة الحيوان، بل ينبغي ان يكون مراده من الفطري و الجبلي بمناسبة كونه ايضا من البديهي هو كونه وجدانيا، و المراد من كون التقليد امرا وجدانيا هو ان الجاهل بعد التفاته الى انه عليه أحكام منجزة لا بد له من امتثالها، و امتثالها مما يتوقف على العلم بها، و هو عاجز عن تحصيل العلم بها نفسه و لا يقدر على الاحتياط فيها- يكون انحصار العلم بها و معرفتها في الرجوع بها الى العالم بها امرا وجدانيا له، لبداهة انه لو لا ذلك لانسد عليه باب العلم بها، و من الضروري توقف امتثالها على معرفتها.

فاتضح: ان الجاهل يحس ببداهة وجدانه جواز رجوعه الى الغير في معرفة الاحكام المنجزة عليه، و اذا ثبت كونه وجدانيا ثبت عدم احتياجه الى الدليل، لان الامور الوجدانية من الاوليات، و الاوليات لا تحتاج الى دليل، لان غاية الدليل هو ان ينتهي الى الاوليات.

هذا غاية ما يمكن تقريب كون رجوع الجاهل الى العالم امرا وجدانيا.

و لكنه يمكن ان يقال: بانه- ايضا- ليس من الامور الوجدانية، لان الوجدانيات هي الامور التي تكون حاضرة للمدرك بنفسها ككون الشخص له علم او شوق، و ليس التقليد كذلك، بل لا بد و ان يكون الدليل على التقليد هو الدليل العقلي على انحصار امر الجاهل بالتقليد و الرجوع الى الغير، لان العقل بعد ادراكه كون الجاهل عليه أحكام منجزة لا بد له من معرفتها ليتمكن من امتثالها، و بعد فرض كونه عاجزا عن تحصيلها بنفسه، و كونه عاجزا ايضا عن الاحتياط فيها- يحكم العقل بانحصار امره في رجوعه الى العالم.

و على كل فقد اشار الى ما ذكرنا- من تقريب كون التقليد فطريا جبليا بقوله:

«يكون بديهيا جبليا فطريا» كما مر تقريبه، و اذا كان فطريا جبليا فلا بد و انه «لا يحتاج الى دليل» لما مر من ان الامور البديهية لا تحتاج الى الدليل «و إلّا لزم سد

ص: 313

تسلسل (1)، بل هذه هي العمدة في أدلته، و أغلب ما عداه قابل

______________________________

باب العلم به على العامي مطلقا غالبا» و المراد من الاطلاق هو عدم اختصاصه بالجاهل المحض، بل يشمل حتى من له علم و لكنه كان عاجزا عن تحصيل معرفة الحكم بنفسه بان كان لم يبلغ درجة الاجتهاد، و المراد من قوله غالبا هو غالب الاحكام، لان بعضها معلوم بالضرورة لكل واحد من المسلمين. و اشار الى الوجه في استلزامه سد باب العلم بالحكم على الجاهل بقوله: «لعجزه عن معرفة ما دل عليه» أي ما دل على الحكم «كتابا و سنة» و مع فرض عجزه ايضا عن الاحتياط يلزم سد باب العلم بالحكم على الجاهل المتوقف عليه امتثاله له المفروض تنجزه عليه.

(1) حاصله: ان جواز التقليد للجاهل لا بد و ان يكون ثبوته للجاهل اما بجبلته و وجدانه او بالدليل العقلي الذي يحصله، و لا يعقل ان يكون المثبت لجواز التقليد هو التقليد: أي لا يعقل ان يكون الدليل على التقليد نفس التقليد، بان يقلد الجاهل العالم و دليله عليه نفس التقليد لانه مستلزم للدور او التسلسل، لان تقليده للغير ان كان الدليل عليه هو نفس تقليد الغير فنفس تقليد الغير يحتاج الى دليل، فان كان نفس التقليد هو دليله لزم الدور، و ان كان تقليدا آخر لزم التسلسل، لوضوح ان نفس تقليده في جواز التقليد امر يحتاج الى الدليل، و حيث ان المفروض لا دليل عليه الا التقليد، فيكون موجبا لتوقف الشي ء على نفسه، لتوقف نفس التقليد في جواز التقليد على الدليل، و حيث كان الدليل هو نفسه، لانه من حيث كونه مما يتوقف على الدليل يكون متأخرا لبداهة تأخره عن الدليل، و من حيث فرض كونه هو الدليل على نفسه يكون متقدما، و ليست محالية الدور الا لزوم تقدم الشي ء على نفسه.

و الحاصل: انه اما ان يكون هو الدور او مستلزما لمفسدة الدور، حيث نقول بانه لا بد في الدور من فرض اثنين يكون احدهما متوقفا على الآخر و يكون الآخر متوقفا

ص: 314

.....

______________________________

عليه، و هنا امر واحد و هو نفس التقليد للغير، لان المفروض ان نفس التقليد هذا موقوف و موقوف عليه، و لكن مفسدة الدور و هي لزوم كون الشي ء الواحد متقدما و متأخرا موجودة. هذا اذا كان تقليد الغير في جواز التقليد شاملا لنفسه.

و اما اذا لم يكن شاملا لنفسه فلا بد من ثبوته بدليل آخر، و حيث المفروض ان لا دليل الا التقليد فلا بد من كون دليل التقليد في الاحكام هو تقليد آخر، و حيث ان التقليد الآخر- ايضا- هو تقليد فيحتاج الى دليل و لا دليل الا التقليد، فننتقل الى تقليد آخر و هلم جرا ... فيلزم التسلسل.

و الحاصل: ان تقليد الغير ان كان دليله نفس التقليد بان يقلد الغير في جواز التقليد، فنقول: ان نفس تقليد الغير في جواز التقليد حيث انه بنفسه يحتاج الى الدليل فان كان الدليل عليه هو نفسه لزم الدور، و ان كان الدليل عليه تقليد آخر ننقل الكلام اليه من حيث احتياجه الى الدليل ايضا و هلم جرا ... فيلزم التسلسل.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و لا يجوز التقليد فيه ايضا» أي و لا يجوز التقليد في نفس التقليد بان يكون الدليل على التقليد نفس التقليد فانه غير معقول «و إلّا لدار او تسلسل» و ذلك بان يكون الدليل على تقليد الغير في جواز التقليد نفس تقليد الغير في جواز التقليد، لانه بما هو دليل لنفسه يكون موقوفا عليه و بما هو مدلول للدليل يكون متوقفا، فيلزم توقف الشي ء على نفسه.

و اذا قلنا بانه لا بد في الدور الحقيقي من فرض اثنين يكون احدهما متوقفا على الآخر المتوقف ذلك الآخر عليه، و في المقام المتوقف و المتوقف عليه واحد لا اثنان فلا دور حقيقي في المقام، إلّا ان مفسدة الدور و هي لزوم تقدم الشي ء على نفسه موجودة، للزوم كون ذلك الواحد بما هو دليل متقدما و بما هو بنفسه مدلول عليه متأخرا و هو محال، هذا اذا كان دليل جواز التقليد نفس هذا التقليد، و ان كان الدليل لتقليد الغير في جواز التقليد تقليدا آخر ننقل الكلام، لانه حيث كان هو تقليدا ايضا- و حكم الامثال سواء- فهو يحتاج الى دليل ايضا و هلم جرا ... فيلزم التسلسل.

ص: 315

للمناقشة (1)، لبعد تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة، مما يمكن أن يكون القول فيه لاجل كونه من الامور الفطرية الارتكازية، و المنقول منه غير حجة في مثلها، و لو قيل بحجيتها في غيرها، لوهنه بذلك (2).

______________________________

(1) بعد ما مر من ان دليل التقليد هو كونه امرا بديهيا جبليا فطريا- على رأي المصنف- او حكم العقل كما مر تقريبه، و على كل حال فالمحصل للدليل على جواز التقليد هو المقلد نفسه لا غيره اما وجدانه او حكم عقله، و انه لا يعقل ان يكون دليل التقليد نفس التقليد كما عرفت، اما الادلة الأخر لجواز التقليد فستأتي المناقشة فيها- فلا محالة يكون عمدة ادلة التقليد هو ما ذكره، و لذا قال (قدس سره): «بل هذه» أي الامور الثلاثة و هي كونه بديهيا جبليا فطريا «هي العمدة في ادلته و» الوجه في كونه هو العمدة هو ان «اغلب ما عداه قابل للمناقشة» كما سيأتي.

(2) ينبغي ان لا يخفى ان هذا الدليل و ما يأتي من الأدلة انما هي للمجتهد لا للجاهل العاجز عن معرفتها، فلا تنفع هذه الادلة على فرض صحتها للمقلد.

و على كل فقد ادعي الاجماع على جواز التقليد ..

و فيه: ان هذا الاجماع المدعى ان كان هو المحصل ... فيرد عليه: ان تحصيل الاجماع- بما هو اجماع- دليل لجواز التقليد بعيد جدا، لاحتمال ان مدرك المجمعين كلهم او بعضهم هو ما مر ذكره من كون التقليد امرا بديهيا فطريا جبليا ارتكازيا، و مع احتمال كون مدرك فتوى المجمعين ذلك لا يكون الدليل الاجماع بما هو اجماع.

و ان كان الاجماع المدعى هو المنقول ... فيرد عليه: أولا: ما ذكرناه من احتمال المدرك، و ثانيا: ان الاجماع المنقول غير حجة كما مر بطلانه في مبحث الاجماع.

و قد اشار الى الايراد على دعوى الاجماع المحصل بقوله: «لبعد تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة مما يمكن القول ... الى آخر الجملة». و اشار الى الايراد الاول على دعوى الاجماع المنقول بقوله: «و المنقول منه غير حجة في مثلها» أي في مثل هذه المسألة المحتملة المدرك، و اشار الى الايراد الثاني بقوله: «و لو قيل

ص: 316

و منه قد انقدح إمكان القدح في دعوى كونه من ضروريات الدين، لاحتمال أن يكون من ضروريات العقل و فطرياته لا من ضرورياته (1)، و كذا القدح في دعوى سيرة المتدينين (2).

______________________________

بحجيتها» أي و لو قيل بحجية الاجماعات المنقولة «في غيرها» أي في غير هذه المسألة المحتملة المدرك، فان قوله لو قيل اشارة الى عدم حجية المنقول من الاجماع، و لكن لو سلمنا حجية الاجماع فهو ليس بحجة في مثل هذه المسألة «لوهنه بذلك» أي لوهنه في هذه المسألة باحتمال المدرك.

(1) هذا هو دليل آخر لجواز التقليد، و هو دعوى كون جواز التقليد من ضروريات الدين. و وجه القدح في هذه الدعوى ان ضرورية الحكم في الدين على نحوين لانه:

تارة يكون ثبوته لقيام ضرورة الدين عليه كالصلاة و الصوم و الزكاة و الحج، و اخرى يكون ثبوته لكونه ضروري الثبوت عند العقل كالتكليف بغير المقدور و كلزوم اطاعة اللّه. و القدر المتيقن من التقليد هو كونه ضروريا، اما كونه ضروريا دينيا او عقليا فغير معلوم، و حيث انه من الامور البديهية النظرية الجبلية فمن المحتمل كونه ضروريا لانه من الضروريات عند العقل، لا انه من ضروريات الدين. و من هذه الجهة يظهر وجه الانقداح لانه مما ذكرنا من كونه بديهيا جبليا فطريا ينقدح انه من المحتمل كونه من ضروريات العقل لا من ضروريات الدين: أي بعد ما مر من ثبوت كونه وجدانيا يتضح انه ليس من ضروريات الدين، لا انه ليس من الضروريات لان الوجدانيات من الامور الضرورية. و الى ذلك اشار بقوله: «و منه قد انقدح» و قد عرفت وجه الانقداح، و اشار الى نفس القدح بقوله: «امكان القدح في دعوى كونه من ضروريات الدين ل» أجل احتمال ان يكون من ضروريات العقل و فطرياته لا من ضرورياته» أي لا من ضروريات الدين.

(2) و هذا دليل آخر ايضا، و هو سيرة المتدينين على التقليد و رجوع الجاهل الى العالم.

ص: 317

و أما الآيات، فلعدم دلالة آية النفر و السؤال على جوازه، لقوة احتمال أن يكون الارجاع لتحصيل العلم لا الأخذ تعبدا، مع أن المسئول في آية السؤال هم أهل الكتاب كما هو ظاهرها، أو أهل بيت العصمة الاطهار كما فسر به في الاخبار (1).

______________________________

و توضيحه: ان السيرة: تارة سيرة العرف و العقلاء و هي التي تحتاج الى امضاء، و اخرى سيرة المتدينين و هي سيرة المتشرعة- بما هم متشرعون- و هي كاشفة عن رأي الشارع و هي الاجماع العملي و لا تحتاج الى امضاء، و لا اشكال في قيامها على التقليد، إلّا ان الاشكال في كونها دليلا برأسه، فان كونها دليلا برأسه لا بد و ان تكون بما هي كاشفة عن رأي الامام عليه السّلام لتكون اجماعا عمليا، و الاجماع سواء كان قوليا او عمليا لا بد و ان لا يكون محتمل المدرك، لانه مع احتمال المدرك لا يقطع بكشفها عن رأي الامام عليه السّلام، لاحتمال كون سببها هو المدرك المحتمل. و في المقام يحتمل كون مدرك السيرة هو كون التقليد بديهيا جبليا فطريا، و لذا عطف القدح فيها على ما مر من القدح في دعوى الاجماع و في دعوى كونه من ضروريات الدين، فقال (قدس سره): «و كذا القدح في دعوى سيرة المتدينين» فانه يظهر من القدح المذكور في دعوى الاجماع و ضرورة الدين.

(1) و هذا هو دليل آخر على جواز التقليد، و هو رابع الادلة القابلة للمناقشة و حاصله: دعوى دلالة آية النفر و هي قوله تعالى: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ 30] و آية السؤال و هي قوله عز و جل: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 31] و مر الاستدلال بهما على حجية خبر الواحد و المناقشة في دلالتهما على ذلك ايضا.

ص: 318

.....

______________________________

و تقريب الاستدلال بآية النفر على جواز التقليد: هو ان الآية قد دلت على وجوب الحذر عند إنذار المنذرين، و بالملازمة تدل على وجوب القبول عند الانذار، و حيث ان انذار المنذرين لا يكون بمحض النقل لما سمعوه، بل يكون ايضا بما فهموه و ادى اليه رأيهم من ما سمعوه، فالآية تدل على لزوم قبول قول المنذرين و ان كان عن اجتهاد، و لازم ذلك شرعية التقليد و جعله شرعا.

و تقريب الاستدلال بآية السؤال على التقليد: ان الآية قد دلت على شرعية السؤال من اهل الذكر- و هم العلماء- لتحصيل الجواب، و صحة السؤال و تشريعه لتحصيل الجواب لازمه صحة اخذ الجواب و تشريعه، و من الواضح ان اهل الذكر حيث يكون شاملا للعلماء تكون الآية دالة على مشروعية التقليد، لان جواب اهل الذكر لا يلزم ان يكون بنقل الرواية بل يكون ايضا باعمال الرأي و الاجتهاد.

فظهر مما ذكرنا تقريب دلالة الآية على مشروعية التقليد لمشروعية اخذ الجواب من المسئول و ان كان جوابه عن رأي و اجتهاد.

و قد أورد المصنف على دلالة الآيتين على التقليد بايراد مشترك بينهما.

و حاصله: انه لا دلالة للآيتين على مشروعية التقليد، لعدم ظهورهما في حجية قول المنذر و جواب المسئول تعبدا و ان لم يفد قولهما العلم.

اما في آية النفر، فأولا: ان الامر بالنفر كان للطائفة و هي الجماعة، و الجماعة النافرة هي المامورة بالانذار، و انذار الجماعة مما يفيد العلم غالبا، فلا يكون هناك امر شرعي بالحذر عند الانذار، بل الحذر عند انذار الجماعة لانه من لوازم العلم.

و ثانيا: ان انذار المنذرين في الصدر الاول لم يكن برأي المنذر، بل كان بنقل الرواية و ما يسمعه من النبي و الامام، فالآية انما تدل على حجية خبر المنذر لا على حجية رأيه و فتواه.

ص: 319

.....

______________________________

و اما آية السؤال فلان الامر بالسؤال من اهل الذكر لاجل تحصيل العلم من قولهم، لان الأمر بالسؤال حيث يكون مورده او السبب فيه عدم العلم- كما هو صريح الآية- تكون الغاية منه هو العلم.

و الحاصل: ان الآية تدل على ان الامر بالسؤال من اهل العلم حيث لا تعلمون لاجل ان تعلموا، و هذا المعنى ان لم يكن هو ظاهر الآية فلا اقل من كونه محتملا قويا فيها، و على كل فلا يكون لها ظهور في حجية قول المسئول على السائل تعبدا و لا دلالة لها ايضا على صحة اخذ الجواب تعبدا.

و الى هذا الايراد المشترك اشار بقوله: «فلعدم دلالة آية النفر و السؤال على جوازه» اي على جواز التقليد «لقوة احتمال ان يكون الارجاع» فيهما لغير العالم الى العالم «لتحصيل العلم لا الاخذ» بقول المنذر و المسئول «تعبدا» لتكونا دالتين على جواز التقليد.

و لو قلنا ان ظاهر آية السؤال هو العلم بالجواب لا العلم بالواقع فتشمل بدلالتها حجية جواب المسئول اذا كان عن رأي كما تشمل ما كان عن رواية ايضا، فهي تدل على حجية خبر الواحد و على حجية فتوى المفتي ... إلّا انه يرد عليها ما يأتي من ان سياقها سؤال اهل الكتاب او الائمة عليهم السّلام، فتكون اجنبية عن الدلالة على حجية خبر الواحد و عن حجية رأي المفتي.

و قد اورد على آية السؤال بالخصوص بايرادين: الاول: ان ظاهر السياق و النظام في الآية هو كون اهل الذكر هم علماء اهل الكتاب، و عليه فلا ربط للآية بالتقليد، لوضوح عدم جواز تقليد علماء اهل الكتاب، بل المراد من سؤالهم هو حصول العلم من جوابهم. مضافا الى ان مورد السؤال هو نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا يصح التقليد في اصول الدين. و الى هذا الايراد اشار بقوله: «مع ان المسئول في آية السؤال هم اهل الكتاب كما هو ظاهرها» لمناسبة مورد الآية.

ص: 320

نعم لا بأس بدلالة الاخبار عليه بالمطابقة أو الملازمة، حيث دل بعضها على وجوب اتباع قول العلماء، و بعضها على أن للعوام تقليد العلماء، و بعضها على جواز الافتاء مفهوما مثل ما دل على المنع عن الفتوى بغير علم، أو منطوقا مثل ما دل على إظهاره عليه السّلام المحبة لان يرى في أصحابه من يفتي الناس بالحلال و الحرام (1).

______________________________

و الايراد الثاني: ان المراد من اهل الذكر هم الائمة عليهم السّلام كما ورد بذلك روايات التفسير من طرقنا، و عليه فالآية ايضا اجنبية عن الدلالة على جواز التقليد، لان السؤال من الائمة عليهم السّلام الذين هم لا ينطقون عن الهوى يوجب العلم بالجواب، مضافا الى ان الائمة عليهم السّلام ليسوا من اهل الرأي و الاجتهاد، بل هم اهل بيت الرسالة و مهبط الوحي و الالهام. و الى هذا اشار بقوله: «او اهل بيت العصمة الاطهار كما فسر به» أي كما فسر اهل الذكر بان المراد منه هم الائمة عليهم السّلام «في الاخبار» المذكور في كتب التفسير.

(1)

الاخبار الدالة على التقليد

الاخبار الدالة على التقليد التي اشار اليها على نحوين: الاول: ما دل على جواز التقليد بالمطابقة، مثل الخبر المروي في الاحتجاج عن تفسير العسكري عليه السّلام لقوله تعالى: وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ 32] ... الى آخر الآية الواردة في ذم عوام اليهود و النصارى، و هي رواية طويلة و فيها تفصيل في التقليد و ان تقليد غير الاهل مذموم غير صحيح، و تقليد الاهل الجامع للشرائط صحيح جائز و هو قوله عليه السّلام (فاما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لامر مولاه فللعوام ان يقلدوه)(1) و لا يخفى ان هذه الفقرة من الرواية تدل على

ص: 321


1- 33. ( 2) الاحتجاج ص 457.

.....

______________________________

جواز التقليد بالمطابقة. و مثل التوقيع الشريف عن الحجة عجل اللّه فرجه- و جعل ارواحنا فداه- لإسحاق بن يعقوب المروي في الفقيه و كمال الدين و غيرهما، و اما نص التوقيع فهو قوله عجل اللّه فرجه: (و اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم و انا حجة اللّه)(1) و هذا ايضا دال بالمطابقة على التقليد لدلالته على الارجاع الى رواة حديثهم عليهم السّلام و ليس التقليد الا الرجوع الى الغير.

الثاني: ما دل على جواز التقليد بالملازمة و هو ما دل على جواز الافتاء منطوقا، مثل قول الباقر عليه السّلام لأبان بن تغلب: (اجلس في مسجد المدينة و افت الناس فاني احب ان يرى في شيعتي مثلك)(2) و هذا يدل على جواز الافتاء بالمطابقة و على التقليد الذي هو قبول قول المفتي بالالتزام، لاستلزام جواز الافتاء جواز القبول لقول المفتي و إلّا لم يصح جواز الافتاء. و مثله ما دل على جواز الافتاء مفهوما، مثل الاخبار الناهية عن الفتوى بغير علم فانها تدل بالمفهوم على جواز الافتاء عن علم، و ما دل على جواز الافتاء يدل بالملازمة على جواز قبول المفتي كما عرفت.

و قد اشار لما يدل بالمطابقة على جواز التقليد تارة لدلالته على وجوب اتباع قول العلماء مثل التوقيع الدال على الامر بالرجوع في الحوادث الواقعة الى رواتهم عليهم السّلام بقوله: «حيث دل بعضها على وجوب اتباع قول العلماء» و اخرى بدلالته على صحة تقليد العوام للعلماء و هو الخبر المروي عن تفسير العسكري عليه السّلام بقوله:

«و بعضها على ان للعوام تقليد العلماء». و اشار الى ما دل على جواز التقليد بالملازمة و هو ما دل على جواز الافتاء مفهوما مثل الادلة الناهية عن الفتوى بغير علم بقوله: «و بعضها على جواز الافتاء مفهوما مثل ما دل على المنع عن الفتوى

ص: 322


1- 34. ( 1) كمال الدين، ص 484 تحقيق علي اكبر الغفاري.
2- 35. ( 2) راجع ترجمة أبان من كتاب رجال النجاشي.

لا يقال: إن مجرد إظهار الفتوى للغير لا يدل على جواز أخذه و اتباعه (1).

فإنه يقال: إن الملازمة العرفية بين جواز الافتاء و جواز اتباعه واضحة، و هذا غير وجوب إظهار الحق و الواقع، حيث لا ملازمة بينه و بين وجوب أخذه تعبدا، فافهم و تأمل (2).

______________________________

بغير علم» و ما دل على جواز الافتاء منطوقا مثل امر الباقر عليه السّلام لأبان بالافتاء بقوله: «او منطوقا مثل ما دل على اظهاره عليه السّلام المحبة لان يرى في اصحابه من يفتي بالحلال و الحرام».

(1) حاصله: المنع من دلالة مثل قول الباقر عليه السّلام- لأبان باني احب ان يرى في شيعتي مثلك على اكثر من انه يحب ان يكون في شيعته من يفتي. و لعل الوجه في حبه عليه السّلام لذلك هو اظهار الحق للناس، لان مثل ابان من شيعته لا يقول إلّا الحق، و حيث ان يكون هذا الوجه محتملا فلا يكون للخبر دلالة على جواز التقليد الذي هو حكم جعلي شرعي، لان وجوب اظهار الحق لا يستلزم ان هناك من يطلب الحق حتى يثبت وجوب القبول بالملازمة. و الى هذا اشار بقوله: «لا يقال ان مجرد اظهار الفتوى للغير لا يدل على جواز اخذه و اتباعه» أي على جواز اخذ قول الغير الذي هو التقليد للاحتمال الذي ذكرناه من ان المحبة لاظهار الفتوى لاجل اظهار الحق للناس، لا لاجل قبول قول المفتي بما هو امر مجعول شرعي.

(2) و حاصله: ان الامر بالافتاء انما هو لمن يستفتي، و توضيحه: ان عنوان الافتاء من المفتي بذكر الفتوى يستلزم- عرفا و عادة- ان هناك من يستفتي، فعنوان الافتاء يستدعي عنوان الاستفتاء فهو كعناوين المطاوعة من المتلازمات، و حيث يكون عنوان الافتاء مستلزما- عرفا و عادة- للاستفتاء فلا محالة يدل على جواز التقليد لاجل هذه الملازمة العرفية، لان المحبة لاظهار الفتوى للغير تستلزم صحة قبول المستفتي لتلك

ص: 323

و هذه الاخبار على اختلاف مضامينها و تعدد أسانيدها، لا يبعد دعوى القطع بصدور بعضها، فيكون دليلا قاطعا على جواز التقليد، و إن لم يكن كل واحد منها بحجة (1)، فيكون مخصصا لما دل على عدم

______________________________

الفتوى، و هذا بخلاف عنوان المحبة لاظهار مطلق الحق فانه لا يستلزم ان هناك من يسأل عن الحق.

فظهر مما ذكرنا: ان عنوان الافتاء هو اخص من عنوان اظهار الحق، فان الفتوى و ان كانت من جملة الحق إلّا ان الافتاء حيث كان مستلزما للاستفتاء فلذلك يدل بالملازمة العرفية على جواز قبول الفتوى الذي هو معنى التقليد. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «ان الملازمة العرفية بين جواز الافتاء و جواز اتباعه واضحة». و اشار الى أن وجوب اظهار الحق لا يستلزم ان هناك من يطلب الحق- بل يجب اظهار الحق و ان لم يكن هناك من يسأل عن الحق، فلا يدل وجوب اظهار الحق على لزوم قبوله تعبدا، بل يمكن ان يقال انه يكفي في الدلالة عنوان حب الافتاء لانه: أولا يمكن ان يكون هناك من يستفتي و امكان ذلك كاف للدلالة على الملازمة المدعاة في المقام.

و ثانيا: ان حب قول الحق يلازمه حب قبول الحق و لا سيما من المعصوم، و من البين ان قول المجتهد الجامع للشرائط هو قول الحق. و مما ذكرنا ظهر: ان الخبر اذا لم يدل الا على قول الحق فهو يدل على جواز التقليد فتامل- بقوله: «و هذا غير وجوب اظهار الحق و الواقع ... الى آخر الجملة».

(1) حاصله: ان الاخبار التي تقدمت الاشارة اليها- الدالة على جواز التقليد بالمطابقة او بالملازمة- و ان لم يكن كل نوع منها مقطوع الصدور، إلّا انها متواترة اجمالا بمعنى القطع بصدور بعضها على نحو الاجمال و ان كان بعضها ضعيفا غير واجد لشرائط الحجية، و حيث ان ظهورها في جواز التقليد مما لا ريب فيه، فيكون ذلك دليلا قاطعا على التقليد للقطع بالصدور و القطع بحجية الظهور، و ليس مراده من قوله دليلا قاطعا كونها مقطوعة السند مقطوعة الدلالة.

ص: 324

جواز اتباع غير العلم و الذم على التقليد، من الآيات و الروايات. قال اللّه تبارك و تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ و قوله تعالى: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ مع احتمال أن الذم إنما كان على تقليدهم للجاهل، أو في الاصول الاعتقادية التي لا بد فيها من اليقين (1)، و أما قياس المسائل الفرعية على الاصول الاعتقادية، في أنه كما لا يجوز التقليد فيها مع الغموض فيها كذلك لا يجوز فيها بالطريق

______________________________

فظهر مما ذكرنا: ان المتحصل من الاخبار هو جواز التقليد و انه لا اشكال في ذلك. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و هذه الاخبار على اختلاف مضامينها» من حيث دلالة بعضها على الارجاع بالمطابقة و دلالة بعضها على التقليد بالمطابقة و دلالة بعضها مفهوما على الملازمة و دلالة بعضها على الملازمة منطوقا «و تعدد اسانيدها» مما يوجب انه «لا يبعد دعوى القطع بصدور بعضها» الذي هو معنى التواتر الاجمالي «ف» لازمه انه «يكون» ذلك «دليلا قاطعا على جواز التقليد» لمسلمية حجية الظهور و تواترها اجمالا «و ان لم يكن كل واحد منها بحجة» لوجود الضعيف فيها.

(1) حاصله: انه بعد ان كانت الاخبار المذكورة بعضها مقطوع الصدور و دلالتها ظاهرة قطعا يحصل الدليل التام الحجية على جواز التقليد، و به يخصص ما يدعى دلالته من العمومات على حرمة التقليد ... و قد اشار الى عامين قد ادعيت دلالتهما على ذلك:

الاول: الآيات الدالة على حرمة اتباع غير العلم كقوله تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ 36] و من الواضح ان المقلد لغيره لا علم له بالحكم الذي قلد فيه فهو من اتباع غير العلم، و مثله قوله عز و جل: إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً(1)

ص: 325


1- 37. ( 2) يونس: الآية 36.

.....

______________________________

فان المقلد لما كان لا علم له فاما ان يكون ظانا بالحكم الذي قلد فيه او يكون شاكا فيه، و اذا كان الظن لا يغني عن الحق شيئا فالشك بطريق اولى.

الثاني: الآيات الدالة على حرمة التقليد و هي قوله تعالى: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ 38] فان المستفاد من الآية الكريمة ذم المقتدين بآبائهم، و ليس التقليد الا الاقتداء بالغير.

و الجواب عن العموم الاول انه مخصص بما دل على جواز التقليد للعامي في الاحكام الفرعية، فان الاقتفاء لغير العلم يشمل الاقتفاء في اصول الدين و في الاحكام الاصولية و في الاحكام الفرعية، و قد خرج عنه التقليد في الاحكام الفرعية بما دل على جواز التقليد فيها.

و الجواب عن الثاني و هو ذم المقلدين لابائهم فانه لما كان عاما لجميع انحاء التقليد في اصول الدين و في الاحكام الاصولية و في الاحكام الفرعية فهو مخصص بما دل على جواز التقليد في الاحكام الفرعية، هذا اولا.

و ثانيا انه لا ظهور له في العموم بحيث يشمل التقليد في الفروع، لان المشاهد من تقليد الابناء للآباء تقليدهم لهم بما هم آباء لا بما هم علماء، فلا ظهور له في الاطلاق بحيث يشمل تقليد الآباء العلماء مع ان مورد النهي هو الذم على تقليد الآباء في اصول الدين و لا اشكال في عدم جواز التقليد فيها، فلا ظهور للآية في العموم للتقليد في الفروع حتى نحتاج الى التخصيص بما دل على جواز التقليد فيها.(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 9 ؛ ص326

قد اشار الى الجواب المشترك و هو التخصيص بما دل على جواز التقليد في الفروع بقوله: «فيكون» أي فيكون ما دل على جواز التقليد في الفروع «مخصصا لما دل» على العموم مثل الآية الدالة «على عدم جواز اتباع غير العلم و» الآية التي كانت دلالتها «الذم على التقليد من الآيات و الروايات» و قد ذكر الآيتين

ص: 326


1- 39. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

الاولى لسهولتها، فباطل، مع أنه مع الفارق، ضرورة أن الاصول الاعتقادية مسائل معدودة، بخلافها فإنه مما لا تعد و لا تحصى، و لا يكاد يتيسر من الاجتهاد فيها فعلا طول العمر إلا للاوحدي في كلياتها، كما لا يخفى (1).

______________________________

بقوله: «قال اللّه تبارك و تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ و قوله تعالى:

إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ . و اشار الى الجواب الخاص بالآية الثانية بقوله: «مع احتمال ان الذم انما كان على تقليدهم للجاهل» لما اشرنا من ان تقليد الابناء للآباء لانهم آباء لا لأنهم علماء «او» لان تقليدهم كان «في الاصول الاعتقادية التي لا بد فيها من اليقين» و لا مجال للتقليد فيها.

(1) هذا هو الدليل الثالث على عدم جواز التقليد في الفروع بطريق الاولوية.

و حاصله: انه بعد مسلمية عدم جواز التقليد في الاصول الاعتقادية، مع انها غامضة تحتاج الى مزيد النظر في البراهين الدقيقة المقامة عليها، و هذا مما يعجز عنه غير العامي ممن له إلمام ببعض العلم، فكيف بالعامي المحض الذي لا يكاد يعقل شيئا و لا يستطيع تعقل شي ء من العلم، و مع هذا كله لا يجوز التقليد فيها- فعدم جواز التقليد في المسائل الفرعية يكون بطريق اولى، لان المسائل الفرعية اسهل تناولا و اقل غموضا.

و قد اشار الى وجه الاولوية بقوله: «مع الغموض فيها» أي في الاصول الاعتقادية «كذلك لا يجوز فيها» أي كذلك لا يجوز التقليد في المسائل الفرعية «بالطريق الاولى لسهولتها» بالنسبة الى الاصول الاعتقادية، و اذا لم يجز التقليد في الامور الغامضة كان عدم جواز التقليد في الامور السهلة بطريق اولى.

و قد اجاب عن هذا الدليل بجوابين:

الاول: ان هذه الاولوية ظنية لا قطعية، لعدم القطع بان النهي عن التقليد في اصول الدين يستلزم بنحو اولى النهي عن التقليد في فروع الدين، و حيث لا تكون

ص: 327

.....

______________________________

الاولوية قطعية فهي قياس ظني و القياس باطل. و الى هذا اشار بقوله: «فباطل» فانه خبر لقوله و اما قياس المسائل الفرعية، و التقدير: و اما قياس المسائل الفرعية على الاصول الاعتقادية فباطل.

الثاني: ان القياس غير صحيح لانه قياس مع الفارق، لان الاصول الاعتقادية مسائل قليلة معدودة، فهي و ان كانت غامضة إلّا انها لقلتها يستطيع كل احد الاحاطة بها، بخلاف المسائل الفرعية فانها و ان كانت اسهل إلّا انها كثيرة جدا، و كثرتها هي السبب في عجز العامي عنها، بل الاحاطة بالمسائل الفرعية احاطة فعلية بجزئياتها لكثرتها يعجز عنه كل مجتهد فضلا عن المقلد، و انما يقدر بعض المجتهدين الاوحديين المتضلعين على الاحاطة الفعلية بكليات تلك المسائل الفرعية، و اما ساير المجتهدين فليس لهم الا الملكة و القوة على الاحاطة بكلياتها و ليس لهم بها احاطة فعلية. و مع هذا الفرق بين المسائل الاعتقادية و المسائل الفرعية لا وجه للقياس، لانه من القياس مع الفارق.

و يمكن ان يقال ثالثا: ان ادلة الاصول الاعتقادية مختلفة بعضها واضحة بل وجدانية، كدولاب العجوز فانها بمجرد ان رفعت يدها عن تحريكه وقف عن الحركة، و هذا دليل على امتناع تحقق المعلول من دون علة و هو سهل وجداني، و كذلك دليل النبوة فان اتيان مدعي النبوة بالمعجزة التي لا يقدر عليها غيره دليل على نبوته و صدق دعواه، و كذلك الامامة فان من خلف نفرين من صغار اهله يحتاجون الى رعاية لا يتركهم بغير وصي، فكيف يترك النبي هذه الامة التي فيها من هو اقل عقلا من عقول بعض الاطفال من غير وصي و امام يرشدهم الى الحق؟ و الى هذا اشار بقوله: «مع انه مع الفارق ضرورة ان الاصول الاعتقادية مسائل معدودة بخلافها» أي بخلاف المسائل الفرعية «فانها لا تعد و لا تحصى» لكثرتها «و لا يكاد يتيسر من الاجتهاد فيها» بحيث يكون اجتهاد «فعلا في طول العمر» لاحد من المجتهدين «الا للاوحدي» من المجتهدين و ذلك «في كلياتها» لا في جزئياتها «كما لا يخفى» على من له إلمام بالفقه و كثرة الفروع كثرة تفوق الاحصاء.

ص: 328

فصل إذا علم المقلّد اختلاف الاحياء في الفتوى مع اختلافهم في العلم و الفقاهة، فلا بد من الرجوع إلى الافضل إذا احتمل تعيّنه، للقطع بحجيته و الشك في حجية غيره، و لا وجه لرجوعه إلى الغير في تقليده، إلّا على نحو دائر. نعم لا بأس برجوعه إليه إذا استقل عقله بالتساوي، و جواز الرجوع إليه أيضا (1)، أو جوز له الافضل بعد رجوعه

______________________________

(1)

الفصل السابع تقليد الاعلم

اشارة

لا يخفى ان الصور في المقام كثيرة و لكن المهم منها هذه الصورة لرجوع حكم بعض الصور اليها، و هو كما اذا علم اجمالا بالاختلاف في الفتوى و باختلافهم في العلم ايضا، فان حكم هذه الصورة حكم الصورة المذكورة من العلم التفصيلي بالاختلاف في الفتوى و العلم التفصيلي بمن هو الاعلم، فانه بناء على وجوب الرجوع الى الاعلم تزيد صورة العلم الاجمالي على هذه الصورة في وجوب الفحص عن الاعلم. و مثل صورة العلم الاجمالي بالامرين صورة العلم الاجمالي بالاختلاف في الفتوى و احتمل وجود الاعلم بينهم، فانه ايضا يجب الفحص عن الاعلم، فان كان موجودا وجب الرجوع اليه، و الّا فيتخيّر بينهما. و تفرق هذه الصورة عن صورة العلم الاجمالي بالاعلم: ان الفحص في هذه عن اصل وجود الاعلم، و في العلم الاجمالي عن من هو الاعلم.

و على كل فالمهمّ التعرّض للصورة المذكورة التي ذكرها المصنف، و هي العلم التفصيلي باختلاف المجتهدين في الفتوى، و العلم التفصيلي بمن هو الاعلم منهم ...

و الكلام فيها في مقامين:

المقام الاول: في حكم العامي العاجز عن الاجتهاد و ما يقتضيه الدليل من تعيّن الرجوع الى الاعلم و عدم تعيّن الرجوع اليه.

و المقام الثاني: فيما يقتضيه الاجتهاد و الدليل في تعيّن الرجوع الى الاعلم و عدمه.

ص: 329

.....

______________________________

اما المقام الاول: فحيث عرفت ان التقليد البدوي لا يعقل ان يكون بالتقليد للزوم الدور أو التسلسل، و حيث ان المفروض ايضا عجز العامي عن معرفة ما يقتضيه الدليل، فلا بد و ان يكون مرجعه في لزوم رجوعه الى الاعلم و عدمه الى ما يحكم به عقله.

و على هذا فنقول: اما ان يحتمل العامي تعيّن رجوعه الى الاعلم، أو لا يحتمل ذلك بان يحكم عقله بالتساوي بين الرجوع الى الاعلم و بين الرجوع الى غير الاعلم.

فاذا احتمل تعيّن الرجوع الى الاعلم فلا محالة يحكم العقل بلزوم الرجوع اليه، لان رجوع العامي الى المجتهد انما هو للخروج عن تبعة العقاب على مخالفة الاحكام المعلومة عنده اجمالا: أي ليكون معذورا لو خالفها في رجوعه الى ما هو حجة معذّرة. و حيث ان الحجة المنجّزة و المعذّرة لا بد من وصولها، لبداهة عدم التنجيز و عدم التعذير للحجة غير الواصلة، و لما كان العامي يقطع بان الرجوع الى الاعلم حجة معذرة قطعا، بخلاف الرجوع الى غير الاعلم لفرض احتمال تعيّن الرجوع الى الاعلم، و فرض هذا الاحتمال لازمه احتمال عدم معذرية الرجوع الى غير الاعلم، و المتحصّل من ذلك: هو وصول معذرية الرجوع الى الاعلم و عدم وصول معذرية الرجوع لغير الاعلم- فلا محالة يتعيّن بحكم العقل عند العامي رجوعه الى الاعلم.

و مثل هذا من موارد دوران الامر بين التعيين و التخيير الذي يحكم العقل فيه بتعيين الطرف الذي يحتمل ان يكون هو المعيّن للقطع بوصوله، لانه اما ان يكون هو المعيّن بخصوصه، او يكون هو احد طرفي التخيير، فلذا كان وصوله متيقنا، بخلاف الطرف الثاني فانه لا يقين بوصوله، لاحتمال التعيين لطرفه. و الضابط في دوران الامر بين التعيين و التخيير الذي يحكم العقل فيه بالتعيين: هو كون احد الطرفين متيقن المدرك، بخلاف الطرف الآخر فانه لا يكون المدرك فيه متيقنا بل محتملا.

اما اذا لم يحتمل العامي تعيين الاعلم: بان يحكم عقله بتساويهما من حيث الرجوع اليهما، و لا يكون الاعلم بحسب عقله محتمل التعيين، و على هذا فلا بد من

ص: 330

.....

______________________________

حكم العقل بالتخيير بينهما، لانه بعد العلم باختلافهما و عدم معقولية الرجوع اليهما معا لاستلزامه كون الشي ء الواحد ربما يكون واجبا و محرما، بل لا بد من الرجوع الى احدهما، و حيث فرض حكم عقله بتساويهما، فلا محالة لازم ذلك حكم العقل ايضا بالتخيير بينهما. الّا ان فرض عدم احتمال العامي تعيين الاعلم محض الفرض، لان كون الاعلم أوصل الى الحكم ان لم يكن واضحا فلا اقل من احتماله. و فرض كون ادلّة التقليد تحكم بالتساوي فرض الخلف، لفرض كون العامي غير عارف بذلك، و انه عاجز عن معرفة ذلك.

و قد اشار الى ان فرض الكلام في صورة العلم باختلاف المجتهدين في الفتوى، و العلم باختلافهما- ايضا- من حيث العلم، بان علم ان احدهما اعلم بقوله: «اذا علم المقلّد» المراد من المقلد من كان حكمه التقليد و الرجوع الى الغير، لا المقلد بما هو مقلد لفرض كون ذلك قبل تقليده بالفعل. فالحاصل: انه اذا علم من كان حكمه التقليد «اختلاف» المجتهدين «الاحياء في الفتوى مع» علمه ايضا ب «اختلافهم في العلم و الفقاهة».

و اشار الى الصورة الاولى- و هي ما اذا احتمل المقلّد تعين رجوعه الى الاعلم انه في هذه الصورة لا بد من حكم العقل برجوعه الى الاعلم، للقطع بكون الرجوع اليه حجة معذرة، دون الرجوع الى غير الاعلم- بقوله: «فلا بد من الرجوع الى الافضل اذا احتمل تعيّنه» و الى الوجه في ذلك بقوله: «للقطع بحجيته» أي للقطع بحجية الاعلم و معذرية الرجوع اليه «و الشك في حجية غيره» و هو غير الاعلم كما عرفت من الشك في معذريته. و اشار الى ان التقليد حيث انه بدوي فلا يعقل التقليد في نفس التقليد- كما مرّ بيانه في المسألة المتقدمة- لاستلزامه الدور او التسلسل بقوله:

«و لا وجه لرجوعه الى الغير في» نفس «تقليده الّا على نحو دائر» او متسلسل.

و اشار الى الصورة الثانية- و هي ما اذا حكم عقل المقلّد بالتساوي بين الاعلم و غير الاعلم، و لم يحتمل تعيّن الاعلم، و انه لا مانع من الرجوع الى غير الاعلم-

ص: 331

إليه (1)، هذا حال العاجز عن الاجتهاد في تعيين ما هو قضية

______________________________

بقوله: «نعم لا بأس برجوعه» أي لا باس برجوع المقلد «اليه» أي الى غير الافضل «اذا استقل عقله» أي اذا استقل عقل المقلد «بالتساوي» بينهما «و جواز الرجوع اليه ايضا» لان لازم حكم عقل المقلد بالتساوي بينهما هو جواز الرجوع الى غير الافضل كما يجوز الرجوع الى الافضل.

(1) يظهر من المصنف مسلمية جواز الرجوع الى غير الافضل بواسطة تقليد الافضل:

بان يقلد الافضل و يجوز له الافضل الرجوع الى غير الافضل، فيكون تقليده لغير الافضل بواسطة تقليده للأفضل.

و الظاهر انه لم ينقل الخلاف فيه، الا ما ذكره الشيخ الاعظم- في رسالته في تقليد الاعلم- حاكيا له عن بعض معاصريه: انه لا يجوز الرجوع الى الاعلم في جواز تقليد غير الاعلم. و لم يذكر مستنده في ذلك.

و لعل مستنده في المنع ان تقليد الاعلم انما هو لاجل انه أوصل من غير الاعلم، فاذا اختلف الاعلم و غير الاعلم في الفتوى، لانه اذا توافقا في الفتوى فالاخذ بفتوى غير الاعلم اخذ ايضا بفتوى الاعلم أيضا، و لكنه اذا اختلفا بقى احتمال عدم الوصول الى الواقع بحاله، فالرجوع الى الاعلم في جواز تقليد غير الاعلم يلزم منه الخلف، و هو احتمال عدم الوصول الذي انما ينتفي احتماله في الاحكام الفرعية بتقليد الاعلم دون غير الاعلم.

و الجواب عنه- كما سيأتي ايضا بيانه- ان الوجه في لزوم تقليد الاعلم ابتداء للعامي هو الدوران بين التعيين و التخيير. و اما الاوصلية فهي انما تصح مدركا للمجتهد الذي يرى عدم جواز تقليد غير الاعلم مطلقا و ان رجع فيه الى غير الاعلم.

و لا يخفى ان الشيخ في مقام رده بترديد احتمال المنع قد ذكر نحو ما اشرنا اليه من المنع.

ص: 332

.....

______________________________

و انما اورد عليه- في ضمن الوجهين يظهر المستند- بما حاصله: ان وجه المنع عند المعاصر ان كان في جواز فتوى الاعلم في تقليد غير الاعلم فليس بصحيح، لانه بعد فرض كون الاعلم قد ادّى اجتهاده الى جواز تقليد غير الاعلم فلا وجه لمنعه، لان مرجع منع المانع له انه هو يرى عدم جوازه، و رأيه حجة عليه لا على الاعلم.

و ان كان وجه المنع انه لا يصح تقليد الاعلم في جواز تقليد غير الاعلم. و بعبارة اخرى: انه لا يصلح عمل المقلّد بفتوى الاعلم في جواز تقليد غير الاعلم فهذا الوجه ايضا باطل، لقيام ادلّة التقليد على الرجوع الى الاعلم. و لا اشكال في كون تقليد غير الاعلم من الاحكام الشرعية التي يصح التقليد فيها بعد تقليد الاعلم، و انما لا يصح التقليد فيها ابتداء.

و بعبارة أوضح: انه اذا فرض ان الاخبار الجاعلة للتقليد تدل على التساوي بينهما فجواز الرجوع الى غير الاعلم حكم مجعول من الشارع، و انما هو لانه لا سبيل له اليه ابتداء لا لقصور في الجعل، بل لانه عاجز عن الوصول اليه ... هذا ملخّص ما افاده الشيخ الاعظم في مقام الجواب.

و لكن يمكن ان يختار الشق الثاني و يقال ان تقليد غير الاعلم كما لا يصح ابتداء لا يصح ايضا بواسطة تقليد الاعلم. و الوجه في ذلك: ان المفروض ان تقليد الاعلم بالخصوص كان بحكم العقل على وجه التعيين، فاذا جاز تقليد غير الاعلم بواسطة فتوى الاعلم لزم الخلف، لاستلزامه في النهاية عدم كون تقليد الاعلم امرا معيّنا بالخصوص، الّا انه باطل ايضا، لان العقل انما حكم بتعيين الاعلم لا من حيث ادراكه انحصار التقليد به، و ان عقل العامي قد استقل بلزوم خصوصية الاعلمية، بل انما حكم العقل بتعيينه لكونه قدرا متيقنا و لم تصل اليه الحجة على تقليد غير الاعلم. فتعيين الرجوع الى الاعلم بحكم العقل هو من باب الاحتياط لعدم وصول الحجة الى العامي في جواز تقليد غير الاعلم. فاذا قلّد العامي ابتداء الاعلم و كان

ص: 333

الادلة في هذه المسألة (1). و أما غيره، فقد اختلفوا في جواز تقليد المفضول و عدم جوازه، ذهب بعضهم إلى الجواز، و المعروف بين الاصحاب على ما قيل عدمه و هو الاقوى (2) للاصل، و عدم دليل على

______________________________

رأي الاعلم على جواز تقليد غير الاعلم فقد وصلت الحجة للعامي على تقليد غير الاعلم.

و على كل فظهر انه لا ينبغي الاشكال في جواز الرجوع الى غير الاعلم بواسطة تقليد الاعلم، و اليه اشار بقوله: «او جوّز له الافضل» الرجوع الى غير الافضل «بعد رجوعه اليه» أي بعد رجوع العامي الى الافضل ابتداء و بواسطته يجوز الرجوع الى غير الافضل كما عرفت.

(1) يشير الى ما ذكرنا من ان الكلام في مقامين: الاول: ما عرفت الكلام فيه، و هو ما تقتضيه القاعدة بالنسبة الى العامي، فيما اذا علم باختلاف الفتاوى و باختلافهم في الافضلية، و قد عرفت ان حكمه في تقليد الاعلم اذا احتمل تعيينه هو لزوم تقليد الاعلم لانه قدر متيقن في المعذرية، بخلاف ما اذا حكم عقله بتساويهما او كان تقليد غير الاعلم بواسطة تقليد الاعلم ابتداء فانه لا مانع منه.

(2) هذا هو الكلام في المقام الثاني و هو ما يقتضيه الدليل الذي يكون للمجتهدين بالنسبة الى تقليد غير الاعلم. فالمراد من غيره هو المجتهد.

و قد اختلف العلماء فيه، فذهب بعضهم الى جوازه. و نسب الى المشهور عدم جوازه و هو المختار للمصنف، و لذا قال (قدس سره): «اختلفوا في جواز تقليد المفضول» في مقام التقليد «و عدم جوازه ذهب بعضهم الى الجواز و المعروف بين الاصحاب على ما قيل عدمه و هو الاقوى».

و يظهر من قول المصنف على ما قيل ان كون عدم الجواز هو المعروف بين الاصحاب لا يخلو عن اشكال، و لعلّه لكثرة من نقل عنهم الجواز، أو لان المنسوب

ص: 334

خلافه (1)، و لا إطلاق في أدلة التقليد بعد الغض عن نهوضها على

______________________________

الى المشهور هو الموضوعية، و الاقوى على الموضوعية هو التخيير بين الاعلم و غيره.

و اللّه العالم.

(1) توضيحه: ان الكلام في الاصل تارة على الطريقية، و اخرى على الموضوعية.

اما على الطريقية فحيث لا يعقل حجية كلا الرأيين على وجه التعيينية لان الحكم الواقعي واحد، و لا يعقل حجية طريقين فعليين متنافيين على وجه التعيين بالنسبة الى الحكم الواحد، نعم يمكن حجية الطريقين المتنافيين على وجه التخيير بالنسبة اليه، فرأي الاعلم اما ان يكون حجة معينا و اما ان يكون حجة بنحو التخيير. و لا يحتمل في رأي غير الاعلم ان يكون حجة معينا و انما المحتمل ان يكون حجة بنحو التخيير بينه و بين الاعلم. و على هذا فمعذرية رأي الاعلم واصلة قطعا، بخلاف معذرية رأي غير الاعلم فليست واصلة، لفرض احتمال اختصاص التعيين برأي الاعلم، فلا محالة من حكم العقل بلزوم تقليد الاعلم.

و مما ذكرنا ظهر: ان الاصل عند المجتهد هو الاصل الذي مر عند المقلد بالنسبة الى لزوم تقليد الاعلم، و هو من موارد الدوران بين التعيين و التخيير الذي يحكم العقل فيه بتعيين محتمل التعيينية. نعم اذا كان هناك عام او اطلاق يمكن الرجوع اليه، و في هذا الفرض يقال انه يمكن ان ينفي التعيينية بالبراءة، اما اذا لم يكن هناك عام و لا اطلاق فالدوران بين التعيين و التخيير مورد الاحتياط. و لا اشكال في عدم ورود الدليل اللفظي الخاص في مورد التقليد على خلاف هذا الاصل، بل غاية ما يدعى الاطلاق او الاجماع او لزوم العسر و الحرج في لزوم تقليد الاعلم، و سيأتي الكلام في هذه الثلاثة. هذا كله في الاصل بناء على الطريقية كما هو مختار المصنف.

و اما بناء على الموضوعية، و معناها جعل الحكم النفسي على طبق رأي المجتهد، فقد يدعى انه ايضا من موارد الدوران بين التعيين و التخيير و انه مما يحكم العقل فيه كسابقه بلزوم تقليد الاعلم، بتقريب انه على الموضوعية و ان كان مقتضاها جعل

ص: 335

مشروعية أصله (1)، لوضوح أنها إنما تكون بصدد بيان أصل جواز الاخذ بقول العالم لا في كل حال، من غير تعرض أصلا لصورة معارضته

______________________________

الحكم النفسي على طبق رأي كل مجتهد من المجتهدين الّا انه ايضا من المعلوم عدم جعل الحكمين الفعليين المتنافيين في حقّ المقلّد، فالحكم الفعلي لا بد و ان يكون احدهما، و الحكم على طبق رأي الاعلم هو المتيقن الفعلية دون الطرف الآخر، فيكون المورد من موارد الدوران بين التعيين و التخيير ايضا، و مما يحكم العقل فيه بلزوم تقديم المتيقن و هو رأي الاعلم.

الّا انه لا يخلو عن الاشكال لان مورد الدوران بين التعيين و التخيير الذي يحكم العقل فيه بتعيين محتمل التعينية هو ما اذا كان المدرك في احدهما محرزا دون الآخر، كما مرّ في الطريقية: من كون معذرية رأي الاعلم مقطوعة دون رأي غير الاعلم.

اما اذا كان المدرك في كل واحد منهما محرزا كما هو بناء على الموضوعية لفرض كون كل واحد منهما مجتهدا، و كونه مجتهدا هو تمام الموضوع لجعل الحكم على طبق رأيه، و انما لا يمكن الاخذ بهما معا لعدم امكان الجمع بينهما، و مرجع هذا الى التزاحم بينهما، و احتمال الاقوائية لاحد المتزاحمين واقعا لا تنفع لان الاقوائية الواقعية ما لم تكن واصلة بحجة عليها لا توجب احراز التأثير لمحتمل الاقوائية بالخصوص- فلا يكون المورد من موارد حكم العقل بالتعيين، فلا يتعيّن تقليد الاعلم بالأصل كما مرّ تعيينه بناء على الطريقية. و اللّه العالم.

(1)

مناقشة المصنف (قده) في ادلة التقليد بحيث تشمل مورد الاختلاف في الفتوى

لا يخفى انه ناقش المصنف في ادلّة التقليد بحيث تشمل مورد الاختلاف في الفتوى بمناقشتين: الاولى: منع وجود الاطلاق فيها بقوله: «و لا اطلاق في ادلّة التقليد» و أشار الى الوجه في منع الاطلاق بقوله: «لوضوح ... الى آخره».

الثانية: منع دلالة الادلة اللفظية على اصل مشروعية التقليد من رأس.

و هذا خلاف ما تقدّم منه من وجود الادلة اللفظية على اصل التقليد، و انه يقطع بصدور بعضها. و ربما قد اشار هناك الى المناقشة في اصل الدلالة بقوله: «فتأمل».

ص: 336

بقول الفاضل، كما هو شأن سائر الطرق و الامارات على ما لا يخفى (1).

______________________________

و لعل الوجه في منع اصل دلالتها على التقليد هو ان التقليد بالمعنى المصطلح هو العمل برأي المجتهد بما هو اعمال منه في استخراج الفتوى لا بنقله للرواية، و مورد روايات التقليد هي نقل الرواية حتى في فصل الحكومة بان يفصلها بما ينقله من الرواية عنهم عليهم السّلام، و اقوى ما يدعى في ظهوره في التقليد بالمعنى المصطلح هي الرواية عن تفسير العسكري حيث ان فيها (فللعوام ان يقلّدوه) و التأمل في الحديث بطوله يظهر منه ان مورده ايضا نقل الرواية، و ان المراد من قوله عليه السّلام ان يقلّدوه هو ان يرجعوا اليه في مقام النقل و ياخذوا بنقله. و اما روايات الافتاء فلأن المتعارف من الافتاء في الصدر الاول هو نقل الروايات، لا ذكر رأيه بما هو مستند في فتواه الى الرواية. بل التأمّل في روايات التقليد يقتضي حجية الرأي، و لا أقل من ان قوله لأبان افت الناس، فان الظاهر من قوله أفت هو بيان الرأي لا نقل الفتوى، مضافا الى انه لا خصوصية لأبان تميّزه عن غيره الّا بيان رأيه لا بيان نقله، لان النقل يتأتى من كل عدل. فقول الامام عليه السّلام: احب ان يرى مثلك، انما هو لقوة رأيه لا لنقله.

و اللّه العالم.

(1) حاصله: ان المنع عن اطلاق روايات التقليد في شمولها لمورد اختلاف المفتين و تعارض فتاويهم لان الروايات واردة في بيان اصل مشروعية التقليد و الرجوع الى فتوى المجتهد، كالروايات الواردة في اصل حجية خبر الواحد فانها لا اطلاق لها في شمولها لتعارض الخبرين، فان ظاهر قوله عليه السّلام- مثلا: و اما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلّدوه- انه في مقام بيان من يشرع تقليده، لا في مقام بيان تقليده مطلقا و ان كان مخالفا في فتواه لغيره، و لا اقل من الشك في كونه في مقام البيان مطلقا حتى لتعارض آراء المفتين.

لا يقال: ان الشك في كونه في مقام البيان لا يمنع عن التمسك بالاطلاق لاحراز كونه في مقام البيان ببناء العقلاء على كون المتكلم في مقام البيان، كما تقدّم بيان ذلك

ص: 337

.....

______________________________

في مبحث الاطلاق، و ان احراز كون المتكلم في مقام البيان: تارة يكون بالقطع، و اخرى يكون ببناء العقلاء.

فانه يقال: ان الشك في كون المتكلم في مقام البيان: تارة يكون لا منشأ له الا محض احتمال كونه في غير مقام البيان، و هذا هو مقام احراز كونه في مقام البيان ببناء العقلاء. و اخرى يكون المنشأ لاحتمال كونه في غير مقام البيان هو مناسبة الحكم و الموضوع، كما في مثل قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ فان مناسبة الحكم و الموضوع تقتضي انه في مقام بيان حلية ما يمسكه الكلب، لا في مقام البيان من ناحية طهارة موضع عضة الكلب. أو يكون مناسبة السؤال و الجواب هو المنشأ للشك، كما لو سأل السائل عن ذبح الغاصب للذبيحة هل تحصل به التذكية ام لا؟ فأجاب الامام عليه السّلام بحصول التذكية مع الغصب و ان حرم اكل اللحم من ناحية الغصب، فان مقام البيان من جهة الحلية لاجل كون الذابح غاصبا- كما يقتضيه السؤال- لا يوجب كون المتكلم في مقام البيان من ناحية كون الذابح مسلما او كافرا. و لا بناء من العقلاء على احراز كون المتكلم في مقام البيان مطلقا، في امثال ما ذكرنا من الموردين، كما يظهر ذلك في كثير من موارد الفقه من التمسك بالاطلاق من جهة و عدم التمسك بالاطلاق من جهة اخرى.

و مما ذكرنا ظهر: ان المورد في الاخبار حيث كان في مقام بيان اصل التشريع لجواز التقليد، فلا اطلاق له من ناحية حجية آراء المجتهدين حتى من جهة تعارض آراء المفتين. إلّا ان يقال: انه حيث كان الغالب في آراء المفتين عدم التوافق في الفتوى، و الاجوبة تدل على جواز العمل على طبق آراء المفتين- فتكون الادلة الدالة على التشريع لجواز التقليد لها اطلاق يشمل مورد التعارض.

و الحاصل: ان تشريع صحة عمل المقلد على طبق رأي المجتهد بعد ان كان الغالب في مورد العمل على طبق فتوى المجتهد هو وجود المخالف له، يقتضي ان يكون الدليل الدال على مشروعية التقليد له اطلاق يشمل مورد المعارضة. و مثل ما

ص: 338

.....

______________________________

ذكرنا يأتي في الاختلاف في الاعلمية، بان يقال: انه حيث كان الغالب هو الاختلاف في الاعلمية فتشريع صحة العمل على طبق رأي المجتهد الذي يكون الغالب وجود من هو اعلم منه يقتضي ان يكون الدليل الدال على مشروعية تقليده له اطلاق يشمل مورد مخالفة الاعلم له.

و على كل فان الوجه عند المصنف في منع اطلاق الادلة الدالة على مشروعية اصل التقليد في شمولها لمورد اختلاف المفتين في الفتوى و في الاعلمية: هو كونها واردة في اصل المشروعية، و لا اطلاق لها و لا نظر الى مقام اختلاف المفتين في الفتوى و لا في الاعلمية. و الى هذا اشار بقوله: «لوضوح انها» أي لوضوح ان ادلة التقليد «انما تكون بصدد بيان اصل جواز» التقليد و «الاخذ بقول العالم» و ليس لها اطلاق من الجهتين المذكورتين لانها ليست بصدد البيان من كل جهة فهي «لا» بيان لها لحجية رأي المجتهد «في كل حال»، بل هي واردة لبيان اصل المشروعية «من غير تعرض لها اصلا لصورة معارضة» قول المفضول «بقول الفاضل كما هو شأن ساير الطرق و الامارات على ما لا يخفى» أي ان الشأن في الادلة الدالة على مشروعية اصل التقليد و حجية رأي المجتهد في حق المقلد بما هو طريق له الى الواقع هو الشأن في الادلة الدالة على اصل جعل حجية الطرق كالخبر الواحد مثلا فانها لا اطلاق لها تشمل صورة تعارض الخبرين ... هذا حاصل ما اراده المصنف في المناقشة في اطلاق ادلة جواز التقليد.

و يمكن منع الاطلاق بطريق آخر .. و توضيح ذلك: ان دلالة الاطلاق على الشمول لمورد المعارضة او للاختلاف في الاعلمية غير دلالة الادلة الخاصة على التخيير في مورد المعارضة او في مورد الاختلاف في الاعلمية، فان لازم شمول الاطلاق لمورد المعارضة او الاختلاف في الاعلمية كون رأي المجتهد حجة و ان خالفه قول غيره الاعلم منه، و هذه الدلالة غير دلالة الدليل الخاص على الاخذ برأي المجتهدين المختلفين فتوى و علما على نحو التخيير، فان المتحصل من دلالة الاطلاق

ص: 339

و دعوى السيرة على الاخذ بفتوى أحد المخالفين في الفتوى من دون فحص عن أعلميته مع العلم بأعلمية أحدهما، ممنوعة (1). و لا عسر في

______________________________

هو كون كل واحد منهم حجة سواء كان هناك غيره حجة ام لا، و جواز الاخذ برأي كل منهم سواء جاز الاخذ برأي غيره ام لا. بخلاف الدليل الدال على التخيير فانه انما يدل على الاخذ بقول احدهما على نحو التخيير، و لا مانع عقلا من حجية كل واحد منهما بنحو التخيير بناء على الطريقية. و اما حجية كل واحد منهما تعيينا فلا يصح بناء على الطريقية، لمحالية جعل الطريقين المتخالفين معا لحكم واحد واقعي، فشمول الاطلاق لكل واحد من المجتهدين المتخالفين في الفتوى غير معقول، فلا بد من رفع اليد عن الاطلاق.

و بعبارة اوضح: ان لازم شمول الاطلاق هو جعل كل واحد من الرأيين تعيينا، لان معنى ان هذا حجة- سواء كان غيره حجة ام لا- هو جعل الحجية له مع غض النظر عن غيره، و هذا غير معقول على الطريقية.

إلّا ان يقال: ان دلالة الدليل على حجية كل واحد منهم مع ان الغالب في المورد هو الاختلاف كاف في جواز تقليد غير الاعلم مع وجود الاعلم، مضافا الى ان لسان الدليل هو تجويز التقليد لا حجية رأي المجتهد- فلا مانع من دعوى الاطلاق. و لا تخلو هذه الاضافة من نظر، لان لازم جواز التقليد حجية رأي المقلد. و لكن لا يخفى ان دلالة الدليل على حجية كل واحد منهم- بناء على الموضوعية- لا مانع منه، و اما بناء على الطريقية فلا مناص من ان يكون المراد جعل كل واحد منهما حجة على نحو التخيير.

(1)

دعوى السيرة على الاخذ بفتوى احد المخالفين

هذا الدليل الثاني الذي استدل به لنفي الاصل المذكور المقتضي لتعين الاعلم عند اختلاف المجتهدين في الفتوى. كما ان الدليل الاول هو اطلاق ادلة التقليد، و قد عرفت منعه عند المصنف.

ص: 340

تقليد الاعلم، لا عليه لأخذ فتاويه من رسائله و كتبه، و لا لمقلديه لذلك أيضا، و ليس تشخيص الاعلمية بأشكل من تشخيص أصل الاجتهاد، مع أن قضية نفي العسر الاقتصار على موضع العسر، فيجب فيما لا يلزم منه عسر، فتأمل جيدا (1).

______________________________

و اما هذا الثاني، فحاصله: دعوى السيرة من المتشرعة على الاخذ بفتوى احد المجتهدين المتخالفين في الفتوى من دون فحص عن الاعلم مع العلم بأعلمية احدهما.

و لا يخفى ان هذه السيرة هي سيرة العوام من المتشرعة، لعدم معقولية اخذ احد المجتهدين فتوى الآخر للتقليد و العمل على طبقها. و لا يخفى ايضا ان سيرة المتشرعة الشاملة للعلماء مرجعها الى الاجماع العملي الكاشف عن رأي الامام عليه السّلام. و اما سيرة العوام فليست اجماعا عمليا- كما هو المصطلح- لفرض عدم معرفة العوام لرأي الامام عليه السّلام. و لكنه اذا ثبتت هذه السيرة و استمرارها الى زمان الامام عليه السّلام، و لم يردعهم الامام عليه السّلام كشفت عن رضائه بها و امضائه لها، و ان كان مستند العوام في سيرتهم شيئا غير معرفتهم لرأيه عليه السّلام، بل كان مستندهم غير ذلك كالعسر أو الغفلة عن حكم العقل بلزوم تقليد الاعلم و الفحص عنه.

و الجواب عن هذه الدعوى منع تحقق السيرة على ذلك، بل المشاهد من سيرة المتشرعة- فعلا- هو تقليد الاعلم و الفحص عن الاعلم بمجرد احتماله فضلا عن العلم الاجمالي به.

(1)

استلزام وجوب تقليد الأعلم للعسر و الجواب عنه

هذا هو الدليل الثالث، و حاصله: ان لزوم تقليد الاعلم- الذي هو مقتضى الاصل- مرفوع بادلة رفع العسر و الحرج عليه و على مقلديه: أما عليه فلان كون الاعلم هو المتعين للتقليد لازمه تبليغ فتاويه لجميع مقلديه في جميع البلاد، و هذا عسر عليه في زمان ما قبل الطباعة. و اما على مقلديه فلان لزوم رجوع جميع عوام الشيعة الى الاعلم مع تفرقهم في البلاد المتسعة الاطراف مستلزم للعسر عليهم من

ص: 341

.....

______________________________

جهة تحصيلهم لفتاويه، و مستلزم للعسر ايضا من جهة استلزامه تكليفهم بالفحص عنه المستلزم لأسفار طويلة شاقة. فهو من اظهر مصاديق العسر و الحرج المرفوع.

و اجاب عنه بجوابين:

الاول: انه لا عسر على المجتهد الاعلم في كونه مرجعا لجميع الشيعة لان تبليغ فتاويه يكون بنشر رسائله المتكفلة لفتاويه، و لا عسر عليه في نشر رسائله و كتبه و بثها في جميع اقطار الشيعة. و لا عسر ايضا على العوام في لزوم تقليدهم الاعلم و الفحص عنه، اما من حيث تحصيل فتاويه فبما عرفت من امكان تحصيلها بالاخذ من رسائله و كتبه، و اما من جهة الفحص عنه فلا عسر ايضا لامكان تحصيلهم ذلك بالمكاتبة من دون حاجة الى السفر بالسؤال من المعتمدين من اهل التمييز و الخبرة.

هذا اذا كان المراد من دعوى العسر على المقلدين ما ذكرنا.

و اما اذا كان المراد منها ان تشخيص الاعلمية بنفسه امر مما يعسر تحصيله على العوام كما هو ظاهر المتن ... فالجواب عنه: ان تشخيص الاعلمية ليس بأشكل من تحصيل نفس الاجتهاد، مع انه لم يدع احد عسر تحصيل اصل الاجتهاد على المقلدين.

و قد اشار الى هذا الجواب، اما عدم العسر على المجتهد فبقوله: «و لا عسر في تقليد الاعلم لا عليه لاخذ فتاويه من رسائله و كتبه». و اما عدم العسر على المقلدين فمن ناحية تحصيل فتوى الاعلم فاشار اليه بقوله: «و لا لمقلديه لذلك ايضا» أي لا عسر عليهم من ناحية تحصيل الفتاوي لما مر من امكان تحصيلها بالاخذ من كتبه و رسائله. و اشار الى عدم العسر من ناحية كون نفس تشخيص الاعلم فيه عسر بقوله: «و ليس تشخيص الاعلمية باشكل من تشخيص اصل الاجتهاد».

و اما الجواب الثاني عن دعوى العسر: فبأنه مع تسليم العسر فلازم ذلك الاقتصار على ما يوجب العسر، و اما تقليد الاعلم و الفحص عنه حيث لا يوجب العسر فلا يكون مرفوعا بادلة نفي العسر، لانه حيث لا يكون عسرا فلا يكون

ص: 342

و قد استدل للمنع أيضا بوجوه: أحدها نقل الاجماع على تعين تقليد الافضل.

ثانيها: الاخبار الدالة على ترجيحه مع المعارضة، كما في المقبولة و غيرها، أو على اختياره للحكم بين الناس، كما دل عليه المنقول عن أمير المؤمنين عليه السّلام اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك.

ثالثها: إن قول الافضل أقرب من غيره جزما، فيجب الاخذ به عند المعارضة عقلا (1).

______________________________

مشمولا لرفع ادلة نفي العسر و الحرج. و الى هذا الجواب اشار بقوله: «مع ان قضية نفي العسر» انما تقتضي «الاقتصار على موضع العسر» و حينئذ «فيجب فيما لا يلزم منه عسر».

(1)

ادلة وجوب تقليد الاعلم

قد ظهر من المصنف في قوله و هو الاقوى للاصل ان المقتضي للزوم تقليد الاعلم هو الاصل. و كما انه لا دليل على خلافه من دعوى الاطلاق و السيرة و العسر، كذلك لا دليل ايضا على لزوم تقليد الاعلم غير الاصل من الادلة التي ذكروها.

و قد اشار الى ادلة ثلاثة قد ادعي دلالتها على المنع عن تقليد غير الاعلم.

الاول: الاجماع المنقول على تعيين الافضل و لزوم اختصاص التقليد به، و اليه اشار بقوله: «احدها نقل الاجماع على تعين تقليد الافضل».

الثاني: ادلة الترجيح المتقدمة الدالة على تعين الافضل، و منها المقبولة بما تضمنت من انه عند المعارضة لا بد من تقديم الافقه، حيث ورد فيها الحكم ما حكم به اعدلهما و أفقههما. و مثلها ما ورد في غيرها كرواية الصدوق عن داود بن الحصين عن الصادق عليه السّلام (في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان بينهما عن قول أيهما يمضي الحكم، قال عليه السّلام: ينظر الى افقههما و أعلمهما بأحاديثنا)(1). و مثلهما ما ورد عن امير المؤمنين

ص: 343


1- 40. ( 1) من لا يحضره الفقيه: ج 3، ص 5- ح 17.

.....

______________________________

عليه السّلام في نهج البلاغة في عهده الذي كتبه لمالك الاشتر لما ولاه مصر و قد جاء فيه:

(اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك)(1).

و لا يخفى ان المستفاد من المقبولة و رواية الصدوق هو تقديم قول الاعلم عند المعارضة، لقوله عليه السّلام في المقبولة الحكم ما حكم به افقههما، و لقوله عليه السّلام في رواية الصدوق: ينظر الى افقههما و اعلمهما باحاديثنا. و المستفاد مما ورد عن امير المؤمنين عليه السّلام: هو لزوم تقديم الاعلم للحكم بين الناس، و هو الوارد في عهده الى مالك حيث قال فيه: و اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك، و مرجعه الى لزوم تعيين الاعلم لاخذ الحكم منه، و لزوم تعيينه لاخذ الحكم يدل على انه هو المتعين للتقليد و اخذ الفتوى منه. و الخبران المتقدمان حيث دلا على ان النافذ هو حكم الاعلم فهما ايضا يدلان بالملازمة على ان الاعلم هو المتعين و إلّا لما اختص النفوذ بحكم الاعلم دون حكم غير الاعلم. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «ثانيها الاخبار الدالة على ترجيحه» أي على ترجيح الاعلم «مع المعارضة كما في المقبولة و غيرها» كرواية الصدوق (قدس سره)، و مثلهما ما دل على لزوم تقديم الاعلم للحكم، و هو ما ورد عن امير المؤمنين عليه السّلام، و اليه اشار بقوله: «او على اختياره» أي ما كان دالا على لزوم اختيار الاعلم «للحكم بين الناس كما دل عليه المنقول عن امير المؤمنين عليه السّلام» في عهده لمالك (ره) «اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك».

الثالث: انه بناء على الطريقية لا بد من تقديم الاعلم، لان رأيه مع فرض اعلميته يكون اقرب الى الواقع من رأي غير الاعلم، و لما كان رأي الاعلم و غير الاعلم طريقين الى الواقع، بناء على الطريقية- فلا محالة يلزم تقديم الاعلم عند حصول التعارض بينهما بفرض اختلافهما في الفتوى، لان رأي الاعلم اقرب الى

ص: 344


1- 41. ( 1) نهج البلاغة( فيض الاسلام) ص 993.

و لا يخفى ضعفها: أما الاول: فلقوة احتمال أن يكون وجه القول بالتعيين للكل أو الجل هو الاصل، فلا مجال لتحصيل الاجماع مع الظفر بالاتفاق، فيكون نقله موهونا، مع عدم حجية نقله و لو مع عدم وهنه (1).

و أما الثاني: فلان الترجيح مع المعارضة في مقام الحكومة، لاجل رفع الخصومة التي لا تكاد ترتفع إلا به، لا يستلزم الترجيح في مقام الفتوى، كما لا يخفى (2).

______________________________

الواقع من غير الاعلم. و الى هذا اشار بقوله: «ان قول الافضل اقرب من غيره جزما» بناء على الطريقية «فيجب الاخذ به عند المعارضة عقلا» لوضوح حكم العقل بان المناط في الطريقية على الأقرب، و بداهة كون الاعلم رأيه اقرب الى الواقع من رأي غير الاعلم، فالكبرى عقلية و الصغرى مسلمة بالوجدان.

(1) حاصل الجواب عن الاول- و هو دعوى الاجماع- جوابان: الاول: انه محتمل المدرك، لقوة احتمال كون وجه القول بتعيين الاعلم هو الاصل المتقدم.

و الثاني: انه اجماع منقول، و قد مر في مبحث الاجماع عدم حجية الاجماع المنقول.

و قد اشار الى الجواب الاول بقوله: «فلقوة احتمال ان يكون ... الى آخر الجملة». و اشار الى الجواب الثاني بقوله: «مع عدم حجية نقله» أي مع عدم حجية الاجماع المنقول «و لو مع عدم وهنه» باحتمال المدرك.

(2) حاصل الجواب عن الدليل الثاني و هو الاخبار الثلاثة: اما عن المقبولة و خبر الصدوق فلانهما واردان في مقام فصل الحكم، و من الواضح ان فصل الحكم بعد اختلاف الحكمين في حكمهما لا يكون إلّا بقول احدهما، فتعيين قول الاعلم في هذا المقام- أي مقام فصل الحكم- لا يستلزم تعيينه في مقام الفتوى لانه من القياس. و اما عن الخبر الثالث فهو و ان كان دالا على تعيين الاعلم للحكم ابتداء لا عند

ص: 345

و أما الثالث: فممنوع صغرى و كبرى، أما الصغرى فلاجل أن فتوى غير الافضل ربما يكون أقرب من فتواه، لموافقته لفتوى من هو أفضل منه ممن مات (1)، و لا يصغى إلى أن فتوى الافضل أقرب في نفسه، فإنه

______________________________

المعارضة، إلّا انه ايضا انما يدل على تعيينه لان يكون حكما بين الناس و مرجعا لفصل الحكومات لا لأجل الفتوى و العمل على طبق رأيه، فهو من القياس ايضا التعدي عن مورده الى مورد الفتوى، لاحتمال ان يكون تعيين الاعلم لان يكون حكما لاجل ان لا يكون للناس مورد الاعتراض لأجل الشغب.

و لا يخفى ان ما في المتن يختص بالجواب عن الخبرين لا عن الخبر الثالث، لان حاصله ان تقديم الاعلم الذي دلت عليه الاخبار هو ترجيح له عند المعارضة فلا يتعدى عنها الى الفتوى، و قد عرفت ان ذلك مورد الخبرين المقبولة و رواية الصدوق، دون الخبر الثالث. و عبارة المتن واضحة.

(1) قد عرفت ان الدليل الثالث مركب: من صغرى و هي كون رأي الاعلم اقرب الى الواقع من رأي غير الاعلم، و من كبرى و هي انه بناء على الطريقية ان ملاك الحجية هي القرب الى الواقع .. و قد اجاب عنهما معا: اما عن الصغرى فبان رأي الاعلم لا يكون دائما اقرب الى الواقع من رأي غير الاعلم، و ذلك واضح فيما اذا كان رأي غير الاعلم موافقا لرأي أعلم قد مات و كان ذلك الميت اعلم من هذا الحي، فان فتوى غير الاعلم تكون اقرب الى الواقع من فتوى هذا الاعلم الحي. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «اما الصغرى فلأجل ان فتوى غير الافضل ربما يكون اقرب» الى الواقع «من فتواه» أي من فتوى الافضل «لموافقته» أي لموافقة فتوى غير الافضل «لفتوى من هو افضل منه ممن مات» أي افضل من هذا الافضل الحي، و حيث ان هذا القائل يرى ان فتوى الافضل اقرب، ففتوى الافضل الميت من هذا الافضل الحي هي اقرب الى الواقع بحسب هذا المناط، و لما كان فتوى غير الافضل

ص: 346

لو سلم أنه كذلك إلا أنه ليس بصغرى لما ادعى عقلا من الكبرى، بداهة أن العقل لا يرى تفاوتا بين أن تكون الاقربية في الامارة لنفسها، أو لاجل موافقتها لامارة أخرى، كما لا يخفى (1).

______________________________

الحي موافقة لفتوى الافضل الميت، فلا محالة تكون فتوى غير الافضل الحي لهذه الموافقة اقرب الى الواقع من فتوى الافضل الحي.

(1) حاصله انه يمكن ان يقال: ان المدار في ترجيح الاعلم على غير الاعلم من جهة القرب بالنسبة الى نفس رأي الاعلم و غير الاعلم: أي ان المناط في كون رأي الاعلم اقرب من رأي غير الاعلم هو كونه في نفسه اقرب من رأي غير الاعلم لا بملاحظة ما هو خارج عنهما، لان المفروض هو الترجيح بينهما بملاحظة ان احدهما اقرب، و لذا لا اشكال في كون الاعلم من جهة الترجيح بالاقربية هو اقرب، و ان كان رأي غير الاعلم موافقا لظن من الظنون غير المعتبرة بحيث يكون بواسطة موافقته لهذا الظن غير المعتبر اقرب من رأي الاعلم.

و الجواب عنه: ان اذا كان المدار على الاقربية الى الواقع فلا وجه لملاحظة الاقربية من حيث نفس رأي الاعلم و رأى غير الاعلم، فان العقل لا يفرق بين الاقربية من حيث نفسهما و من حيث ما هو الخارج عنهما. و ما ذكر من انه لا اشكال في كون رأي الاعلم اقرب من حيث الترجيح على رأي غير الاعلم و ان كان رأي غير الاعلم موافقا لظن من الظنون غير المعتبرة، بحيث يكون بواسطته اقرب من رأي الاعلم- فغير مسلم، بل ينبغي حيث يكون المدار على الاقربية هو الترجيح لرأي غير الاعلم على رأي الاعلم. نعم الظن غير المعتبر بنفسه لا يتقدم على رأي الاعلم، لكنه يكون موجبا لترجيح رأي غير الاعلم. و السبب في ذلك ان الظن غير المعتبر حيث لم يكن حجة فلا يعقل ان يترجح على رأي الاعلم، لان المفروض هو الترجيح لاحدى الحجتين على الاخرى من حيث الاقربية، و الظن غير المعتبر ليس بحجة حتى يكون قربه الى الواقع مرجحا له. و هذا بخلاف رأي غير الاعلم فانه حيث

ص: 347

.....

______________________________

انه بنفسه حجة و موافقته للظن غير المعتبر موجبة لأقربيته، فلذا كان ملاك الأقربية المقتضية للترجيح فيه موجودا حيث يكون موافقا للظن غير المعتبر بحيث يكون اقرب الى الواقع من رأي الاعلم.

و الحاصل: ان العقل لا يفرق بين الاقربية من حيث نفس احد الرأيين و بين الاقربية من ناحية الامر الخارجي لاحدهما.

فظهر مما ذكرنا: ان رأي غير الاعلم الموافق لرأي الاعلم الميت الذي هو اعلم من الاعلم الحي موجب لكون رأي غير الاعلم اقرب من رأي الاعلم الحي. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و لا يصغي الى» ما يقال من «ان فتوى الافضل اقرب في نفسه» من فتوى غير الافضل، و المدار في الترجيح على اقربية احدهما من الآخر من حيث نفسهما لا من حيث ما هو خارج عنهما. و الوجه في عدم الاصغاء الى هذه الدعوى هو ما اشار اليه بقوله: «فانه لو سلم انه كذلك» و الاشارة بقوله لو سلم الى ما يأتي منه من المناقشة في الكبرى فحاصله: انه لو سلم كون المدار على الاقربية «إلّا انه» ليس فتوى الافضل اقرب من فتوى غير الافضل اذا كان فتوى غير الافضل موافقة لفتوى ميت هو افضل من الافضل الحي، لان العقل لا يفرق بين الاقربية الداخلية و الخارجية، ففتوى غير الافضل الموافقة لفتوى الميت الافضل «ليس بصغرى لما ادعى عقلا من الكبرى» و هي كون المدار على الاقربية الى الواقع بناء على الطريقية، بل فتوى غير الافضل الموافقة لفتوى الميت بحسب هذه الكبرى تكون اقرب من فتوى الافضل الحي، لان المفروض في هذا الدليل هو كون الاقربية الى الواقع هي المدار في ترجيح الافضل، و لا فرق عند العقل في حصول الاقربية الى الواقع بين الموجب للقرب سواء كان في نفس الشي ء او كان لأمر خارجي. و اشار الى الوجه في ذلك من انه ليس بصغرى لهذه الكبرى بقوله: «بداهة ان العقل لا يرى تفاوتا بين ان تكون الاقربية» الى الواقع «في الامارة لنفسها» كما في اقربية

ص: 348

و أما الكبرى فلان ملاك حجية قول الغير تعبدا و لو على نحو الطريقية، لم يعلم أنه القرب من الواقع، فلعله يكون ما هو في الافضل و غيره سيان، و لم يكن لزيادة القرب في أحدهما دخل أصلا. نعم لو كان تمام الملاك هو القرب، كما إذا كان حجة بنظر العقل، لتعين الاقرب قطعا (1)،

______________________________

فتوى الافضل فانها بنفسها اقرب من فتوى غير الافضل «او لاجل موافقتها لأمارة اخرى» كما في فتوى غير الافضل الموافقة لفتوى الميت الافضل.

(1) توضيح مناقشته في الكبرى: ان القرب الى الواقع ليس تمام الملاك للحجية حتى بناء على الطريقية، لانه لا اشكال- مثلا- في اشتراط حجية قول الراوي بالاسلام، و ربما يكون الراوي غير المسلم المأمون الكذب الذي يكون تنبهه و التفاته اقوى من المسلم يكون ما يرويه أقرب الى الواقع من رواية المسلم، و مع ذلك لا تكون روايته حجة و رواية المسلم حجة، و لا ينافي ذلك البناء على الطريقية، لان كونه طريقا الى الواقع و مقربا له ليس تمام المقتضي بل بعض المقتضي، فاذا كان القرب الى الواقع بعض المقتضي لا تتم الكبرى المذكورة، لان كون رأي الاعلم اقرب من رأي غير الاعلم اذا لم يكن تمام المقتضي فربما تكون هناك جهات اخرى لها دخل في جعل الحجية متوفرة في غير الاعلم، بحيث يكون بحسبها مساويا لرأي الاعلم، و على هذا لا تكون زيادة القرب الى الواقع في رأي الاعلم لها دخل اصلا في تعيينه للحجية دون رأي غير الاعلم.

نعم لو قلنا ان تمام الملاك للحجية هو القرب الى الواقع كما في الانسداد بناء على الحكومة او الكشف فان الظن انما يتعين دون الشك و الوهم لكونه اقرب، و حيث يكون القرب تمام الملاك تكون حينئذ الحجية بنظر العقل منحصرة في رأي الاعلم قطعا.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و اما الكبرى» و هي ان تمام الملاك للحجية هو القرب الى الواقع «ف» ممنوعة «لان ملاك حجية قول الغير تعبدا و لو على نحو

ص: 349

فافهم (1).

______________________________

الطريقية لم يعلم انه القرب من الواقع» على نحو يكون القرب تمام الملاك «فلعله يكون ما هو في الافضل و غيره سيان» من جهة الحجية لوجود جهات متوفرة في غير الافضل توجب كونه مساويا للافضل «و» على هذا «لم يكن لزيادة القرب» المتحققة «في احدهما» و هو الافضل «دخل اصلا» في تعيينه للحجية دون غير الافضل. و اشار الى انه لو قلنا ان القرب تمام الملاك لكان حينئذ قول الاعلم متعينا بقوله: «نعم لو كان تمام الملاك هو القرب كما اذا كان حجة بنظر العقل لتعين الاقرب قطعا» كما في الانسداد، فان العقل يحكم بتقديم الظن على الوهم و الشك لرجحانه عليهما، و المناط في رجحانه هو كونه اقرب منهما، و بهذا المناط لا بد من حكمه بتعين الافضل هنا فيما اذا كان الدليل على التقليد هو الانسداد، لوضوح كون رأي الافضل اقرب من رأي غير الافضل. و لكن قد عرفت ان الدليل على اصل التقليد للعامي هو كونه بديهيا فطريا، و في تقليد الاعلم هو الاصل العقلي الحاكم بلزوم تعيين محتمل التعيين، و بالنسبة الى المجتهد على اصل التقليد هو الاخبار كما مر من المصنف دعوى العلم الاجمالي بصدور بعضها، و ان ظهر منه التشكيك فيه في هذه المسألة، و بالنسبة الى تقليد الاعلم هو الاصل ايضا كما مر بيانه. و اما القرب الى الواقع فيكفي في المناقشة فيه المناقشة في صغراه كما عرفت.

(1) لعله اشارة الى انه بعد الاعتراف بان القرب بعض ما له الدخل في حجية قول الغير و ان لم يكن هو تمام العلة، إلّا انه لا بد على هذا من تقديم الافضل، لفرض كون الافضل و غير الافضل متساويين من كل جهة للحجية عدا كون الافضل له زيادة القرب، و من الواضح ان الرجحان و ان كان ببعض ما هو قوام الحجية لازمه ترجيح ما كان له هذا الرجحان، و لا يختص الرجحان بكون القرب تمام العلة للحجية. و اللّه العالم.

ص: 350

فصل اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي، و المعروف بين الاصحاب الاشتراط، و بين العامة عدمه، و هو خيرة الاخباريين و بعض المجتهدين من اصحابنا، و ربما نقل تفاصيل، منها التفصيل بين البدوي فيشترط و الاستمراري فلا يشترط، و المختار ما هو المعروف بين الاصحاب (1)، للشك في جواز تقليد الميت، و الاصل عدم جوازه، و لا مخرج عن هذا الاصل، إلا ما استدل به المجوز على الجواز من وجوه ضعيفة (2).

______________________________

(1)

الفصل الثامن تقليد الميت

اشارة

لا يخفى ان الاقوال المشار اليها في المتن ثلاثة: الاول: اشتراط الحياة مطلقا سواء في التقليد البدوي و الاستمراري. و هو مختار اكثر الاصوليين.

الثاني: عدم الاشتراط مطلقا لا في التقليد البدوي و لا في الاستمراري، فيجوز تقليد الميت ابتداء و يجوز البقاء على تقليده بعد موته. و هو مختار اصحابنا الاخباريين و العامة جميعا.

الثالث: التفصيل بين البدوي فلا يجوز، و بين الاستمراري و هو البقاء على تقليده بعد الموت فهو جائز. و هو مختار جماعة من المتأخرين.

و المختار للمصنف هو القول الاول: و هو اشتراط الحياة في المفتي ابتداء فلا يجوز تقليد الميت بدوا و لا استمرارا فلا يجوز البقاء على تقليد المجتهد بعد الموت. و لذا قال (قدس سره): «و المختار ما هو المعروف بين الاصحاب».

(2) لا يخفى ان المراد من الاصل هو اصالة عدم حجية قول شخص على شخص آخر، و هو اصالة عدم الحجية في كل ما شك في حجيته، و حيث يشك العامي في حجية قول الميت بالنسبة اليه فالاصل عدم حجيته، هذا حيث يلتفت العامي الى ان الاصل عدم الحجية. و اما غير الملتفت منهم فلا محالة انه يشك في براءة ذمته في تقليده للميت لاحتماله اشتراط الحياة في المجتهد الذي يجوز الرجوع اليه، و مع هذا

ص: 351

منها: استصحاب جواز تقليده في حال حياته، و لا يذهب عليك أنه لا مجال له، لعدم بقاء موضوعه عرفا، لعدم بقاء الرأي معه، فإنه متقوم بالحياة بنظر العرف، و إن لم يكن كذلك واقعا، حيث أن الموت عند أهله موجب لانعدام الميت و رأيه (1)، و لا ينافي ذلك صحة استصحاب

______________________________

الاحتمال لا بد له مما يقطع ببراءة ذمته فيه فيتعين عليه تقليد الحي لانه مبرئ لذمته قطعا.

(1)

ادلة جواز تقليد الميت و مناقشة المصنف (قده) فيها

توضيحه: ان المصنف جعل الكلام في مقامين: الاول: في التقليد الابتدائي.

الثاني: في التقليد الاستمراري و هو البقاء على تقليده بعد الموت. فانه و ان لم يذكر هنا انه في التقليد الابتدائي إلّا ان قوله بعد و اما الاستمراري مما يدل على ان الكلام فعلا في التقليد الابتدائي.

و حيث عرفت ان الاصل الاولي فيما شك في حجيته و عدم حجيته هو لزوم تقليد الحي- فقد استدل على الخروج عن هذا الاصل الاولي المقتضي لعدم جواز الرجوع ابتداء الى المجتهد الميت بوجوه:

منها الاستصحاب: فانه لو تم لدل على صحة تقليد الميت، فيكون صحة تقليد الميت- الذي كان الاصل الاولي يقتضي عدم صحته- قد خرج عن هذا الاصل بواسطة الاستصحاب ... و تقريره يمكن ان يكون بوجوه ثلاثة:

الاول: استصحاب صحة الرجوع الى هذا المجتهد الميت لما كان حيا، فانه لما كان حيا كان يصح تقليده و الرجوع اليه، و بعد موته يشك في هذه الصحة فتستصحب.

و الجواب عنه: انه لا بد في المستصحب ان يكون مجعولا شرعيا، و هذا الحكم عقلي لا شرعي، لما مر من ان التقليد الابتدائي دليله البداهة عند العقل فهو حكم عقلي.

الثاني: استصحاب الاحكام التي ادى اليها رأي هذا المجتهد في حال الحياة، فانه بعد موته يشك في بقائها فتستصحب.

ص: 352

.....

______________________________

و الجواب عنه سيأتي عند التكلم على التقليد الاستمراري.

الثالث: استصحاب حجية رأيه في حال الحياة لليقين بحجية رأيه في حال حياته، و بعد موته يشك في بقاء هذه الحجية فتستصحب.

و الى هذا الاستصحاب اشار المصنف بقوله: «منها» أي من الوجوه الضعيفة التي استدل بها على الخروج عن الاصل هنا «استصحاب جواز تقليده» أي استصحاب جواز تقليد الميت «في حال حياته». و الظاهر ان مراده من استصحاب جواز تقليده هو استصحاب حجية رأيه و قوله في حال حياته لليقين بحجية رأيه في حال حياته، و بعد موته يشك في بقاء هذه الحجية فتستصحب.

و الجواب عنه- الذي اشار اليه المصنف- هو انه لا مجال لهذا الاستصحاب، لان جريان الاستصحاب لا بد فيه من بقاء الموضوع، و المحكم في بقاء الموضوع و عدمه هو العرف لا العقل و لا لسان الدليل كما تقدم تحقيقه في مبحث الاستصحاب. و قد تقدم هناك انه بين الموضوع بنظر العقل و بنظر العرف عموم من وجه، فقد يتصادقان، و قد يكون مرتفعا بنظر العقل و باقيا بنظر العرف، و قد يكون باقيا بنظر العقل و مرتفعا بنظر العرف. و من موارد الاخير مقامنا، فان الموضوع و هو رأي المجتهد مما يرى العرف ارتفاعه بالموت و ان كان باقيا بنظر العقل، اذ الموت لا يوجب إلّا انتقال النفس من هذا البدن الى عالم المثال، و تقوم الرأي ببقاء النفس لا بالجسد، إلّا ان العرف يرى انعدام الموضوع بالموت. و حيث انه هو المرجع في بقاء الموضوع و عدمه في جريان الاستصحاب، فلا مجال لجريان الاستصحاب هنا لحجية رأي المجتهد بعد الموت لانعدام الرأي بنظر العرف عند الموت، لان الحياة بنظر العرف مما يتقوم بها رأي المجتهد و بنظرهم انه بالموت ينعدم الميت و رأيه.

و الى هذا اشار بقوله: «و لا يذهب عليك انه لا مجال له» أي لا مجال للاستصحاب «لعدم بقاء موضوعه عرفا لعدم بقاء الرأي معه» أي مع الموت «فانه متقوم بالحياة بنظر العرف و ان لم يكن كذلك واقعا» عند العقل لبقاء النفس واقعا

ص: 353

بعض أحكام حال حياته، كطهارته و نجاسته و جواز نظر زوجته إليه، فإن ذلك إنما يكون فيما لا يتقوم بحياته عرفا بحسبان بقائه ببدنه الباقي بعد موته، و إن احتمل أن يكون للحياة دخل في عروضه واقعا، و بقاء الرأي لا بد منه في جواز التقليد قطعا، و لذا لا يجوز التقليد فيما إذا تبدل الرأي أو ارتفع، لمرض أو هرم إجماعا.

و بالجملة يكون انتفاء الرأي بالموت بنظر العرف بانعدام موضوعه (1)، و يكون حشره في القيامة إنما هو من باب إعادة المعدوم، و إن لم يكن

______________________________

و عدم موتها و فنائها، و لكنه «حيث ان الموت عند اهله» أي اهل العرف «موجب لانعدام الميت و رأيه» و العرف هو المحكم في بقاء الموضوع فلا مجال لجريان استصحاب حجية رأيه حال الحياة.

(1) حاصله الاشارة الى توهم في المقام: و هو منع كون العرف يرى انعدام الموضوع بالموت، و ذلك لانه لا اشكال في جريان الاستصحاب في نظر العرف بعد الموت في طهارة الميت، فيما اذا شك في برده بالموت و عدم برده، و في جواز نظر زوجة الميت اليه فيما احتمل نجاسته و احتمل عدم جواز النظر اليه بعد الموت، فتستصحب طهارة الميت في حال حياته و جواز النظر اليه في حال حياته. و حيث ان جريان الاستصحاب لا بد فيه من بقاء الموضوع بنظر العرف، و قد فرض جريان الاستصحاب بنظر العرف في طهارة الميت و جواز النظر اليه، فيكشف ذلك عن بقاء الموضوع بنظر العرف بعد الموت. و عليه فلا بد من الالتزام باستصحاب حجية رأيه بعد الموت لبقاء الموضوع بنظر العرف.

و الجواب عن هذا التوهم: ان الموضوع مختلف، فان الموضوع لرأي المجتهد بنظر العرف هو نفسه لا جسده، و الموضوع للطهارة و النجاسة و لجواز النظر و عدمه بنظر العرف هو البدن، و حيث ان الموضوع للرأي هو النفس و العرف يرى عدم بقائها بالموت فالموضوع لهذا الحكم منتف بانتفاء موضوعه و لا مجال لجريان الاستصحاب

ص: 354

.....

______________________________

فيه، بخلاف الطهارة و النجاسة و جواز النظر و عدمه فان الموضوع له بنظر العرف هو البدن، و ان احتمل ان للحياة دخلا في الحكم بالطهارة و جواز النظر، و حيث ان الموضوع لهذين الحكمين هو البدن فلا مانع من جريان الاستصحاب بعد الموت.

و اما حجية الرأي فالموضوع لها بنظر العرف هي النفس، و لا بقاء لها بنظر العرف بعد الموت فلا مجال لجريان استصحابها. و من الواضح ان جريان الاستصحاب منوط ببقاء الموضوع في نظر العرف

و الحاصل: انه لا مانع من جريان الاستصحاب من جهة لحكم و عدم جريانه من ناحية حكم آخر. و الى هذا اشار بقوله: «و لا ينافي ذلك» أي لا ينافي ما ذكرنا من عدم جريان الاستصحاب في حجية الرأي بعد الموت لعدم بقاء الموضوع بنظر العرف «صحة استصحاب بعض أحكام حال حياته كطهارته و نجاسته و جواز نظر زوجته اليه» بعد موته. و الوجه في جريان هذا الاستصحاب و عدم جريان ذاك الاستصحاب ما اشار اليه بقوله: «فان ذلك انما يكون فيما لا يتقوم» الموضوع للحكم «بحياته عرفا» أي بنظر العرف «بحسبان بقائه» أي بحسبان بقاء الموضوع «ببدنه الباقي بعد موته و ان احتمل ان يكون للحياة دخل في عروضه واقعا» على البدن، لانه حيث لا يحتمل ان يكون للحياة دخل لا يكون هناك شك فلا حاجة الى الاستصحاب.

و الحاصل: ان الاستصحاب في الطهارة و النجاسة و جواز النظر يجري لبقاء ما هو الموضوع فيه بنظر العرف. و اما حجية الرأي فلا اشكال في ان متعلق الحجية هو الرأي، و حيث ان الرأي متقوم بالنفس لا بالبدن قطعا، و النفس بنظر العرف لا بقاء لها بعد الموت، فلذا لا يجري استصحاب حجية الرأي، لعدم بقاء الرأي بنظر العرف لارتفاعه بنظرهم بارتفاع ما يتقوم به الرأي و هو النفس. و اما انه لا بد من بقاء الرأي في جواز التقليد فالدليل عليه: هو انه لو تبدل رأي الحي برأي آخر فلا اشكال

ص: 355

كذلك حقيقة، لبقاء موضوعه، و هو النفس الناطقة الباقية حال الموت لتجرده، و قد عرفت في باب الاستصحاب أن المدار في بقاء الموضوع و عدمه هو العرف، فلا يجدي بقاء النفس عقلا في صحة الاستصحاب مع عدم مساعدة العرف عليه، و حسبان أهله أنها غير باقية و إنما تعاد يوم القيامة بعد انعدامها، فتأمل جيدا (1).

______________________________

في عدم حجية الرأي الاول، و ان الحجة فعلا هو الرأي الثاني الذي بنى عليه المجتهد أخيرا.

و يدل عليه ايضا: انه اذا ارتفع رأي المجتهد في حياته بسبب مرض او هرم فلا اشكال ايضا في ارتفاع الحجية بارتفاع رأي المجتهد، و لا يجوز للمقلد العمل على طبق رأيه السابق في مقام التبدل، و لا يجوز ايضا له العمل على طبق رأيه المرتفع بسبب الهرم او المرض. فاتضح ان بقاء رأي المجتهد مما لا بد منه قطعا في جواز تقليده و العمل على طبق ما ادى اليه رأيه، و حيث ان العرف في الموت يرى ارتفاع الرأي بانعدام النفس فيكون من باب ارتفاع الحكم بانعدام موضوعه فلا مجال لاستصحابه.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و بقاء الرأي لا بد منه في جواز التقليد قطعا» ... الى قوله «بانعدام موضوعه».

(1) حاصله- هو التأكيد لما ذكره من كون العرف يرى انعدام النفس بالموت- ان الحشر للناس يوم القيامة بنظر العرف هو من باب اعادة المعدوم لا من باب تبدل متعلق النفس من عالم الدنيا و هو عالم الكون و الفساد، فانها متعلقة في هذا العالم بالبدن المادي الذي له تبدلات من الطفولة الى حال الهرم، ثم ينتقل بعد الموت الى عالم البرزخ و فيه يكون متعلقها البدن المثالي، ثم تنتقل الى بدن يناسب الحشر.

و على كل فعلى هذا لا إعادة للنفس بل هي باقية لا فناء لها، و انما الفناء لمتعلقها بحسب هذه العوالم. فليس الحشر من اعادة المعدوم بالنسبة الى النفس الناطقة. هذا بحسب ما ثبت بالبرهان في محله.

ص: 356

لا يقال: نعم، الاعتقاد و الرأي و إن كان يزول بالموت لانعدام موضوعه، إلا إن حدوثه في حال حياته كاف في جواز تقليده في حال موته، كما هو الحال في الرواية (1).

______________________________

و اما بنظر العرف فالنفس حالها عندهم حال البدن و ان حشرها من باب اعادة المعدوم، و حيث كان المدار في الاستصحاب بقاء الموضوع بنظر العرف فلا مجال لجريان الاستصحاب في حجية الرأي، لارتفاعه بانعدام النفس بالموت بنظر العرف.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و يكون حشره في يوم القيامة انما هو من باب اعادة المعدوم و ان لم يكن كذلك حقيقة ل» قيام البرهان العقلي على «بقاء موضوعه و هو النفس الناطقة» ... الى آخر قوله «فتأمل جيدا».

(1) حاصله: ان التعبد برأي المجتهد و قوله كالتعبد برواية الراوي و قوله. و من الواضح ان حياة الراوي موضوع بنظر العرف حدوثا، لا حدوثا و بقاء، لبداهة التمسك بالرواية و ان مات الراوي. و مثله الحال في التعبد برأي المجتهد فان حياة المجتهد لها دخل في التعبد برأيه في جواز التقليد حدوثا لا حدوثا و بقاء، فموت المجتهد و ان انعدم به رأي المجتهد بنظر العرف لانعدام النفس بنظرهم، إلّا انه لما كان موضوعا للتعبد بجواز تقليده حدوثا لا بقاء فلا ينتفي التعبد بجواز تقليده.

و لا يخفى ان مقتضى هذا انه لا حاجة للاستصحاب لعدم الشك في حجية رأي المجتهد بعد الموت لان كونه حجة حدوثا لا فناء له، لوضوح ان حدوث الحادث بعد حدوثه لا زوال له فلا مجال للشك. إلّا ان يقال: ان كون الموضوع هو الحدوث دون البقاء لا ينافي احتمال دخالة الحياة لاحتمال دخالتها لا بنحو ان تكون مقومة للموضوع، بل بنحو تكون خارجة عن المقومية للموضوع بان تكون دخالتها بنحو الشرط، فانه له دخالة في ترتب الاثر و ان كان خارجا عن المقتضي للأثر، و يكون حال الحياة كحالها بالنسبة الى استصحاب الطهارة و النجاسة و جواز النظر الى

ص: 357

فإنه يقال: لا شبهة في أنه لا بد في جوازه من بقاء الرأي و الاعتقاد، و لذا لو زال بجنون و تبدل و نحوهما لما جاز قطعا، كما أشير إليه آنفا (1).

______________________________

الزوجة كما مر بيانه، و على هذا فلا مناص عن الحاجة الى الاستصحاب لاحتمال دخالة الحياة.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «نعم الاعتقاد و الرأي و ان كان يزول بالموت» في نظر العرف «لانعدام موضوعه» و هو النفس بالموت في نظرهم «إلّا ان» الرأي «حدوثه في حال حياته» هو الموضوع لجواز تقليده، و على هذا فحدوثه «كاف في جواز تقليده في حال موته كما هو الحال في الرواية» فان موت الراوي لا يضر بحجية روايته.

(1) و حاصله: ان الرأي بنظر العرف حدوثا و بقاء قد اخذ موضوعا للحجية، بخلاف قول الراوي فانه قد اخذ موضوعا للحجية حدوثا لا بقاء. و الحاصل: ان الموضوع بنظر العرف الرأي حدوثا و بقاء، و قول الراوي بنظرهم حدوثا لا بقاء.

و يدل على ذلك ان مرض الراوي و هرمه لا يضر بحجية روايته، بخلاف رأي المجتهد فان الاجماع قائم على انه مع زوال الرأي بمرض او تبدل تزول حجية رأيه. و هذا دليل واضح على ان الموضوعية في الرأي قد اخذت حدوثا و بقاء، بخلاف الموضوعية في الرواية فانها قد اخذت حدوثا لا بقاء.

فاتضح: ان جواز التقليد لا بد فيه من بقاء رأي المجتهد و بزواله يزول جواز التقليد، بخلاف حجية خبر الراوي فانه لا تزول بزوال الراوي فضلا عن زوال رأيه.

ثم ان الاجماع الذي استدل به المصنف سابقا و اشار اليه هنا ليس مراده منه حجية نفس الاجماع على المطلوب، بل المراد ان قيام الاجماع كاشف عن اختلاف الموضوع بنظر العرف.

و على كل فقد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «فانه يقال لا شبهة في انه لا بد في جوازه» أي لا بد في جواز التقليد «من بقاء الرأي و الاعتقاد» عند المجتهد «و لذا

ص: 358

هذا بالنسبة إلى التقليد الابتدائي.

و أما الاستمراري، فربما يقال بأنه قضية استصحاب الاحكام التي قلده فيها، فإن رأيه و إن كان مناطا لعروضها و حدوثها، إلا أنه عرفا من أسباب العروض لا من مقومات الموضوع و المعروض (1)، و لكنه لا يخفى

______________________________

لو زال» الرأي «بجنون و تبدل» بغيره «و نحوهما» كالهرم الذي يزول به رأي المجتهد «لما جاز» تقليده «قطعا كما اشير اليه آنفا» فيما تقدم، بخلاف قول الراوي فانه موضوع حدوثا لا بقاء، و لذا لا شبهة في بقاء حجيته مع هذه الامور كلها.

(1) بعد فراغه من الكلام في الاستصحاب في التقليد الابتدائي بعد الموت- و قد عرفت انه لا مجال له بالنسبة الى نفس حجية رأي المجتهد في حال حياته لعدم الموضوع بنظر العرف، و في نفس صحة تقليده في حال حياته لا مجال له ايضا لانه حكم عقلي لا شرعي- شرع في الكلام في التقليد الاستمراري و هو البقاء على تقليده بعد الموت، و حيث انه بعد الموت يشك في جواز البقاء فلا محالة لا بد من دليل يدل عليه. و الكلام فعلا في اقتضاء الاستصحاب له. و حيث عرفت الكلام في الاستصحاب من حيث صحة التقليد و من حجية الرأي فلا وجه للاعادة.

فالكلام الآن من حيث استصحاب الاحكام التي كانت منجزة على المقلد بسبب تقليده له في زمان حياته. و لا يخفى ان استصحاب الاحكام في التقليد الاستمراري من الاستصحاب التنجيزي لمنجزية الاحكام على المقلد بعد تقليده، و في التقليد الابتدائي يكون من الاستصحاب التعليقي. فما يجري من الكلام في استصحاب الاحكام في التقليد الاستمراري يجري عينا في التقليد الابتدائي من دون فرق بينهما، الا في التعليقية و التنجزية، و لذلك لم يتكلم هناك في هذا الاستصحاب، لان الكلام فيه هناك يكون مبنيا على صحة الاستصحاب التعليقي بخلافه هنا فانه تنجيزي، و لا اشكال فيه من هذه الجهة.

ص: 359

أنه لا يقين بالحكم شرعا سابقا، فإن جواز التقليد إن كان بحكم العقل و قضية الفطرة كما عرفت فواضح، فإنه لا يقتضي أزيد من تنجز ما أصابه من التكليف و العذر فيما أخطأ، و هو واضح.

______________________________

و على كل فغاية ما يمكن ان يقال في التقليد الاستمراري: ان استصحاب حجية نفس رأي المجتهد و ان كان لا يجري لعدم الموضوع بنظر العرف، إلّا ان الاحكام التي كانت منجزة على المقلد بسبب تقليده له لا مانع من جريان الاستصحاب فيها لليقين بها و الشك في ارتفاعها. و اما رأي المجتهد فهو بالنسبة اليها و ان كان هو الملاك و المناط في توجيهها بالنسبة الى المقلد، إلّا ان الراي بالنسبة اليها ليس من قبيل الموضوع بل الموضوع للاحكام متعلقاتها، و الرأي هو السبب في عروضها على موضوعتها بحسب نظر العرف. و اللازم في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع في القضية المشكوكة و المتيقنة. و اما احتمال كون العلة في الحدوث هي العلة في البقاء فلا يمنع من جريان الاستصحاب، بل هذا الاحتمال يكون سببا للشك في البقاء لان العرف لا يرى العلة لعروض الحكم على موضوعه من مقومات الموضوع، بل غايته انه يحتمل ان عروض الحكم على موضوعه كما هو منوط بالعلة حدوثا منوط بها بقاء، فيكون هذا هو السبب في الشك، فيجري الاستصحاب في الاحكام لليقين بها في حال الحياة و الشك في ارتفاعها بعد الموت.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و اما الاستمراري فربما يقال بانه قضية استصحاب الاحكام التي قلده فيها» في حال حياته فانها متيقنة سابقا مشكوكة لاحقا لاحتمال دخالة الحياة فيها. و لا يتأتى فيها الاشكال الذي مر في استصحاب حجية نفس الرأي «فان رأيه» أي ان رأي المجتهد بالنسبة الى الاحكام «و ان كان مناطا لعروضها و حدوثها إلّا انه عرفا» أي بحسب نظر العرف رأي المجتهد بالنسبة اليها «من اسباب العروض لا من مقومات الموضوع و المعروض» كما عرفت بيانه.

ص: 360

و إن كان بالنقل فكذلك، على ما هو التحقيق من أن قضية الحجية شرعا ليس إلا ذلك، لا إنشاء أحكام شرعية على طبق مؤداها، فلا مجال لاستصحاب ما قلده، لعدم القطع به سابقا (1)، إلا على ما

______________________________

(1) هذا هو الجواب عن هذا الاستصحاب. و توضيحه: ان الاستصحاب متقوم باليقين السابق و الشك اللاحق، فلا بد في استصحاب الاحكام من اليقين السابق بالحكم، و لا يقين بالحكم حتى يستصحب، لان التقليد ان كان للفطرة و الوجدان عقلا فالحجة على الحكم عقلية و هي المنجزية و المعذرية، و مرجع ذلك الى ان الرجوع الى الغير بحكم العقل منجز لو اصاب و عذر لو خالف. و ان كان التقليد للأدلة الشرعية المتقدمة الدالة على التقليد كمثل قوله عليه السّلام: فهم حجتي عليكم و انا حجة اللّه. فان قلنا بان المستفاد من الحجية- على الطريقية- هو جعل المنجزية و المعذرية أيضا إلّا انها بجعل ذلك شرعا و تعبدا كما هو مختار المصنف في جعل الحجية، او قلنا بان الحجية- على الطريقية- هو جعل الحكم المماثل الطريقي و لازمه جعل الحكم المماثل في حال الاصابة لا في حال الخطأ. و على كلا هذين المبنيين لا يقين بالحكم، بل على الاول ليس هناك حكم مجعول اصلا لا عند الاصابة و لا عند الخطأ، اما عند الاصابة فالحكم الموجود هو الحكم الواقعي و المجعول بالحجية ليس إلّا المنجزية، و اما عند الخطأ فلا حكم هناك لا واقعا لفرض الخطأ، و لا حكم تعبدا ايضا لفرض الخطا ايضا، و عند الخطأ لا حكم طريقي.

فاتضح- بناء على الطريقية- انه لا يقين بالحكم سابقا، بل ليس هناك إلّا احتمال الحكم الواقعي بناء على مسلك المصنف في جعل الحجية، و احتمال الحكم المماثل الطريقي بناء على المسلك الثاني في الطريقية. و حيث ان المفروض هو استصحاب الحكم و الاستصحاب متقوم باليقين السابق، فلا بد من كون متعلق اليقين هو الحكم، و لا يقين متعلق بالحكم بناء على الطريقية في جعل الحجية.

ص: 361

.....

______________________________

و قد اشار الى ذلك بقوله: «و لا يخفى انه لا يقين بالحكم شرعا سابقا» حتى يجري استصحاب الحكم في حال الحياة لما بعد الموت، و اذا كان لا يقين سابقا بالحكم فلا مجال لاستصحاب الحكم لتقومه باليقين و لا يقين بالحكم. و اشار الى الوجه في عدم اليقين السابق بالحكم بقوله: «فان جواز التقليد ان كان بحكم العقل و قضية الفطرة كما عرفت» في اول مبحث التقليد المتقدم «فواضح» لان حكم العقل ليس هو إلّا ان الرجوع الى المجتهد له ما للقطع من الآثار «فانه» بناء على كون التقليد بحكم العقل هو حكم العقل بان الرجوع الى المجتهد هو الحجة الفعلية بنظره بالنسبة الى المقلد، و الحجية الفعلية «لا يقتضي ازيد من تنجز ما اصابه» الرجوع الى الغير «من التكليف و العذر فيما اخطأ و هو واضح» أي ان هذا واضح اذا كان حجية الرجوع الى الغير غير مجعولة شرعا، بل كانت بحكم العقل «و ان كان» حجية الرجوع الى الغير «بالنقل» كما تدل عليه ادلة التقليد النقلية «فكذلك» ايضا «على ما هو التحقيق من ان قضية الحجية» المجعولة «شرعا ليست إلّا ذلك» أي ليست هي إلّا جعل المنجزية و المعذرية شرعا. و مثله الحال فيما اذا كانت الحجية المجعولة على الطريقية هي جعل الحكم المماثل الطريقي. و على كل منهما «لا» يكون المستفاد من دليل الحجية هو «انشاء أحكام شرعية على طبق مؤداها» أي مؤدى الطرق القائمة على الحكم سواء اصابت الطرق أم اخطأت كما هو مبنى الموضوعية في جعل الحجية للطرق «ف» اتضح مما ذكر انه «لا مجال لاستصحاب ما قلده» أي لا مجال لاستصحاب الحكم الذي قلد فيه، لان الاستصحاب لا بد في جريانه من اليقين بالمستصحب سابقا، و حيث ان المفروض ان المستصحب هو الحكم، فلا بد من اليقين السابق بالحكم، و قد عرفت انه لا يقين بالحكم فلا مجال لاستصحاب الحكم «لعدم القطع به سابقا».

ص: 362

تكلفنا في بعض تنبيهات الاستصحاب، فراجع (1)، و لا دليل على حجية

______________________________

(1) و هو التنبيه الثاني. و ملخص ما ذكره فيه: انه يجري الاستصحاب و ان كان لا يقين بالحكم، بتقريب ان المراد من اليقين المقوم للاستصحاب و المأخوذ ركنا في ادلة الاستصحاب ليس هو اليقين بما هو صفة للنفس، بل بما هو كاشف عن الثبوت واقعا. و عليه فالمستفاد من ادلة الاستصحاب جعل الملازمة بين ما ثبت واقعا سابقا، و بين ثبوته بقاء لاحقا: أي جعل الملازمة بين ثبوت الحكم واقعا سابقا، و بين ثبوته ظاهرا بقاء تعبدا. و اذا كان المستفاد من الاستصحاب جعل هذه الملازمة فيكون الحجة على الثبوت حجة على البقاء، لان الحجة على احد المتلازمين حجة على الآخر، و لا بد من ان يكون منجز الثبوت منجزا للبقاء لاجل هذا التلازم. و على هذا فلا حاجة في مقام الشك بقاء الى اليقين بالثبوت، بل نفس الحجة المنجزة للثبوت سابقا تكون حجة على الحكم الظاهري بقاء، لانه بعد جعل الملازمة بين الثبوت واقعا و الحكم الظاهري بقاء فنفس الحجة المنجزة القائمة على الثبوت تكون حجة على الحكم الظاهري بقاء عند الشك لاحقا، فلا حاجة في جريان الاستصحاب الى اليقين بالحكم سابقا، بل بناء على جعل الحجية في الطرق يجري الاستصحاب فيما اذا قامت الحجة على الثبوت لانها هي الحجة على الحكم الظاهري بقاء. ففي المقام و ان لم يجعل الحكم النفسي في مورد الامارة او في مورد التقليد كما هو مبنى الموضوعية، بل قلنا بجعل حجية الخبر او حجية الرجوع الى الغير، إلّا انه بعد ان قامت الحجة على الحكم بحسب رأي المجتهد المقلد في حال حياته، فنفس حجية الرجوع في حال الحياة تكون منجزة للحكم الواقعي، و منجز الثبوت هو منجز البقاء تعبدا .. هذا ملخص ما تكلفه في التنبيه الثاني من الاستصحاب.

و لعل السبب في كونه تكلفا هو ان المستفاد من ادلة الاستصحاب جعل الملازمة بين المثبت للحكم الواقعي و بين الحكم بالبقاء تعبدا، سواء كان المثبت للحكم يقينا او غير اليقين، فالملازمة بين المثبت للحكم الواقعي و بين الحكم بالبقاء، لا بين

ص: 363

رأيه السابق في اللاحق (1).

و أما بناء على ما هو المعروف بينهم، من كون قضية الحجية الشرعية جعل مثل ما أدت إليه من الاحكام الواقعية التكليفية أو الوضعية شرعا في الظاهر، فلاستصحاب ما قلده من الاحكام و إن كان مجال، بدعوى بقاء الموضوع عرفا، لاجل كون الرأي عند أهل العرف من أسباب العروض لا من مقومات المعروض (2).

______________________________

الثبوت الواقعي للحكم و الحكم بالبقاء تعبدا. و حيث ان المثبت هنا هو حجية رأي المجتهد، و رأي المجتهد بعد انعدامه بنظر العرف لا يكون منجزا للحكم بقاء، لان كونه منجزا للبقاء تعبدا يتوقف على بقاء الموضوع في القضيتين، و لا بقاء للموضوع كما عرفت.

(1) حاصله: انه بعد ان كان الاستصحاب- بناء على المختار له من جعل الحجية- لا مجرى له في نفس الحكم لعدم اليقين بالحكم، و بالنسبة الى نفس حجية رأي المجتهد في السابق لا مجرى له ايضا لعدم الموضوع بنظر العرف، فلا جريان للاستصحاب بناء على الطريقية، و لذا بعد ان نفى جريان الاستصحاب في الحكم عقبه بقوله:

«و لا دليل على حجية رأيه السابق في اللاحق».

(2) بعد ذكر عدم وجه جريان الاستصحاب على الطريقية في جعل الحجية لا في نفس الحكم و لا في حجية الرأي- تعرض لجريان الاستصحاب على الموضوعية.

و حاصله: انه بناء على الموضوعية المجعول هو الحكم النفسي على طبق ما ادى اليه الخبر، و على طبق ما ادى اليه رأي المجتهد، و رأي المجتهد بالنسبة الى الحكم ليس من قبيل الموضوع بل هو من قبيل العوارض بالنسبة الى الحكم لا من قبيل الموضوع بالنسبة اليه، و عند قيام رأي المجتهد على الحكم يجعل الحكم النفسي الظاهري على طبقه، و بعد تقليده يكون ذلك الحكم النفسي الظاهري فعليا بالنسبة الى المقلد، و يشك في ارتفاعه بعد موت المجتهد، فيستصحب لليقين السابق به و الشك اللاحق

ص: 364

إلا ان الإنصاف عدم كون الدعوى خالية عن الجزاف، فانه من المحتمل لو لا المقطوع ان الاحكام التقليدية عندهم أيضا ليست احكاما لموضوعاتها بقول مطلق بحيث عد من ارتفاع الحكم عندهم من موضوعه بسبب تبدل الرأي و نحوه، بل إنما كانت أحكاما لها بحسب رأيه بحيث عد من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عند التبدل، و مجرد احتمال ذلك يكفي في عدم صحة استصحابها لاعتبار إحراز بقاء الموضوع و لو عرفا، فتأمل جيدا (1).

______________________________

بسبب الموت لاحتمال دخالة الحياة، فلا مانع من جريان الاستصحاب على الموضوعية. و الى هذا اشار بقوله: «و اما بناء على ما هو المعروف بينهم من كون قضية الحجية الشرعية جعل مثل ما أدّت اليه من الاحكام الواقعية التكليفية» كالوجوب «او الوضعية شرعا» كالملكية في البيع «في الظاهر» و المراد من قوله في الظاهر هو حال الشك في الحكم الواقعي، و اما الحكم المجعول على طبق ما ادى اليه الطريق فهو حكم نفسي، و على هذا «فلاستصحاب ما قلده» فيه «من الاحكام» في حال الحياة «و ان كان له مجال بدعوى بقاء الموضوع» لان موضوع الحكم هو متعلقه دون الخبر القائم عليه او رأى المجتهد المؤدى له «لاجل كون الرأي عند اهل العرف من اسباب العروض» أي من اسباب عروض الحكم على موضوعه «لا من مقومات المعروض» و هو الموضوع.

(1) حاصله: منع كون رأي المجتهد من اسباب العروض، بل رأي المجتهد- بناء على الموضوعية- مما له دخالة في الموضوع، لان متعلق الحكم الواقعي كوجوب الجمعة او وجوب القصر و الاتمام و ان كان موضوعه هو الجمعة و القصر و الاتمام، إلّا ان الحكم النفسي الظاهري المستفاد من ادلة التقليد لم يكن فعليا بالنسبة الى المقلد من دون قيد، بل كان مقيدا بعنوان انه اتباع لرأي المجتهد.

ص: 365

.....

______________________________

و الحاصل: ان الحكم المجعول- بناء على الموضوعية في الطرق- هو وجوب الجمعة او القصر بعنوان كونه اتباعا لرأي المجتهد لا مطلقا، فرأي المجتهد له دخالة في جعل الحكم النفسي الظاهري للجمعة او القصر، و معنى هذا ان لراي المجتهد دخالة فيما هو موضوع الحكم، و ليس موضوع الحكم هو الجمعة او القصر من دون رأي قيد.

و الحاصل: انه فرق بين وجوب الجمعة و القصر الذي هو الحكم الواقعي فان تمام الموضوع لهما هو نفس الجمعة و القصر، و بين الوجوب المجعول على طبق رأي المجتهد، فان متعلقه و ان كان هو الجمعة و القصر إلّا انه ليس ذلك هو تمام الموضوع، بل هو وجوب الجمعة و القصر بما هو اتباع من المقلد لرأي المجتهد، فلرأي المجتهد دخالة في ما هو الموضوع. و يدل على دخالة رأي المجتهد انه عند تبدل رأي المجتهد يرتفع الحكم عندهم بارتفاع الرأي. و حيث يكون لرأي المجتهد دخالة فيما هو الموضوع لا جريان للاستصحاب، لما عرفت من كون رأي المجتهد مرتفعا بنظر العرف، فيكون الموت موجبا لارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه، لا موجبا للشك في الحكم مع بقاء موضوعه. و لا اقل من احتمال كون رأي المجتهد دخيلا في الموضوع و هو كاف في عدم جريان الاستصحاب، لانه لا بد في جريانه من احراز بقاء الموضوع، و مع احتمال عدم بقاء الموضوع لا يكون بقاء الموضوع محرزا فلا يجري الاستصحاب.

فاتضح مما ذكرنا: ان دعوى جريان استصحاب الحكم- بناء على الموضوعية، لان رأي المجتهد من اسباب العروض لا داخل في الموضوع- غير صحيحة. فلا مجرى للاستصحاب حتى بناء على الموضوعية في جعل الطرق. و لذا قال (قدس سره):

«إلّا ان الانصاف عدم كون الدعوى خالية عن الجزاف» أي ان دعوى كون رأي المجتهد من اسباب العروض لا دخيلة في المعروض- أي الموضوع- غير خالية عن الجزاف «فانه» لا اقل من كون دخالته في الموضوع «من المحتمل لو لا» ان ندعي ان

ص: 366

هذا كله مع إمكان دعوى انه اذا لم يجز البقاء على التقليد بعد زوال الرأي بسبب الهرم او المرض إجماعا لم يجز في حال الموت بنحو اولى قطعا (1)، فتأمل (2).

______________________________

دخالته من «المقطوع» به ل «أن الاحكام التقليدية عندهم ليست احكاما لموضوعاتها بقول مطلق» كما هو في الاحكام الواقعية «بحيث» يكون قد «عد» ارتفاعها «من ارتفاع الحكم عندهم من موضوعه بسبب تبدل الرأي و نحوه» من المرض و الهرم و قد عرفت انه ليس كذلك، و لذا قال: «بل انما كانت احكاما لها» أي انها أحكام لموضوعاتها بما هي مقيدة «بحسب رأيه بحيث عد من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عند التبدل و» مع التنزل عن القطع بكونها كذلك فان «مجرد احتمال ذلك» أي مجرد احتمال دخالة الرأي في ما هو الموضوع لتلك الاحكام «يكفي في عدم صحة استصحابها ل» وضوح لزوم «اعتبار احراز بقاء الموضوع و لو عرفا».

(1) حاصله الاستدلال بالأولوية على عدم جواز البقاء على تقليد المجتهد بعد الموت، بتقريب: انه لا اشكال عندهم في انه لا يجوز البقاء على رأي الحي الاول بعد تبدل رأيه، و لا اشكال ايضا في عدم جواز البقاء على تقليد الحي بعد اختلال رأيه بمرض او هرم، و اذا لم يجز البقاء على تقليده عند التبدل او الهرم فلا يجوز البقاء على تقليده عند الموت بطريق اولى و الوجه في الاولوية: ان المجتهد لا ينعدم كله بالتبدل او الهرم، بخلاف الموت فان المجتهد ينعدم كله بالموت، فاذا كان مع بقاء اكثره لا يجوز البقاء على تقليده، فمع عدم بقائه بكله لا يجوز تقليده بطريق اولى. و عبارة المتن واضحة.

(2) لعله اشارة الى منع الاولوية، فان الرأي بالتبدل و بالاختلال بالمرض او الهرم لا بقاء له حقيقة و عقلا، بخلاف الموت فانه لا بقاء له بحسب رأي العرف لا حقيقة و عقلا. و بقاء اكثره مع التبدل و الهرم لا يوجب الاولوية، مع ان الرأي غير باق

ص: 367

و منها: إطلاق الآيات الدالة على التقليد.

و فيه: مضافا الى ما أشرنا اليه من عدم دلالتها عليه- منع اطلاقها على تقدير دلالتها و إنما هو مسوق لبيان أصل تشريعه كما لا يخفى (1).

______________________________

حقيقة بالتبدل و الهرم، و هو باق حقيقة عقلا بالموت كما يدل على ذلك القرآن الكريم قال تبارك و تعالى: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ(1) و اللّه العالم.

(1) هذا هو الدليل الثاني الذي استدلوا به على جواز تقليد الميت الاستمراري.

و الآيات المشار اليها آية النفر و آية السؤال، و كيفية الاستدلال بهما هو الاستدلال باطلاقهما، بدعوى ان آية النفر قد دلت على حجية قول المنذر، و باطلاقه يدل على حجية قوله و ان مات لعدم تقييد حجيته بكونه ما دام حيا. و مثلها آية السؤال فانها قد دلت على حجية قول المسئول في مقام الجواب مطلقا غير مقيدة لحجيته بالحياة.

و قد اجاب عن هذا الاستدلال بجوابين:

الاول: انه لا دلالة لهما على التقليد حتى يكون لهما اطلاق من حيث الحياة و الموت. بل غاية ما يمكن ان يدعى هو دلالة آية النفر على حجية الخبر لا على حجية الرأي، لان المستفاد منها هو حجة قول المنذر في اخباره عما سمعه و شاهده. و اما آية السؤال فلا دلالة لها لا على حجية الخبر و لا على التقليد كما مر بيان ذلك. و الى هذا اشار بقوله: «و فيه مضافا الى ما اشرنا اليه من عدم دلالتها عليه» أي على اصل التقليد.

الثاني: انه على فرض تسليم دلالتهما على اصل التقليد لا اطلاق لهما، لانهما واردان في مقام تشريع اصل التقليد، لا في مقام بيان طوارئه من حيث الحياة و الموت. و الى هذا اشار بقوله: «منع اطلاقها» أي مضافا الى ما ذكرنا من عدم

ص: 368


1- 42. ( 1) ق: الآية 22.

و منه انقدح حال إطلاق ما دل من الروايات على التقليد، مع إمكان دعوى الانسباق الى حال الحياة فيها (1).

و منها: دعوى أنه لا دليل على التقليد إلا دليل الانسداد، و قضيته جواز تقليد الميت كالحي بلا تفاوت بينهما أصلا كما لا يخفى.

و فيه: انه لا يكاد تصل النوبة اليه، لما عرفت من دليل العقل و النقل عليه (2).

______________________________

الدلالة على اصل التقليد نمنع ان للآيات اطلاقا على جواز التقليد بعد الموت «على تقدير دلالتها» على اصل التقليد لان مساقها لغير الطوارئ من حيث الحياة و الموت «و انما هو مسوق لبيان اصل تشريعه» أي اصل تشريع التقليد لا للتقليد من حيث طوارئه.

(1) أي مما ذكرنا- من منع اطلاق الآيات من حيث الحياة و الموت- ينقدح انه لا مجال للاستدلال على صحة التقليد الاستمراري باطلاق الروايات الدالة على التقليد كقوله عليه السّلام: هم حجتي عليكم و انا حجة اللّه. بدعوى انها تدل على الرجوع في الحوادث الى رواة احاديثهم و هم حجة عليكم و ان ماتوا. و قد ظهر منع هذه الدعوى، لان الروايات قد وردت لمشروعية اصل التقليد، لا لبيان احواله و طوارئه.

هذا أولا.

و ثانيا: ان دعوى ان المنصرف من مثل قوله عليه السّلام- و عجل اللّه فرجه-: و اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا، هو الرجوع الى خصوص الاحياء فلا تشمل الاموات.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و منه انقدح حال اطلاق ما دل من الروايات على التقليد». و الى ما ذكره ثانيا اشار بقوله: «مع امكان دعوى الانسباق الى حال الحياة فيها».

(2) هذا هو الدليل الثالث على جواز التقليد الاستمراري. و حاصله: ان دليل التقليد هو دليل الانسداد لا غير، لعدم دلالة الآيات و الروايات عليه كما مرت

ص: 369

و منها: دعوى السيرة على البقاء، فإن المعلوم من أصحاب الائمة (عليهم السلام) عدم رجوعهم عما أخذوه تقليدا بعد موت المفتي.

و فيه: منع السيرة فيما هو محل الكلام، و أصحابهم (عليهم السلام) إنما لم يرجعوا عما أخذوه من الاحكام، لأجل أنهم غالبا إنما كانوا يأخذونها ممن ينقلها عنهم عليهم السلام، بلا واسطة أحد، او معها من

______________________________

المناقشة فيها. و مقدماته هي: العلم الاجمالي بثبوت التكاليف الفعلية، و انسداد باب العلم و العلمي على الجاهل، و عدم جواز الاهمال، و عدم امكان الاحتياط و لا الرجوع الى الاصول للعامي لعدم معرفته، و انحصار الحال على هذا بتقليده للغير لانه اقرب الامور بالنسبة اليه الى معرفة التكاليف الفعلية عليه.

و لا يخفى ان النتيجة على هذا هو حجية رأي المجتهد بالنسبة الى العامي من دون فرق بين الحي و الميت. و لا يخفى ايضا انه لو تم دليل الانسداد لدل على جواز تقليد الميت ابتداء ايضا، بل لدل ايضا على تعيين تقليد الميت فيما اذا كان اعلم من الحي لانه اقرب الى معرفة التكاليف الواقعية الفعلية.

و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «دعوى انه لا دليل على التقليد الا دليل الانسداد و قضيته جواز تقليد الميت كالحي بلا تفاوت بينهما اصلا» كما عرفت، بل ربما يتعين تقليد الميت.

و الجواب عنه منع المقدمة الثانية و هي انسداد باب العلم و العلمي، لما عرفت من انفتاح باب العلم و العلمي. اما انفتاح باب العلم الدال على التقليد فهو ما مرت الاشارة اليه: من انه من الامور البديهية الوجدانية. و اما انفتاح باب العلمي فهو الاخبار الدالة على التقليد التي قد مر بيانها. و الى هذا اشار بقوله: «و فيه انه لا يكاد تصل النوبة اليه» أي لا تصل النوبة الى دليل الانسداد «لما عرفت من دليل العقل و النقل عليه».

ص: 370

دون دخل رأي الناقل فيه أصلا، و هو ليس بتقليد كما لا يخفى (1)، و لم يعلم الى الآن حال من تعبد بقول غيره و رأيه أنه كان قد رجع او لم يرجع بعد موته.

و منها: غير ذلك مما لا يليق بأن يسطر او يذكر (2).

______________________________

(1) هذا هو الدليل الرابع على التقليد الاستمراري. و حاصله: دعوى السيرة على البقاء، بتقريب: ان سيرة المتشرعة هو البقاء على ما اخذوه من المجتهد في مقام التقليد بعد موته، و لم يعرف منهم الرجوع عما اخذوه من الحي بعد موته. و حيث ان هذه السيرة ممتدة الى زمان الائمة عليهم السّلام فهي كاشفة عن صحة البقاء على تقليد الميت شرعا.

و الجواب عنها: ان السيرة على البقاء على التقليد- و هو البقاء على ما اخذوه من الحي باعمال رأيه- ممنوعة، و انما سيرة المتشرعة على البقاء على ما اخذوه من الاحياء فيما رووه: أي ان السيرة قائمة على بقاء حجية ما يرويه الراوي بعد موته، لا على بقاء حجية ما يراه بحسب اعمال رأيه.

و قد اشار الى منع السيرة على البقاء في مقام التقليد بقوله: «و فيه منع السيرة فيما هو محل الكلام». و اشار الى ان السيرة انما هي على البقاء في مقام الرواية لا في التقليد بقوله: «و اصحابهم عليهم السّلام انما لم يرجعوا عما اخذوه من الاحكام» عن الاحياء بعد موتهم «لاجل انهم غالبا انما كانوا يأخذونها» أي انما يأخذون الاحكام «ممن ينقلها عنهم عليهم السّلام بلا واسطة احد او معها» أي أو مع الواسطة «من دون دخل رأي الناقل فيه» أي فيما ينقله «اصلا و هو ليس بتقليد» بل مرجعه الى حجية الرواية بعد موت الراوي، لا الى حجية رأيه.

(2) هذا بيان لمنع قيام السيرة على البقاء في مقام التقليد. و حاصله: انه لم يعلم حال المقلدين من انهم رجعوا او لم يرجعوا عن تقليدهم بعد موت المجتهدين الذين قلدوهم. و عبارة المتن واضحة.

ص: 371

.....

______________________________

انتهى بحمد اللّه و منه و فضله الفراغ من هذا الشرح في يوم السبت الرابع من صفر الخير سنة الالف و الثلاثمائة و الاثنتين و الثمانين من الهجرة، على مهاجرها و اهل بيته افضل الصلاة و السلام، راجين منه تعالى التوفيق للموافاة على منهاجهم و ولائهم و اتباع هداهم صلوات اللّه و سلامه عليهم اجمعين.

ص: 372

الفهرس

ص: 373

ص: 374

الفهرس

المقصد الثامن: مبحث التعادل و التراجيح 1

الفصل الاول: تعريف التعارض 3

تعريف الحكومة 8

الجمع العرفي 12

تقدّم الامارات على الاصول 16

حمل الظاهر على النص أو الاظهر 27

صور تعارض الدليلين 30

الفصل الثاني: الاصل الاولي في المتعارضين بناء على الطريقية 35

حجية احدهما بنحو التخيير العقلي بينهما 36

حجية الخبر الموافق للواقع و عدم حجية الخبر الكاذب 37

حجية احدهما من غير تعيين 38

نفي الثالث بالمتعارضين 39

سقوط المتعارضين في الحجيّة الفعلية 40

مختار الشيخ الاعظم (قده) من التخيير مطلقا- بناء على السببية- و تعريض المصنف (قده) به من وجوه 44

قاعدة (الجمع مهما امكن اولى من الطرح) و الاشكال عليها 58

الفصل الثالث: القاعدة الثانوية في الخبرين المتعارضين 65

تأسيس الاصل 66

الأخبار العلاجية 69

أخبار التخيير 70

أخبار الوقوف 72

ص: 375

أخبار الاحتياط 73

أخبار الترجيح 74

الاقوال المشار اليها في الترجيح ثلاثة 75

تحقيق فساد الاقوال الثلاثة 76

مقبولة عمر بن حنظلة 76

مرفوعة زرارة 77

اشكالات المصنف في الاستدلال بهما على وجوب الترجيح 77

حكم سائر الاخبار المشتملة على المرجحات 85

دلالة اخبار موافقة الكتاب و مخالفة العامة على تمييز الحجة على اللاحجة 85

الاستدلال على وجوب الترجيح بوجوه أخر 92

الاجماع على الأخذ بأقوى الدليلين و منعه 92

الترجيح بحكم العقل و منعه 93

الإفتاء بالتخيير بين الخبرين المتعارضين 99

الفصل الرابع: الاقتصار على المرجحات المنصوصة و التعدي عنها 104

الاستدلال على التعدي بوجوه 104

مناقشة المصنف (قده) فيها 107

الفصل الخامس: اختصاص الاخبار العلاجية بغير موارد الجمع العرفي 125

إشكال المصنف (قده) على مسلك المشهور بوجوه ثلاثة 128

الفصل السادس: تمييز الظاهر عن الأظهر 136

ترجيح العموم على الاطلاق و التقييد على التخصيص 137

دوران الأمر بين التخصيص و النسخ 141

ص: 376

الفصل السابع: انقلاب النسبة و عدمه 154

وجهان في لزوم الانقلاب 160

الجواب عن الوجهين 162

لزوم تخصيص العام بكل واحد من الخصوصيات ما لم يلزم محذور الاستهجان 170

الفصل الثامن: رجوع جميع المرجحات الى الصدور 179

عدم مراعاة الترتيب بين المرجحات 185

ايراد المصنف (قده) على مراعاة الترتيب 188

ايراد المصنف (قده) على الشيخ الاعظم (قده) 195

برهانان للمحقق الرشتي (قده) على لزوم تقديم المرجح الجهتي على المرجح الصدوري 202

الفصل التاسع: المرجحات الخارجية 211

اقسام المرجح الخارجي 211

مذهب الشيخ الاعظم (قده) في لزوم التعدي و الترجيح بما يوجب الاقربية للمضمون- و مناقشة المصنف (قده) 214

الخاتمة/ في الاجتهاد و التقليد 229

الفصل الاول: تعريف الاجتهاد 231

الفصل الثاني: انقسام الاجتهاد الى مطلق و متجز 238

توهم عدم وقوع الاجتهاد المطلق و الجواب عنه 240

اشكال رجوع الغير الى المجتهد الذي انسد باب العلم و العلمي عليه 243

اشكال رجوع الجاهل الى المجتهد في مورد الاصول العقلية 252

نفوذ قضاء المجتهد المطلق الانفتاحي 255

ص: 377

الاشكال في نفوذ قضاء المجتهد الانسدادي على الحكومة 257

التجزي في الاجتهاد 263

استدلال المصنف (قده) على إمكانه 264

حجية رأي المتجزي لعمل نفسه 273

جواز تقليد المتجزي و رجوع الغير اليه 274

نفوذ قضاء المتجزي 276

الفصل الثالث: مبادئ الاجتهاد 277

الفصل الرابع: التخطئة و التصويب 282

الفصل الخامس: تبدّل رأي المجتهد 293

تفصيل صاحب الفصول بين تعلق الاجتهاد في نفس الحكم و بين كونه في متعلق الحكم 301

استدلال صاحب الفصول على لزوم عدم البطلان في المتعلقات 303

جواب المصنف (قده) عن استدلال صاحب الفصول 305

الفصل السادس: التقليد و بعض احكامه 309

المقام الاول: في معنى التقليد 309

المقام الثاني: الدليل على التقليد 312

الاخبار الدالة على جواز التقليد 321

الفصل السابع: تقليد الاعلم 329

مناقشة المصنف (قده) في ادلة التقليد بحيث تشمل مورد الاختلاف في الفتوى 336

دعوى السيرة على الاخذ بفتوى احد المخالفين 340

استلزام وجوب تقليد الأعلم للعسر و الجواب عنه 341

ص: 378

ادلة وجوب تقليد الاعلم 343

الفصل الثامن: تقليد الميت 351

ادلة جواز تقليد الميت و مناقشة المصنف (قده) فيها 352

الفهرس 373

آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

ص: 379

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.